foto© Mikael Lindstršm
شخصية ثقافية

سليم بركات: عرس الدم السوري

 لتحميل ملف سليم بركات

شخصية العدد ملف

 سليم بركات

التيه الكردي والفصاحة العربية

محمد مظلوم

وصف النقد العربي القديم شِعرَ أبي تمام بأنه خروج على «عمود الشعر» وبأنَّهُ مبتكر المعاني التي لم يسبقها إليه أحدٌ، بينما علّل الاستشراق ذلك بكون «حبيب بن أوس الطائي» ما هو سوى ابن «ثيودوس» اليوناني كما رأى مرجيليوث. وأنَّ هذه الأصول اليونانية

المفترضة لأبي تمَّام، كان لها تأثير في نزوعه نحو شحن الشعر العربي بجرعة تجديدية مختلفة، وإنْ جرى النظر إليها من قبل النقد المحافظ على أنها «بِدعة» ومن هنا أصبحت دراسة التأثيرات اليونانية أو الهلنستية في الشعر العربي ممكنة. وفي الواقع لا يمكن عزل الشعر العربي في عصوره المتأخرة نسبياً عن مجمل تأثيرات الثقافات المتأغرقة، كما أن من المهم التنويه إلى أن المشتغلين في علوم اللغة العربية، كان بينهم عدد لا يستهان به من غير العرب ويكفي أن نذكر سيبويه على سبيل المثل.

قد يكون هذا المدخل مناسباً، لمقاربة شعر سليم بركات، ومحاولة معرفة ما شأن هذا الكردي سليط الفصاحة العربية وسليل الأرومة الكردية؟ وهل بوسع مثل هذا التلاقح أن يجعل لغة الشعر أكثر تمسُّكاً بافتراقها عن اليومي المبذول والمأثور والمألوف لمصلحة الغيبي والقاموسي والغريب، لتغدو فصاحة مختلفة ولافتة وسط عُجمة عربية راهنة تشكو العيَّ في التعبير، والعجز عن الاجتراح، وتقع فريسة التكرار والتماثل.

لكن سليم بركات ليس «شاعر معانٍ» كأبي تمام، وإنما هو أقرب إلى شعر البديع والبيان والمحسنات اللفظية، وفصاحته ليست فصاحة النقاء والتقطير، وإنما يقودها شبق التيه الباحث في الوعرة والعطش، وتحشيد الصور على الصور ولهذا يجدِّد الأشياء المندثرة ويبتكر أسماء جديدة للسراب حتى يكاد يبدو ماء حقيقياً.

يصدر سليم بركات الجزء الثاني من «الديوان» عن دار المدى، وتسمية «الديوان» وليس الأعمال الكاملة، شيء لافت آخر، إذا شاع خلال العقود الأخيرة أن يصدر الشعراء مجاميع أشعارهم تحت عنوان «الأعمال الشعرية» وهي تسمية لم تكن معهودة وإنما المأثور تسمية «الديوان» والتي رافقت حتى تجارب الحداثة في إصدارات دار العودة خلال السبعينات والثمانينات، فكانت أشعار أحمد شوقي والرصافي، إلى جانب أعمال السياب وأدونيس والماغوط تحمل العنوان نفسه: «ديوان» وهكذا يعيد الكردي – وحسناً فعل -الهيبة للديوان باسمه العربي الأثير.

 مناخان

ثمة مناخان شعريان أساسيان يميزان «ديوان سليم بركات» وهما: محنة التيه الجماعي، والغزل. وفي أجواء هذين المناخين يمكن تلمَّس شيء من تضاريس قلقة للتجربة الشخصية. ففي «ترجمة البازلت» و «شعب الثالثة فجراً» ثمة تشابه ظاهر – وإن بدا التوتر اللغوي ونبرة الصوت أوضح في الأول – في كونهما نوعاً من استعادة السيرة والتجوال المفتوح في فضاء عوالم بعيدة موغلة بالتاريخ والقدم، من مرابع الطفولة حتى المنافي معتمداً على ضمير الجماعة وبسرد مسهب: «جمعوا الزبيبَ والبنفسجَ، مَعاً، في صُرَر الكُردِ. جمعوا شعاعاتِ الشَّمسِ، وغبارَ القَمَرِ، مختلطةً بملحٍ وشعيرٍ في صُررِ الكُردِ غذاءً للجيادِ، الَّتي رُقِّنتْ بالحنَّاء من أعْرَافِها حتَّى الحوافر» و«قَيْرَوَاناتٌ تحملُ متاعَهُمْ- متاعَ الظلَّ الفقيهِ، من كثيبٍ إلى كثيبٍ. لا أَدِلاء. لا جِهات. وجودٌ مراقيَ في الجمالِ الْمُنتَحِب عَلى أسوارِهمْ» جغرافيا التيه والمنفى، التي يصطحبنا لعبورها هي جغرافيا وعرة تماماً على صعيد اللغة والذاكرة، حيث تجتمع مدنٌ كبرى مع قرى صغيرة لا تكاد تذكر، كأنها بلا مكان ولا خريطة، لكنها تحضر بقوة في معجمه بتلك اللغة القاموسية المهجورة، ممزوجة بأسماء الأمكنة المنسية، ما يخلق كيمياء مضادة للعادي والمألوف، ولو أحصيت معجم الأمكنة في «ترجمة البازلت» على سبيل المثال لشكلت جغرافيا متناقضة عبر العصور من: بابل لأربيل لدوما لسمرقند لأنطاكيا وما بينها العشرات من الأسماء لأمكنة مجهولة، مجسدةً سيرة جماعية لتيه وعناء في رحلات مشقة واستذكارات لأبطال مهمَّشين في الذاكرة الشخصية ومنفيين عن التاريخ العام، ذلك أن الشقاق ليس خارجياً دائماً، والخدعة التي ترتهنهم ليست طارئة تماماً:

«إنهم قلبٌ نصفُهُ وشايةٌ بالنصفِ الآخَرِ، نصفٌ يحرِّضُ الذعرَ على نصفِهِ المطمئنّ، وَهُمْ قدَّروا أحوالَهمْ مَخْدوعينَ بالْمُمَاطلةِ الكُبرى، الَّتي حشَّدَتْهُمْ أوفياءَ كالجوعِ، وكما ينبغي للشيءِ، مُقدَّراً بأحوالِهِ، أنْ يُوصفَ، أجْرَوا وصفَهُمْ عَلَى كلِّ شيءٍ، مَخْدًوعينَ بالأزليّ».

من الواضح أن الجماعة هنا هي الجماعة العرقية، الكردية تحديداً، فهل يبدو سليم بركات هنا شاعراً إيدلوجياً كردياً ببلاغة عربيةٍ؟ أم هو «مثقف عضوي» وفق مفهوم غرامشي، يستعير صوت الجماعة، ويستعين بتلك المحنة تعبيراً عن قلق هويته الشخصية، وعن الشرخ الثقافي في الهوية الكلية؟ اللافت هنا – حدَّ المفارقة ربما – أنه يكتبُ سيرة هذه الجماعة المقهورة باللغة الأخرى! لغة الأمّة الأقوى، ولعلَّ في هذا تجسيداً مناسباً لفكرة التسامح والتعايش، ففي قصيدته المطولة (سوريا) يخرج من إطار الهوية العرقية (الضيقة) إلى فضاء الهوية الحضارية المفتوحة، فهو سوري وليس مجرد كردي، وهو في نهاية المطاف عروبي بمعنى أن فصاحته وإرثه اللغوي والأدبي عربيان صريحان. لكن الحكايات المستترة خلف هذه البلاغة تبقى محتفلةً برقصةٍ خنجر كردي لا بسيف عربي. هي دبكة جبلية وليس حداءً صحراوياً. وعلى قدر ما تفصح هذه الحكايات عن مديح للخسارة والتيه، فهي تنطوي كذلك على هجو مضمر ببلاغة ومجاز رفيعي المستوى.

