أمينية الصنهاجي
عندما صمم دونكيشوت بحماس كبير على محاربة الأشرار ، امتشق سيفا خشبيا و اتجه صوب طواحين الهواء يواجهها بالشعر و الحماسة و العنفوان الكبير .. عذره كان الوهم .
الوهم الذي جعله يرى كل شيء على غير حقيقته، ليعطي شرعية لتصرفه الغريب و النبيل في نفس الآن.
هذه الدونكيشوطية تكررت بشكل فجائعي مع مبدعين كثر . كان شريف رزق أحد أبرزهم و أفصحهم في المواجهة.
فجائعية المواجهة أتت من زوال الوهم عنها .. فالمبدع الذي يعرف جدا ماذا يواجه ، و يرى بوضوح شديد حقيقة ما يدور حوله . و يعرف مسبقا نتائج مواجهته و مع ذلك يستمر و يصر على موقفه الذي اختاره بكل حماس و نبل ، هذا المبدع لم يتوقف عند عتبة عنفوان دونكيشوط ، بل تجاوزه إلى مرقى نبوة البلاغ ، حيث تتجلى الحقيقة بكل فظاعتها و يقابلها بالاستمرار رغم كل انتكاسات النتائج و استحالة الوصول .
شريف رزق كان من طينة هؤلاء الذين آمنوا و قرروا توطين إيمانهم بكل وسيلة ممكنة ، و حملوا سلاحهم لمواجهة العالم بحلمهم ، و الاصرار على تكريسه و تقديمه و توطينه كأبهى ما تكون الحقيقة ..
قدم شريف رزق قصيدة النثر جنسا قائما بذاته، منفصلا عن كل توصيف يحاول شرعنتها من خلال غيرها ..أو خارجا عنها . و واجه في ذلك جماعة المعارضين لهذا الجنس الأدبي ، سواء تقليدا أو جهلا أو قصورا.. و من جهة أخرى واجه الذين يغازلون قصيدة النثر ، و يحاولون الصاق شرعية طارئة عليها خارج النص ذاته إما بالاحالة إلى التراث أو غيره ..و من جهة ثالثة كان عليه رسم ملامحها بكل دقة و احتراز مبعدا عنها الاستسهال من متطفلين على الشعر و مدعين له .
كان انحيازه لقصيدة النثر انحيازا بناء و منتجا ، حيث أصدر دواوين شعرية في جنسها ، و ألف دراسات نقدية حولها ، و ألقى محاضرات حولها ، و شارك في ملتقيات عنها .. بل و أسس للملتقى العربي لقصيدة النثر . مما يجعل منه محاربا باسلا و مناضلا مستميتا في سبيل ما يؤمن به . و ليس مجرد مبدع حالم بلا مشروع حقيقي و منتج .
هذا ما جعل من اسم شريف رزق علامة فارقة في الدراسات النقدية المعاصرة و حضورا مميزا و مائزا ضمن الشعرية العربية الحديثة .
ككل الصادقين، الذين اختاروا الإخلاص و المثابرة ، بقي بعيدا عن الأضواء رغم كونه شق الساحة الثقافية مبكرا بإنتاج شعري مميز كان ديوانه الأول: ” عزلة الأنقاض 1994 “. و لم يلتفت إليه تكريما و اهتماما و تقديما إعلاميا حتى قبيل وفاته بقليل من خلال حوارات متنوعة معه . أو من خلال تكريمه بالمؤتمر العام لأدباء مصر سنه 2016 عن مجمل أعماله النقدية …
لكنه ككل العظماء .. ترك إرثا نقديا يعتبر من أرزن و أثبت ما كتب في الشعرية العربية المعاصرة . و حبا ناذرا في قلب كل من التقاه و تعامل معه ..
قالوا إن شريف رزق تنبأ بموته ؟.
هل نتنبأ بالموت ؟
إننا نعيشه حقيقة واضحة بكل صرامة طوال حياتنا ، و ما الحياة إلا تجنب مستمر للاعتراف
الشاعر يعترف.
يفصح يعرب ، ربما هذه فجيعته الكبرى ، أنه لا يستطيع أن يتغافل عن الرؤية . و لا يستطيع الصمت ببساطة .
ربما لهذا أيضا نجد لفظ ” الجثة ” مكررا بشكل جلي في أشعار شريف رزق . و يأتي في أغلبه مقرونا ب ” غيمة ”
إنه جثة تتوق للسفر غبر السماء .
جثة ترفض الانغماس في الطين الذي يكبلها و تشربته بكل ثقل الواقع و تفاصيله .
وهذا أيضا جعل الجثة، الجسد مجال اغتراب شاسع ..
ذاك الاغتراب الذي جعل كل المحيط عراء
العراء الذي يدفع قسرا للصراخ .
لكنه صراخ جثة تستمطر غيمة تسير.
جُثَّتِي تُلوِّحُ في العَرَاءِ
لِغَيمَةِ لا تَرَاهَا.
لكنها غيمة حاضرة يتحول من أجلها ويصير أشياء تسمو به و يرتفع عبرها .. ليتحد أخيرا بها و تصبح أناه :
مِثْلَ أيِّ جُثَّةٍ لِي
أتفجَّرُ في العَرَاءِ
أوْ أتَحَوَّلُ إلى نَخْلَةٍ
أوْ غَيْمَةٍ
أوْ مَقْبَرَةْ
جثة الأنا غيمة
لذلك كان العالم بكل تفاصيله مجرد عراء . تلك التفاصيل التي استمات شريف رزق في تفكيكها و التجول عبرها ، و استحضار ما مضى منها بدقة عالية. لم تقم إلا بنهش جثته التي تتوق للانطلاق و التحليق ..
الحَرَائقُ تنهشُ جُثَّتي
وَأنَا أُقهقِهُ في العَرَاءْ
أنها قعقعة من عرف و رأى و لمس الفجيعة و اختار السخرية منها بكل اصرار
و هي قهقهة من لم يتعلق بأي شيء يدينه ، بل كان بريئا ككل شاعر طفل ، لم يكن الشعر بالنسبة له سوى صرخة نفسه النقية الشفيفة،.
فمضى شريف رزق خفيفا ، بريئا .. نقيا .. كما يليق بـــ غيمة تجوب السماء .
بعيدًا حَتَّى عنْ جَسَدِي
أجْلِسُ على شَاطِئِ البَحْرِ وَحْدِي
بريئًا منْ كُلِّ مَا يَحْدُثُ.