 المجاز غايةً

ولا يبدو المجاز في شعر سليم بركات وسيلة بلاغية، إنما هو غاية، وقصيدته نموذج متقدَّم في فنِّ المجاز اللغوي المسترسل، هذا الاسترسال يخرج المجاز أحياناً من صيغته التي وصفها البلاغيون بأنها ممر للوصول إلى الحقيقة، وإلى الغاية والمعنى، ليجعله أشبه بدهليز متعدِّد المسارب وكلها تقود إلى تأويلات شتى تجعل القارئ مستغرقاً بالمجاز نفسه ومشغولاً به عن البحث عن معنى محدَّد. فيصبح أي بحث عن معنى آني للجملة ضرباً من المراهنة الخاسرة بل العبث، وكذا يصبح البحث عن (قصيدة) في هذا الهلام المتدفق عبثاً آخر، لكنه لا يكتب تجريداً خالصاً أيضاً، فعمله الشعري في كل كتاب من كتبه هو تعبير عن مناخ لا عن موضوع محدَّد، مناخ تتداخل فيه الموضوعات. وهكذا يمكن الحواس أن تضطرب وهي تحاول ملاحقة المعنى الداخلي للجمل الشعرية لدى بركات، ذلك أنَّ الإفراط في هذا التحشيد للتشبيهات والاستعارات الموسعة يجعل المعنى تحت طائلة الاشتباه، ويبقى عصياً على الإحاطة والتمثل الدقيقين، فصوره الشعرية مركَّبة في عالم المخيلة ومنه، ما يجعلها غير محسوسة، بل هي في هروب دائم من مديات الحواس، نحو عالم آخر، بلغة تخيلية، وهو بهذا لا يهتم بخلق عالم موازٍ للعالم المحسوس، وإنما تكاد عوالم صوره تبدو على قطيعة مقصودة مع المرئي والمتاح، ومن هنا لا يمكن القول مع شعر كهذا: افتحْ عينيك لترى، بل ربما العكس هو الصحيح: اغمضهما لترى.

وسليم بركات ليس شاعر أساطير، بمعنى إنه لا يقدم فهماً مفارقاً للأساطير بوصفها لا وعياً مشتركاً بين جماعة معينة، لكنه يحاول التأمل في ما حوله من علامات وإشارات وحيوات غرائبية، واختبار مدى قدرتها أن تغدو أساطير أخرى في النص. لذا فهو أميل إلى الفلكلور المحلي، والخرافات الساذجة، محاولاً أن يصنع من براءتها براعة.

فحتى في ديوانيه «آلهة» و «الأبواب كلها» يؤكد شغفه بصيغة الجمع، كتقنية فنية، أكثر مما يسعى إلى خلق ملحمة عبر هذا التعدُّد في الأسماء وفخامة المعمار والاستفاضة في الإنشاد، فيما تبقى لغته مشدودة نحو التهويمات المنبثقة من غيبيات عالم مطلق، وأقرب إلى الشطحات حيث تنبثق الجملة وتتداعى حرة على وفق (لا منطقها الخاص) وكما تشاء، مؤكداً بوضوح إنه شاعر إسهاب لا اختزال يقلِّب فكرةً واحدةً على أوجه عدَّة ويمضي بها حيث ما تغوي اللغة. وهذا ما يفعله حتى مع الغرض الشعري الأثير: الغزل في ديوانيه «شمال القلوب وغربها» و «الغزلية الكبرى» فمن المعتاد أن تميل لغة شعر الغزل إلى التوصيل، ذلك أن الغزل نشأ أساساً لتفهمه الحبيبة أولاً، وليس لكي يفهمه الشعراء، فهو وسيلة قبل كل شيء. لكن سليم بركات لا يلتفت كثيراً لهذه الفرضية، وفي كلا الديوانين تبحث عن صورة امرأة محدَّدة، عن هوية وصفات تقريبية، فلا تجدُها، بل تجد امرأةً بلا ملامح واضحة، كأنها ضائعة في النساء كموجة في بحر، كما أنَّ جمع الجنس للمرأة بـ «النساء» مجاز آخر، يشبه المجازات اللغوية المركبة المسترسلة في سائر شعره. المرأة إذن غير محسوسة لكنّها مركَّبة من صفات عدَّة لدى نساء كثيرات.

 

 

 

تشبيهات

وإذا ما استثنينا مفردة «أحبهنَّ» التي تتكرَّرُ في «الغزلية الكبرى» على دأبه في الدوران حول مفردة محورية يستأنف بها بداية جديدة أو يغلق نهاية ما، وباستثناء بعض المفردات الجسدية التي لا مناص عنها، فإن سائر تشبيهاته الأخرى ومجازاته لا تنسلخ عن طريقته المعهودة سواء في اختيار المفردة المعجمية أو في علاقتها بجارتها، في تراكب يقوم عادة على تتالي النعوت، والإضافات.

مفردة (أحبهن) وصيغة الجمع المعتادة، تؤكدان كذلك أنّ ما من حبيبة واحدة ووحيدة، فهو ليس من (الموحدين) في الحب بل يبدو وثنياً. وبهذه الوثنية في فن العشق يعلن سليم بركات انضمامه إلى محفل العشاق المتعدِّدين سواء في التراث العربي أو في الشعر العالمي عموماً. فهو يخاطب جماعة ويصف جماعة، مرَّةً بواو الجماعة ومرة بنون النسوة، فيما يظهر صوت الشاعر منفرداً في مواضع معينة غالباً ما تأتي في القسم الثاني، فيتحوَّل الصوت إلى نشيد غنائي بصوت المتكلم فتتصاعد الخطابية، وتتصاعد معها البلاغة:«مذهولونَ عَثَروا على الحبِّ قبلَ العُثورِ على قلوبِهمْ. ضَامِرونَ

حُبَّاً/مفتونونَ حُبَّاً/منكسرون

 حُبَّاً/مسلوخون حُبَّاً/ مضطربون

حُبَّاً/مذعورون حُبَّاً/ متبلبلون

 حُبَّاً/يائسون حُبَّاً/صاعدون

حُبَّاً/هابطون حُبَّاً/دائخون حُبَّاً/نازحون

حُبَّاً/حفاةٌ حُبَّاً….»

قصيدة سليم بركات تقوم على فرضية تبدو بسيطة، لكنها صعبة في الواقع، التقصد المسبق في خلق المفاجأة الصادمة بديلاً عن التلقائية التي قد تأتي بأثر عاديّ، ومن هنا فإنَّ شغفه بالغريب يخلق متعة تبادلية بينه في حالة الكتابة وبين المتلقي في حالة القراءة، ذلك أن العلاقة غير المألوفة بين المفردات الغريبة يتحتَّم أن تنشأ عنها شحنة إيحائية أكثر غرابة من المفردات نفسها، هذه الهجنة من تناسل الغريب بالغريب، وتتالي الإضافات والنعوت هو ما يخلق كيمياء جديدة بين المفردات المتباعدة ويصهرها في جملة غريبة الدلالة وحشية البيان ويجعل شعره مفارقاً للمألوف.

عن الحياة 2017

 

 

سليم بركات: عرس الدم السوري

 

محمد ناصر الدين*

خذها الحرب الناعسة طولا

خذ يد الشجاع المنكوب بظلم سلاحه،

أيها البلد خذ الشيّع الهمج،

وانتصارات المحنة زلات على ألسنة السبي فصيحا،

خذها مني: انحلال السماء.

لا آلهة إلا آلهة الصرخة.

لا سوى الغريب الجسارة في النحر،

 لا سوى الغريب وكيلا في نقل المدن حطاما إلى الآلهة الحطام

المآذن الدخيلة. القلوب الدخيلة.

المستعمرات المراقد جوفا،

والفتاوى المستعمرات. السماء الدخيلة،

أيها البلد. الذهب المنحور. الغيوم المنحورة،

أيها البلد. محاكاة الطرق للمذابح،

محاكاة القتلى للقتلى، والموتى للموت،

والبساتين المهجورة للبساتين المهجورة.

محاكاة الدوي المذهل للشكران يرفعه العدم مضطربا في التوضيح،

أيها البلد.

عرسٌ للدم في قلب اللغة، لو أردنا أن نستعير العنوان الأثير للشاعر الأندلسي الشهيد في قلب الأندلس، نحمله إلى كتاب سليم بركات،”سوريا” (دار المدى، 2015، 156صفحة من القطع المتوسط)،. “لا تسألوني بالضبط متقنا كالربط متقنا بعد الآن. الأعالي مخبلة مزقت صدرتها، والأسافل مخبلة كالأنحاء الخبل لا ترتجى بعد الآن”.  وكأن الشاعر صاحب “كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضا” وأيضا “هكذا أبعثر موسيسانا” و “للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك”  الذي قال يوما “وطني الحقيقي هو لغتي” ، والمهووس بالحفر قي قلب اللغة يعطي شكلا شعريا للخراب، مما يحيلنا إلى مقولة ديدرو الشهيرة: “رسم الأنقاض فيه الكثير من الشعر”، أو إلى “الإنسان الصعب” القطعة التي كتبها هوفنشتال بعد الحرب الأولى (١٩١٩) حيث الذكريات بأسرها تتحول إلى ديكور أو عمق مشهدي سينوغرافي يقطر الرعب على مراحل وحيث تكون اللغة نفسها عرضة للهجوم والفتك، بعكس اللغة الراسينية (نسبة إلى Racine) التي تحتفظ بأناقة ألفاظها في قلب المأساة. كيف يطور سليم بركات شعرية الأنقاض في كتابه؟ أطلال البلاد، رزم الألم، سقوط الكائنات: “تهويل. حضيض الموت وأوجه هذا، أيها البلد. اعتلال الأقداح بامتلائها هذا. الدم معلقا كبساط مغلول هذا. رياضيات الزفير هذا. وضوح النملة في شغلها، ووضوح الذعر في شغله هذا. واجب الكسر وحق الصدع.”  يضع سليم بركات أمام أعيننا تراجيديا كاملة قائمة على البقايا والكسور، لتصبح القصيدة المطلة أشبه بمتحف للضحايا ابتداء من الذات الضحية، وصولا إلى الجماعة والحياة التي تدفع دفعا إلى الموت، في بلد عليك أن “تكره الموتى فيه على دفن الأحياء”، وكأن الدليل في هذا المتحف يشير إلى الموت بكافة أسمائه،  من “آداب القتلى”، إلى طقوس الذبح، “والسحل على الكلمات؛ السحل على ذهب المعارك. السحل على ذهب الجنوب”، وكذلك تلك العلامات والتواريخ التي توضع على القطع الأثرية بعثرها سليم بركات من معجمه في الشمال السوري على الموت، من مكاييل القمح إلى”نحيب الصخرة التي تلمس النهر” حيث ينجز الذبح عبوره من السهل إلى الجبل. واذا كانت لعبة الشعر تقوم على هدم اللغة وبنائها، لا يبدو أن بركات يدلنا في النص على  ميكانيسم بنائي  بل إن معمار النص يصفّ الأشياء من الأعلى إلى الأسفل وبشكل بصري متوتر ليرتبها للسقوط المدوي إلى الأسفل، كسقوط طروادة وتلك المآسي العظيمة في التاريخ، في لغة جنائزية أقرب إلى المراثي الدينية الوثنية، ولكن بقد كبير من التوتر : “رعاف المشيئة أحمر على قميصي. أستجير: صونك، أيها الدموي الثأر، المذاهب الربا سدادا باللحم على الإيمان الدَين. أستجير، صونك أيها الرنم، صونك أيتها الحنجرة المثلومة. حشو كالرشى. كفاءة الثأر بالأساطير من الأساطير. كفاءة الغرور.حشو. ورم في البياض. الحفرة المثوى في بياض”، أو “خذ الحرية من زرقاء الديك، على أطلال الهيكل، أيها البلد الوثن الوثني. التماثيل الأعمدة معذبة رفعا للبحر على تيجان رؤوسها. لا ترد كلمة “سوريا” ولو لمرة واحدة في متن النص الذي يحملها كعنوان، وكذلك  لفظ دمشق أو الحواضر الكبيرة، أو حتى مسقط الرأس موسيسانا  بل يتعمد الشاعر الإشارة الي البلد، بالمعنى الثقافي والوجودي المرمي على مشرحة الموت: كلمة “البلد” هي اللازمة التي يعود إليها الشاعر كلما اكتملت دورة من الخراب ليعيد السرد إلى نقطة عالية يستأنف منها لعبة السقوط: “أيها البلد. الغزاة محسنون إلى الأنقاض بأعطيات العظام في مراقد يقينهم.” (ص ٣٨)، “أيها البلد. كثير أن يكون الواحد أبا. أما. كثير أن يكون إبنة، إبنا. كثير كثير أن يتبادلوا قلوبهم في طواف الرعب”. (ص ٤٩)، “طر كالجراد أيها البلد، واصدح كالفضي في القروش تتبادلها الأيدي.” (ص ١٢٠).   كذلك فإن المساحات البيضاء التي تتخلل الجمل البصرية هي أقرب إلى الأكفان الكثيرة التي يلبسها البلد “مباهاة بالأكفان قصارا، بالنزف القصير في الجرح القاتل”، أو إلى ذلك الصمت الضروري لأكتمال ميزان الموسيقى بينه وبين الكلام، لإعطاء مساحة من التأمل أو ربما دقائق الحداد الصغيرة التي نقف بها على أرواح الموتى، وأرواح المدن وبقايا الزمن. لا يمكننا الجزم ان كان نص سليم بركات ينتمي إلى الأدب السياسي، بمعنى أنه يندرج ضمن الدعاية السياسية والمناشير الحزبية التي تحرض طرفا في النزاع الدامي في سوريا على طرف، لأن صاحب السيرتين “الجندب الحديدي”(سيرة الطفولة) و “هاته عاليا، هات النفير على آخره” (سيرة الصبا)، لا  ينحاز إلا  للضحايا، حيث “تعويض الأمهات بسلال من لحوم أبنائهن، وتعويض الأرواح نفيا بالطبول. مواجع ترتقي أدراجا، وشهيق يقضم السفرجلة الكبرى في يد الهواء.” إذا كانت باريس قد خلقت روائيا مع بالزاك، ولندن مع ديكنز، ومدريد مع غالدوس، لعله يمكننا القول أن ذلك البلد الضالع في الموت يعرضه سليم بركات زاوية زاوية أمام أعين أولاده المشاركين في المقتلة، حيث يختم الشاعر عرس الدم بأدوات النفي القاتلة، وكأنها جهات الأرض الأربع حين يغلقها الموت: (لن تعيدني جدتي الغابة إلى ما كنته بعد الآن، لن يعيدني جدي الجبل إلى ما كنته بعد الآن، لن يعيدني إخوتي الطرق إلى ما كنته بعد الآن، لن تعيدني شقيقاتي الصخور ثقيلة في مجاري الأنهار إلى ما كنته بعد الآن.”                         *شاعر لبناني

 

مقتطفات من سيرة سليم بركات

  • سليم بركاتروائي وشاعر وأديب كردي سوري من مواليد عام 1951 في قرية موسيسانا التابعة لمدينة عامودا في ريف القامشلي، سوريا، قضى فترة الطفولة والشباب الأول في مدينته والتي كانت كافية ليتعرف على مفرداتها الثقافية بالإضافة إلى الثقافات المجاورة كـ الآشورية والأرمنية
  • انتقل عام 1970 إلى العاصمة دمشق ليدرس الأدب العربي ولكنه لم يستمر أكثر من سنة، فانتقل من هناك إلى بيروت حيث بقي فيها حتى عام 1982، ومن بعدها انتقل إلى قبرص ومن هناك بدأ بكتابة الرواية إلى جانب الشعر حيث عمل في قبرص بمجلة الكرمل مع الشاعر محمود درويش وفي عام 1999 انتقل إلى السويد.
  • أعمال سليم بركات:
  • كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارح أيضا.
  • هكذا أبعثر موسيسانا.
  • للغبار ، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك.
  • الجمهرات .
  • الكراكي.
  • بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح.
  • البازيار .
  • الديوان (مجموعات شعرية في مجلد واحد)
  • طيش الياقوت
  • المثاقيل
  • المجابهات، المواثيق الأجران، التصاريف، وغيرها.
  • المعجم
  • الأعمال الشعرية (مجموعات)
  • شعب الثالثة فجرا من الخميس الثالث
  • ترجمة البازلت
  • آلهة
  • شمال القلوب أو غربها
  • سوريا
  • الغزلية الكبرى
  • الأبواب كلها
  • السيل
  • عجرفة المتجانس

  • أعمال سليم بركات الروائية وغيرها

  • الجندب الحديدي (سيرة الطفولة).
  • هاته عاليا، هات النفير على آخره (سيرة الصبا)
  • فقهاء الظلام
  • كنيسة المحارب (يوميات)
  • أرواح هندسية
  • الريش
  • معسكرات الأبد
  • الفلكيون في ثلاثاء الموت: عبور البشروش.
  • الفلكيون في ثلاثاء الموت : الكون .
  • الفلكيون في ثلاثاء الموت : كبد ميلاؤس
  • أنقاض الأزل الثاني
  • الأقرباذين ( مقالات في علوم النظر)
  • الأختام والسديم
  • دلشاد ( فراسخ الخلود المهجورة )
  • كهوف هايدراهوداهوس
  • ثاريميس
  • موتى مبتدئون
  • السلالم الرملية
  • لوعة الأليف اللا موصوف المحير في صوت ساراماك
  • هياج الأوز
  • التعجيل في قروض النثر ( مقالات )
  • السماء شاغرة فوق أورشليم
  • السماء شاغرة فوق أورشليم 2
  • حورية الماء وبناتها
  • سجناء جبل أيايانو الشرقي
  • أقاليم الجن
  • سبايا سنجار

سليم بركات..اللغةُ كدلالةٍ على الغياب

جوان تتر

كأيّ كرديّ أبصرتُ وعشتُ ومازلتُ، ضحيَّة قمعٍ واستبدادٍ سلطويّ سوري، وكثيراً ما كان شخصٌ مفردٌ يعيد إليّ رونَق أن أكون كرديَّاً، ذلك من خلال ما كتبه، إنّه سليم بركات الذي حارب بلغته سلطة المنع السوريَّة، لا بل كلّ سلطةٍ منعت وتمنع، يعيدُنا سليم في كتابه الجديد (كما في كلّ كتابٍ جديد) إلى معنى أن تكون اللغة منفى ومكانَ إقامةٍ أصليّ للبشر.

يبدأ سليم بركات كعادته في كلّ ديوانُ نثريّ أو شعريّ بالغامض المطلق، ليصل في النهاية بالقارئ إلى الرّاهِن الواضح، كما يفعل في ديوانه الصادر لدى دار المدى والمعنوَن باسم “الغزليَّةُ الكبرى” التي لا تَبينُ من يغازل أو من المستهدَف لغةً إلّا بعد الإفراغ من القراءة، وليس هذا كلّ ما في الأمر!، فثمّة حضورٌ قويّ للَّغة المعتادة لسليم بركات بتشعبّاتها واختلاف دلالاتها اللامرئيّة مبدئيَّاً ومن ثمّ لتتوضَّح الأمور وفقاً لمنظور القارئ مع السير في عملية القراءة وفكّ الرموز لمقارنتها مع سابقاتها كنوعٍ من التحرّي الذكي، فقصيدة سليم تتميَّز بصعوبتها وتلافيفها الغامضة التي لا بدّ أن يكون القارئ معها متسلّحاً أو مُجهَّزاً بكامل عتاده الذهنيّ والشعوريّ ليكون بالإمكان كتابة ما يمكن تصوّره – معنىً- من المفردات المدوّنة ذهنيَّاً (ذهن القارئ أعني) وهذه المعضلة متوفّرة بكثرة وجديَّة ضمن الديوان/القصيدة :

      عاشقاتٌ هُنَّ،

             بقلوبٍ

              أو

              مِنْ

              دونها.

هكذا يبدو المشهدُ الشعريّ مكتوباً بطراوةٍ لغويَّة تكادُ تشبه أن تسمع أغنيةً لصيقةً بقلبك وأُذنك إلّا أنّك لا تفهم ما يقولهُ المؤدّي لجهلٍ ما في اللغة وتنسيقاتها المعقَّدة، لحنٌ شجيٌّ خيِّر يغتال كلّ ما هو شرير داخل النفس البشريَّة، الجهدُ ها هنا هو الأكثر وجوداً أو – من المفترض أن يكون موجوداً –  كي يصل القارئ إلى الفحوى الأساسيّة للنصّ من دون توريَةً أو ضبابيَّة لئلّا يُظلَم المدوَّنُ شعراً أو نثراً وليحصّل على تسلسلٍ للمعنى، ثمّة غبارٌ يعلو اللغةَ في “الغزليَّة الكبرى”، وما العنوان إلّا تماهٍ مع/ ودلالةً على/ رائحة الماضي لّلغة والتي تشبهُ رائحة الخشّب العتيق، ما من نصوصٍ في الديوان، فالكتابُ نصٌ متكاملٌ موحَّد متدرَّج المعنى وما على القارئ إلّا استخلاص المضمون خبرةً واستكمالاً واستناداً إلى ما قرأه من كتبٍ مختلفة للشاعر ومحاطاً بالأجواء السحريَّة التي تخصّ عالم سليم الكتابيّ، وبالغزارة اللغويَّة ذاتها يستوجب مجابهة الغامض.

 

المُعجم 

لا يكفّ سليم بركات طوال نهجه الكتابيّ عن إيراد معجمه اللغويّ-الشعوريّ الخاصّ به ليضمِّنه في كل ما يكتب، فهو على أهبّة الاستعداد لتحويل النصّ إلى متحف للمفردات وبطريقةٍ لا شعوريَّة مُنظّمة متماهية!، أو ربمّا بمعنى أوجز، المفردة مع سليم تتحوّل لتعود إلى أصلها المعجميّ بلا تعبٍ أو جهد، كل شيء مقتضَب ومحسوب بكثافة الاستخدام اللغوي للدقّة في التعبير، وفي “الغزليَّة الكبرى” تغدو المفردةُ شبيهةً بما سبق وأن كُتِب طوال أعوامٍ خَلَت وضمن تأريخٍ لغويّ ثريّ وفصاحَةٍ يخلو منها أغلبُ شعر اليوم ونثره! طريقةٌ خاصَّة في تركيب الجُمل الطويلة التي تشبه ممراتٍ طويلة محفوفة بمخاطر إساءة فهم المعنى ولكن ثمّة خطوط تبدو واهية توصِل إلى المعنى بسلاسَة، وفي أغلب الأحيان يخدعنا الكلام لنعيد القراءة أكثر من مرَّةً لنتوصَّل إلى الزُّبدَة المُتاحَة، هناك شيءٌ ما يشبهُ القنص في الفهم بالنسبة للقارئ اليقِظ، الأخير الذي لا بدّ وأن يَجهَد لفهم آليَّة التعبير المستخدمة من قبل سليم أو لنقل من قبل (النصّ ذاته معبِّراً عن سليم) لغويَّاً لقول الشيء المُراد:

 لم يرْأفْنَ، قَبْلاً، بالوسائدِ أفرَغْنَها من المعاركِ لم تظفرْ فيها خُيلاءُ النومِ بِمُلْكٍ،

   وأفرغْنَها من الحقول.

   أُحبهنَّ لم يرأَفنَ،

   ولن يرأفنَ،

   ويشكرنَ كلَّ 

              رقمٍ

              في

             عَدِّهنَّ

مناجمَ الريح.

وعلى امتداد صفحات القصيدة/الديوان /150/ صفحة يحاول سليم أن يمجِّد المرأة راسماً باللغة وعن اللغة التي هيَ ذاتها الأُنثى بكل تأكيد، محوّلاً النصّ إلى لوحةٍ تشكيليَّة متداخلة الخطوط والألوان، لكن دونما توضيحٍ، وبلغةٍ أشبه بسرد حَكائيّ طويل، ثمّة مزجٌ وخليط بينَ أساليب اللغات في التعبير، الشعرُ/سرداً وروايةً للغيب فيما يتعلُّق بالأنثى كقوَّةٍ قادرةٍ على المنح والعطاء، من هذا المُطلق اللامتناهي يفجّر سليم اللغة في القصيدة ويحلو له المُقام بينَ ثنايا ما يودُّ أن يقوله أو بالأحرى ما قاله:

   أُحبهنَّ شرساتٍ كاليقين في غيرِ محلِّه؛

   كاللقاء في غير محلِّه؛

   كالقلب في غير محله؛

   كالوقت في غير محله؛

   كالمرايا في غير محلِّها؛

   كالشمالِ

   في

   غيرِ

   محلِّه؛

الأُنثى موضوعاً للقصيدة

ما من شكّ في أنّ “الغزليَّة الكبرى” تختلف عن بقيَّة نصوص سليم بركات الشعريَّة من نواحٍ عدّة، ربمّا أهمها اختلاف المُخاطَب ضمن هذا النصّ، المخاطَبُ غير مجهول كما جرت العادة مع سليم في التدوين وتأريخ اللغةِ بكل تفرّعاتها ودلالاتها مستخدماً ما هو خاصّ وفريد، والملفتُ في “الغزليَّة الكبرى” هو التوازن في إيراد المتضادّات لغوياً، وهو إضافةٍ لذلك و– على الأرجح- من أكثر نتاجاته غزارَةً في إيضاحِ الأُنثى وتبدُّلاتها وكينوناتها:

أُحبهنَّ يثرثرنَ إنْ غَلَبْنَ،

   ويثرثرنَ إنْ غُلِبْنَ،

   متراشقاتٍ بالوساوسِ،

النصوصُ ذات النَّفَس الطويل متعبة ولكن في الغزليَّة السليميَّة تغدو المفردةُ مفتاح استيعاب الأُخرى لنلقى ذواتنا أمام صرحٍ شاهقٍ من المعاني وتدفقّها نحو شريان الفَهم والاندماج مع جَريَان النصّ واسقاطاته على الواقع في سياقٍ متّصل وجهدٍ لا بدّ منه، ومن جهةٍ أُخرى لا يخفي النصّ قدرته على استنطاق الرّاهن السياسيّ من خلال إيراد مقاطعَ وجملَ متكاملة عن المرأة الكرديَّة بشكلٍ غير مباشر وذلك من خلال مفردات كالــ (معسكرات) والـ (قتل)، كدلالاتٍ آنية بالنسبة لكرديٍّ كتب ويكتب عن الكرديَّة وليس باللغةِ الكرديَّة!!
اللغةُ كدلالةٍ على الغياب

ذكَرَ سليم أكثر من مرّة وفي أكثر من موضع أنّ اللغة هي هويّته ومنفاه، وإذن فالغيابُ مصير كلّ من يعتبر اللغةَ هويّة ومنفى، وعلى هذا الأساس دوّن سليم غيابه الشخصيّ ليكونَ حاضراً في الذهن الجمعيّ/، غائباً عن الوعي في نصوصه وعالمه الداخليّ، حاضراً في القول، مستخدماً اللغةَ يمضي الشاعر في تدوين الأزَل بكلام الغياب ومنتشياً يَثِبُ على أدراج اللغة، ومن دَرَجٍ إلى آخر يصل و يُوصِلُ إلى المعنى، “الغزليَّةُ الكبرى” دلالةُ الأعمى للوصول إلى مبتغاه عِبرَ اللغة واقتناص المفردة الأشدّ تأثيراً في العقل والعاطفةِ معاً، هذا دأب سليم بركات منذ (هاتِه عالياً..هات النفير على آخره) وامتداداً لكلّ ما كتبه طوال فترةٍ زمنيّة طويلة من الغياب والاختباء داخل كهوف اللغةِ والدلالة.

قالوا عن سليم بركات

شيركو بيكه س “سليم لا يشبه إلا سليما”

بول شاؤول “سليم بركات هو أكثر من حالم، هو صانع أحلام، وأكثر من لغوي، هو صانع لغات”

نزار قباني “مولانا ماذا أبقيت؟ إرفع يدك عن الشعر”

أدونيس “اللغة العربية في جيب هذا الشاعر الكردي “

محمود درويش “منذ غزا سليم بركات المشهد الشعري العربي، في أوائل السبعينات بشرنا بشعر جديد مختلف”

سعدي يوسف “ قلت مرة لسليم بركات إنك أعظم كردي بعد صلاح الدين “

عباس بيضون “ كان نص سليم بركات دائما فاتنا، وقد فتن بمثاله، وفتن بكماله”

قاسم حداد “ بركات نموذج يستعصي على القرائن، وهو جهد الجواهرجي، ودقة الجرتح، وكفاءة الإبرة “ سليم بركات، أجنحته الكثيرة تجعله سربا وحده”

كولالة نوري “ عليك بالصلوات… حين تدخل إليه”

يوسف بزي  “ حين يكتب سليم بركات فهو “ لا يقول” بل يفيض بغزارة وتدفق، فيحيط بنا ويغرقنافي تلك السيولة الهادرة، والمتتالية، من أول مفردة إلى آخر الكتاب”

شوقي بزيع “ الثابت أن سليم بركات ليس مقيما في اللغة فحسب، بل هو يبدو لشساعة قاموسه وثراء مفرداته واشتقاقاته، كأنه كائن لغوي قبل أي شيء آخر “

عبد العزيز كوكاس “ في نصوص سليم بركات نحس بقيمة النعجز اللغوي،ونتساءل كيف يمنح للغة نصوصه الإبداعية زهو الربيع، شموخ الجبال، صفاء الماء، هذا المسكون بالتحول، اكتشاف الغامض، زرع الفخاخ في طريق القراءة الكسولة “

د. أديب حسن محمد “ توسع القاموس الشعري لسليم بركات شاملا العديد من المفردات التي نفض عنها غبار القواميس، وأعاد إليها ألقها المفقود عبر توظيفها في قوالب مدهشة، جمعت بين حداثة المضمون وقاموسية المفردات المكونة له “

 

سليم بركات.. في عيون محمود درويش

فاطمة ياسين


الجمهور غير عادي. كثافة وصخب وازدحام وتدخين. الجميع أرادوا أن يروا محمود درويش عن قرب، فاشتعلوا ضجيجاً، سرعان ما توقف عند وصول الشاعر، ثم اندلع الشعر صافياً..

استعاد درويش في تلك الأمسية بعضاً من قديمه، فكرر في ذلك الخريف من عام ألفين وخمسة، مرتين، ما أنشده في صيف ألف وتسعمائة واثنين وثمانين، الأولى عندما غنى “حالة حصار”، ثم، قبل أن يغادر قدم أربعة قصائد لأربع شعراء، كانت الثالثة مقدمة إلى سليم بركات.. وعَبْرَ سليم بركات، رفيق الحصار في بيروت، أعادنا درويش ثانيةً إلى عام الحصار..

أراد محمود درويش أن يربط “حالة حصار” مع سليم بركات، مع حالة سورية فريدة عاشها الشمال السوري الذي أنتج سليم بركات.. كانت حينها ثورة الكورد لا تزال خبراً صحفياً وأدبياً وسياسياً لم يمض عليه أكثر من عام واحد.

امتعض رجال الأمن المرتدون ملابس مدنية، عند ذكر بركات، وتوقف قسم من الجمهور عن التصفيق، وتابع رجال الشرطة العسكرية التلويح بعصيهم بقلة اكتراث، ولكن محمود درويش الذي كان يعيش لحظة سليم بركات صاح حينها: “يتذكر الكردي حين أزوره… غده”.

بيروت ملفوفة بالكثير من الجنود الذين يحملون نوايا سيئة، محشوة بالـ “تي إن تي” شديد الانفجار. يطلقون القذائف فتتساقط حسب قانون عشوائي، وهناك، في وسط المدينة، وفي مكان مظلم ينخفض عن سطح الأرض، يشعر ساكنوه أنهم في أمان من تناثر الشظايا، ويتدثرون بالشعر المليء بالاستعارات، يتساءل محمود درويش وسط الفوضى ولزوجة المدينة:

“أين ديك الحي الفصيح؟، عاشق المسدسات واللغة واللحم المعلن؟”.(ذاكرة النسيان – محمود درويش).

كان سليم بركات “الديك الفصيح” قد نحى الشعر جانباً، وامتشق مسدساً، وخرج ليبحث عن الطعام والماء، سؤال درويش ملون بجلال أبوي وتحبب فخور، يحاول أن يخفي الخوف بتشابيه بليغه، الشوارع خائنة، وقد تتواطأ مع قناص، أو قد تستضيف قذيفة هائمة. يخاف محمود درويش على السارد والشاعر الممتزجين في شخص واحد مثل كوكتيل، وفي عبارة تعترض الخوف، وتحاول تبديد قلق الانتظار، يقول محمود درويش “أحببته منذ التقيته منذ سنين، منذ أن صفع الحياة الثقافية البيروتية بانفجار هائل، ينتقي كلماته وكأنه يتنتشلها من معركة بيروتية طازجة”..

يختلط الشعر بالنثر دون تخوم مشتركة، يطوي الكلمات على شكل جمل مطيعة:

قيل: هذا قبره

قيل: هذي الشاهدة

قيل: تلك الزهرات المجهدة، والعصافير التي حامت على القبر قليلاً، عمره،

غير أن العارفين، والأزاهير التي شيعت النعش، وأسراب السنونو

والغيوم الصاعدة..همهمت: لا…. كل قبر قبره. (الجمهرات 134)

يعرف سليم بركات كيف يحشد الطبيعة بكل مفرداتها، ويعرف كيف يخلق بين مكوناتها حواراً، لا يسرف في التواصيف، يكتفي بنهاية متراصة تبرر تمهيده القصير، بين اللغة الشعرية والمتن السردي يستسلم الورق لحفيف القلم بيد سليم بركات، لم يُحسن الكلام، ولكنه أجاد الحديث للورق. لديه رؤية متطرفة في نقد النقد، يجلس في المقهى متربصاً بصغار النقاد، تاركاً فسحة لفوهة المسدس أن تبقى مرئية كعنوان للنزق، مترع بالفصاحة على شكل ورق صغير الحجم، متراصف بهيئة مجموعات شعرية، يصدرها كالبيانات المتمردة، أو تعبيراً عن موقف مُتَحَدٍّ، لم يكن ضائعاً في بيروت ولا وحيداً.. لم تفاجئه الحرب الأهلية. عقد معاهدة تعايش مع المدينة المتربصة بمجموعاته الشعرية ونزوحه إلى محمود درويش.. محمود كان كريماً وعادلاً، أسبغ عليه لقب “سين” في رحلة النسيان، حيث كان جزءاً من لعبة الحصار.. كدونكيشوت، لم تخدعه حواسه، ولكنه كان فارساً بحصان حقيقي، حيث لا توجد طاحونة هواء واحدة، وكان الهواء موجوداً بكثرة لدرجة تكتم الأنفاس.

هناك في موسيسانا، حيث كان الطفل يصل سلك الكهرباء بالأبواب المعدنية، ليصعق كل من يلمسها، ويدحرج حجر الرحى فوق كلب الجيران، وعيناه على الأفق تريدان أن تطوياه لتريا ماذا يخفي، وأصابعه الصغيرة الحاذقة تربط الزوائد اللحمية المتدلية على مناقير الديوك الرومية (الجندب الحديدي– سيرة طفولة). لعله كان يبحث عن “ذات الجمال المنقطع النظير” التي تحدث عنها محمود درويش. النظرات الغضة والحلم الرشيق الذي يحوم بأيديولوجيا طفولية بحثاً عما وراء الأفق وذات جمال منقطع النظير.. فيما يقسم سليم بركات طفولته الموسيسانية إلى خمس حركات، كتضاريس السيمفونيات، في أولها يتعلم العنف، عنف سرقة الطباشير من قاعات الدرس بعد يوم عارم بالبَشر. كان يستقبل موكبا سياسيا مرموقا، و”ذات الجمال المنقطع النظير” تنتظر على الجانب الآخر من البحر المتوسط،لا يتوقف العنف في الفاصلة الثانية، بل يأخذ شكلاً مبتكراً يتجاوز سذاجة العبث بالديوك الرومية، إلى عبور الحدود الدولية، والمرور ببراعة بين الألغام والبقاء على قيد العنف المراهق، وفي انتظار الجمال المنقطع النظير يمر سليم بركات باسطورة “بوغي بريفا” العملاق الذي توسد التل ميتاً بعد جولات ملحمية مازال صداها يتردد في جنبات القرية، و”عابو” الأعمى بعينيه البيضاوَيْن وزوجتيه المتناقضتين يمارس عنفاً رخواً ليبقى حياً تقوده عصاه المجردة..

يجمع سليم بركات طفولته المبكرة التي يطفو على صفحتها شقاء الشمال البعيد، حيث القطار الوحيد هو الخيط الواصل مع المدنية ونظام الهجانة القاسي الذي احتل مكانا عنيدا، السيدة التي تشبه الرجال، في تنظيم التهريب؛ يجيد إعادة إنتاج طفولته بطريقته المضفورة بحبال شعرية ونثرية، مستحضراً كل تفصيل يضيف لوناً مميزاً على لوحة الموزاييك.

أعيدت الطفولة في موسيسانا بكامل تلافيفها، ووحداتها الجينية، ونثرت بخصوبة وحنان في التربة التي يجيد سليم بركات ترويضها على الورق. يختم محمود درويش سؤال الحصار بسؤال وجودي:

أين سليم بركات الآن؟ هل اصطادته الشظايا؟ أم اصطاد دجاجة؟، مخزن للبلاغة مثخن بالمفردات لا تصطاده الشظايا، فكيف للعمى الذي يقوده البارود أن يقع على الكائن الملتصق بالأرض الذي يحكي عن موسيسانا وكأنها شيئاً حميماً يلي الضفاف مباشرة، لعله اصطاد دجاجة؟..

لم تنته صلاحية النص القصير الذي كتبه محمود درويش عن “س” أو سليم بركات في ذاكرة النسيان، أُعيد له نسغه الحيوي بنص فيه روح محمود درويش الشاعرة والمعجبة، استعمل مجازاً مرسلاً عندما قال ليس للكردي إلا الريح (لا تعتذر عما فعلت– محمود درويش)..

كانت نيقوسيا قد أصبحت وطناً لسليم بركات بدلاً من بيروت، وحرارة قبرص الخانقة ورطوبتها اللزجة التي شكلت له حصاراً خاصاً.. وقال بأن “إقامته فيها كان ممكن أن تستمر لعشرين ألف سنة أخرى لو كان هناك معجزة تافهة ورديئة اسمها خمس مائة دولار” (من مقابلة مع قناة الجزيرة) بهذه المنحوتة الخاصة يلخص عشقة لقبرص، ويكرس مقولة محمود درويش “ليس لسليم بركات إلا الريح”، يسلم ساقيه لها ويهرب إلى الشمال الأوروبي وهو الفار من الشمال السوري ولكن “نيقوسيا شكلت هوامش من قصيدته”..

تجذرت نيقوسيا في ذاكرته كالكرمة، وبقيت جهة أخيرة له كالقدر، وتمنى أن يكون هناك معجزة بحجم خمسمائة دولار لتبقى هي هوامش قصيدته الجديدة.. محمود درويش الذي التصق بسليم بركات وكمن قرب الأوار الذي ينضح بالقصائد والمعاني، واختبر فصاحة الكردي الذي مزق بكارة العربية قال:يعرف ما يريد من المعاني.

كلها عبث. وللكلمات حيلتها لصيد نقيضها،

عبثاً، يفض بكارة الكلمات ثم يعيدها بكراً إلى قاموسه.

ويسوس خيل الأبجدية كالخراف إلى مكيدته..: انتقمت من الغياب

(لا تعتذر عما فعلت– محمود درويش)

ترسيم طقوسي وتمائم بليغة بين الكردي والريح.. لا تلمح في القصيدة إلا وقع حوافر جواد سليم بركات، دون أي أثر لمفارقتها الإثنية..

العربية حاضرة بكل بهاء القواميس رغم الرياح التي تصفر على جبال الشمال الكردية، لا يعترف محمود درويش بشيء، ولكنه يقدم تقريراً فنياً يلتزم فيه بتقاليده الشعرية، ويقدم سليم بركات على أنه الكردي الذي ليس له رياح، ومناخ اللغة التي وضع لها سيبويه أسواراً منيعة، لا يبدو أن هناك تنافراً بين عروقه وقلمه الطليق، بل لعلها المتلازمة التي جعلت من سليم بركات أحد موضوعات درويش المفضلة.

وكما أصر محمود درويش في أمسيته الشعرية الدمشقية قبل عشر سنوات على سليم بركات، يصر سليم بركات على إهداء محمود درويش نسخة من مجموعته الشعرية الجديدة كما كان يفعل دائماً رغم رحيله فيخاطبه: “نسختُكَ من كتابي الأخير محفوظةٌ، بتمام ما ظنَنْتَه جنوناً في موضوعه، مذ أرغمتَني على البوح ببعضه موجزاً. سأحملها، بيديّ، إلى المقطورة التي تستقلّها، في عبور الأبدية، إلى الأبدي.”..

“سليم بركات” ..

أتقن بلاغة اللغة العربية وتفنن في كتابتها شعراً وسرداً

سماح عادل

 “سليم بركات”، روائي وشاعر وأديب كردي سوري.. ولد عام 1951 في ريف القامشلي، سوريا، انتقل عام 1970 إلى “دمشق” لدراسة الأدب العربي، وبعد عام انتقل إلى بيروت وعاش فيها حتى 1982، ثم انتقل إلى قبرص وعمل في قبرص بمجلة (الكرمل) مع الشاعر الفلسطيني “محمود درويش”، عام 1999 انتقل إلى السويد.

الشعر والسرد..

في حوار مع “سليم بركات”، أجراه “ناصر مؤنس”، يقول عن كتابته للشعر وللسرد: “لي عينان تريان المشهد ذاته. الكثافات سرد، والظلال شعر في إختزال إشاراته. لا كثافة بلا ظل. لا ظل بلا كثافة. الكلمات، بقيامة واحدة، تحشر الموصوفات أمام ميزانها بلا تفصيل: ما يصلح للشعر في كفة منها يصلح للسرد أيضاً. أنا لا أصنف اللغة، في عرف إنشائي، طبقات ومراتب فأذل بعضها، وأكرم بعضها الآخر. هي نبؤة الخيال النهائية، وهدى ضلالها الطاهر. هدى نفسها في الإسراف خروجاً على أسر المعنى وقانونه. وفي هذا المتاح العميم من شساعتها أذهب إليها بجسد واحد، كثافة واحدة لها قوام ظلها: فيها لا أعرف حدوداً بين الشعري في مسالك وبين المسرد النثري تدويناً، حكياً. فأنا على نحو ما، أحرر الرواية من طابع الحكاية لتنقل إشارة، وفتنة إشارة، لتكون معرفة في مراتب الأحوال بسيطها ومركبها؛ لتأخذ بجواذبها ما تقدر على نهبه. وأمكن الشعر من ترتيب إيحاءاته، لا بانتخاب المختزل من نواظم الرؤى، وانكشاف البرازخ الأكثر خفاء في تجاوزات الألفاظ كعلائق خلخلة، بل بدفعه إلى امتحان أقصى بإيراده مورد النثر السارد ليفتنه، ويدفئه، ويصوغه بكمال الضلال في ذاته شعراً. هكذا يعود النثري إلى الشعري الذي هو خاصيته كسحر مذ كان الأزل ساحراً، والوجود ساحراً، والكائنات ساحرة بجلال نشوتها”.

 

موت النقد الأدبي..

عن تدهور حال الشعر يقول “سليم بركات”: “حين اجتهد الخيال الشعري في خمسينات هذا القرن، وستيناته، للخروج من نمطية الإنشاء المتشابه للقصيدة العربية، اتخذ سنداً لدعواه أنه سيرفد الشعر بعلوم أكثر جسامة من أن تقدر النواظم الرتيبة على اكتناهها؛ على القصيدة أن تكون ثقافة الجهات؛ وعيها؛ انعتاقها من ثورية الخصائص المستنسخة. عاش هذا الخيال الشعري، الحسن النية، عقداً ونصف عقد لا غير. من الستينات إلى أوائل السبعينات، ثم انحدرت القصيدة “الغضة الإهاب” إلى فوضى، ثم صارت الفوضى ذاتها نمطاً، لها خصائصها التي يمكن ترتيبها، وتوبيبها كما كانت تبوب “أغراض” الشعر المنظوم: الركاكة. البناء على فراغ. الجهل باللغة كلياً. استحسان القطيعة مع قواعد التدوين. الترفع العميم للجهالة عن تراث الماضي، من غير تحصيل لتراث الحاضر. التجرؤ على الخفة. ولهذه السخرية من جلال الشعر أسباب، في أساسها “موت النقد الأدبي”، بعد موجة هبوب أموال النفط العربي، قبل أواسط السبعينات بقليل، فتكاثرت الصحف، والمجلات الدعائية للأنظمة. وفي هذه الكثرة من الأوراق المطبوعة بحبر مدفوع الثمن بسخاء، بات تقليد وجود صفحات ثقافية أمراً على صخب في شيوعه. وجرى توظيف عاملين فيها بلا اختصاص، بل من باب إسناد الوظيفة إلى “نشيط” في جمع ما يقدر به على ملء صفحاته المتسعة عرضاً وطولاً. قتل التقويم، قتل الانتخاب المصاحب بوعي نقدي. قتل الاختيار بالتفصيل. أميون في القراءة تداعوا إلى تزوير الذائقة بانطباعات تصلح في لغة التعميم الكسولة على كل نص. كان ثمة مجلات قليلة جداً، قبل هذا الباء، بمهمة “ترشيد” الذائقة بقدر معقول من الصرامة في اختيار النصوص. وكان يقوم على الصحف القليلة أدباء مختصون في مذاهبهم، ما كان يجرؤ المبتدؤن في علوم النصوص أن يحملوها إليهم بالثقة التي يفعلونها الآن، تبعثر النقاد العارفون بآلات لغتهم. انحسروا وذابوا في الحشد المتقدم إلى الحلبة، ساذجين ينقدون الشعر بلا معرفة في العروض، وينقدون اللغة بلا فهم في الإعراب، وأما الفقه فهو لفظ من علم مقفل”

ويواصل : “في كل عصر، قطعاً، يتكرر المشهد ذاته، بصورة أو بأخرى، فيكون الجيد الحقيقي نادراً، والنمطي المتوارث سائداً. غير أن الجهل في تصنيف النصوص، راهناً، فاق كل جهالة. إذ بات النشر في المنابر متاحاً بتساهل القائمين عليها في إفراط ما بعده إفراط، وباتت علاقات الشاعر الركيك الشخصية على سعة تؤهل لكتابه المهلهل مقالات لا تحصى في إفراط عافية نصه. فوضى يصححها، من وقت إلى آخر، قارئ حقيقي، مجهول، لا يشتغل في تدوين مدائح معلنة في الصحائف، يبارك روحك بعناء قراءته الخالقة لنصك المتعطش إليه”.

الرواية تجريب..

عن كتابة الرواية يقول “ سليم بركات”: “لم يكن اشتغالي، وأنا في الثانية والثلاثين، على الرواية، قياما بنزهة “تجريب”. وأنا، مذ ذاك، أنجز عملا واحدا كل سنتين، بدأت كدأب الساعة، بلا انقطاع؛ بلا استراحة؛ لقد استدرج أحدنا الآخر (أنا والرواية) إلى حيلته.أعني أنني، في اليوم الأول لجلوسي إلى ورقة بيضاء كي أكتب الرواية، قررت خوضها بجسارة اليائس من واقع الرواية، بجسارة الأمل في تدوين ذاتي على مقام سطر مختلف في علوم الكتابة، بلا حذر من أن أستنهض كل شيء، وأستنفر كل آلة. لك أكتب الرواية لأستميل قارئا إلى “مقدرة” إضافية بعد سخاء الشعر المؤلم. كنت أحادث نفسي كالتالي/ “في ختام كل رواية أنجزها سأقول لي/ هالقد قرأت رواية”. أكتب كي أنتهي منها فأعرف أنني قرأت. رواياتي صعبة: أعرف ذلك. فسيفساء مدروسة: أعرف ذلك. متقاطعة الوقائع كلعبة بلا ميثاق: أعرف ذلك. يحضر الشعر فيها مستأنسا بمقعده كاستئناس النثر. مصائر إشكالية: تلك هي جسارتي. لا أبدأ رواية بلا إشكال. الحياة إشكال. الأمل إشكال كاليأس. الحضور والغياب إشكالان. أمتحن الواقعة لتمتحن الواقعة دربتي في الوصول إلى مخرج. أحيانا يقع كلانا في المتاهة. ليكن. لو رغبت في سهل من السرد، وحيوات مبذولة في الشارع، كنت فتحت على نفسي، في الواقع الضحل للرواية العربية المحطمة الخيال والإشكال، سخاء من المديح والترجمة، تحديدا. أنا صعب، قدري صعب، وكتابتي اشتغال قدري علي واشتغالي على قدري”.

إشكالية الكردي..

عن تصويره للكردي في إحدى رواياته يقول “سليم بركات”: “ إنني لا أبدأ رواية من غير إشكال. وبيكاس هو “إشكال قدري” بامتياز. كل الذين من حوله يجاهدون في تقديم برهان على حقيقته. حضوره مأزق للمنطق. غامض يصير أليفا غامضا. لامعقول يصير معقولا بتبريرات ينسجها المحيطون به ليقتنعوا، سأشرح الأمر قليلا، وأعود إلى بيكاس: لكل وجود مأزقه وإشكاله. الوجود الكردي يشكل إسهاما مضاعفا في هذا الإشكال، قلت لمعلم اللغة العربية إنني كردي فحملق في هلعا، ودمدم: “ماذا تفعل هنا؟ اذهب إلى تركيا”. عليك أن تتعلم كتمان أنك أنت. البعض يلد ويكبر، ويهرم، في المكان ذاته محتجب الجنسية. عليك أن تحمل معك ورقة “إخراج قيد” مكتوب على قفاها “منذ متى أنت عربي؟” للتأكد من نقاء عرقك. لا تستطيع التصريح بحبك لبلدك، مثلا، من غير أن تكون عربيا. اسمك غير العربي، إذا تجرأت على تسمية نفسك بألفا عرقك، سيصمك بالإذلال. صبي اسمه “برزان” طرد من الصف الثالث الابتدائي. بيكاس تيلو، شاب يعيش متزوجا في قبرص. تدبر أوراقا مزورة، في مطلع شبابه، واستقل حلمه إلى موسكو. درس وتخرج. ثم ماذا؟ تدبرت له زوجته القبرصية دخولا مشروعا، بلا أوراق ثبوتية، إلى بلدها. يعيش هنا على نداء القلق: كل صاحب عمل يطلب منه جواز سفر. ليس عنده جواز سفر. سوري بلا جنسية. في ورقة إخراج القيد الوحيدة التي يملكها أنه من فئة “غير المسجل” كلمات غامضة. بشرح للقبارصة أن جنسيته “مطعون في أمرها” فلا يفهمون. حاول تدبير ورقة ما من سفارة سورية لزيارة أهله فصعقوا: “ كيف خرجت من سورية؟”. ليس له حق خروج. إذا، ليس له حق دخول. تجتمع أعراق متنافرة في بلد واحد، مثل الولايات الأمريكية، فتجني لنفسها خصائص انتماء إلى الموقع قانونا. أعراق جاءت من بلاد أخرى قبل قرون قليلة لتؤسس لنفسها خصيصة الجماعة الواحدة، المختلفة الهويات، “المحترمة” كيانا (مع الصفح عن إبادة الهنود). مجرمون، محكومون، سجناء أفظاظ، غير مرغوب فيهم، منفيون، يلقى بهم على شواطئ استراليا، فيعترف لهم الزمن، حالا بعد حال، “بإنجاب” تأريخ متجانس النعمة تحت سقف الدولة. الكردي؟؟؟ تاريخ، وأحقاب، ومواريث في المكان الواحد، لا تشفع له إلا “بوجود إشكالي” هكذا ولد بيكاس في “فقهاء الظلام”: القدر يحمل إلى عائلة حيرة الكون وذهوله. طفل يلد ويكبر ويستولد ويختفي في يوم واحد محسوب بساعات الإنسان. في كل مرحلة من نموه إشكال على أهله أن يستسلموا له، وأن يؤكدوه كجزء من قدر عادي.. بالطبع، ليس صوابا اختزال بيكاس على هذا النحو. فهو رديف العبث في المعرفة أيضا، والحقيقي الذي ينقلب لا معقولا، وصورة أعماق علاقتها بالخرافة ترسم سلوكا في الواقع. وهذه الأمور الثلاث تدفع صوغ المعنى في بيكاس أبعد سياقه الكردي الذي أوردته فيه.إنه المعرفة الشيقة، المعذبة والمعذبة في آن واحد”.

مقايضة المعنى..

في حوار آخر مع “سليم بركات” أجرى الحوار”أحمد فرحات” يقول عن قصائده الطويلة : “يُغوِيني أن أكتبَ القصيدَةَ حتى نفاد غرَضِها، أن أُبادلَ في زمنها المتَّسِع تاريخاً للكلمات بتاريخٍ للكلمات، أن أقايض المعاني بالمعاني، أن أقابل مرايا الخسران فيها بمرايا الفوز، أن أمتحنَ الضرورات والنوافل معاً، أن آخذها معي إلى حافّة كل شيء، أن أُرقّقها وأثخّنها، أن أمتحنَ نفْسي بها من شاهقِ إنشائها قصيدةً، وأمتحنها بي من ضراوة حنيني إلى لا معقول الشعر، وإلى لا موصوفة، أن أبلُغَ بها اللاعودةَ. لا بحث في قصيدتي عن منفذٍ للنجاةِ، أو حلّ لمعضلة. هي، أبداً، ذلك الوقوف في الشفق الذي يَعْرَق في تأمُّله الكونُ من ثقلِ غامضة”.

وعن الحداثة وما بعدها  يقول “سليم بركات “: “لا أعرفُ الحداثةَ. لم أَفهمْها. هذا الكونُ المجتمِعُ صغيراً في أزرارِ آلاتِ الإشرافِ على سياقِ العالمِ مرئيّاًّ، مكتوباً، مسموعاً على قدْرٍ هائلٍ بِلا أسرارٍ، بِلا ترقُّبٍ للاحتمالات، بِلا إثارة إلّا ذلك التبادل من مقايضاتِ الإهانةِ. لنْ أرجعَ إلى بعضِ التحليلِ للمصطلحاتِ اتَّفق قذفُها إلى خيالِنا عن الحداثةِ من غير أن تعني شيئاً. لذا أبالغُ، بحسنِ ظنّ، في عدم فهمي لها، لأنّها، حين أنظرُ إلى أمكنتِنا، ومجتمعاتِها، لا أرى إلاَّ الحقدَ على كلّ شيءٍ لا يكونُ صوْغَ ماضيه، منجزاً، منتهياً، نفاية من نفاياتِ الحياةِ موزَّعةً على تلالِ المستقبلِ القُمامة. يقينُ المعتقداتِ الأديان، والمعتقدات الإنذار بالعصبيّة للعرقِ، والمذهبِ، والمعتقداتِ من كراهيةِ الجهاتِ للجهاتِ، والمهاجرِ للمهاجرِ، والمقيمِ للمهاجرِ، والمهاجرِ للمقيمِ، وطعنُ الثقافات للثقافات. الوحشية تتقدَّم بثقة، لأنّ كلّ ما عداها، بُنيَ على نظريٍّ ركيكٍ اصطُلحَ على تسميتِه «إنجازاتٍ قومية»، وفخراً بالمآثر”.

رثاء سوريا..

عن قصيدتِه الملحميّةِ الطويلةِ “سوريا”، والتي رثي فيها بلده يقول : “انتظرتُ كانتظارِ كلّ سوريّ، طويلاً، ليسَ في امتدادِ الزّمن فحسب، بل في فداحةِ هاويتِه المُختزِلةِ قروناً من المفارقاتِ في حدائق الجحيم. انتظرتُ زمناً من اهتراءِ اللحوم على أجسادِنا، واهتراءِ الأنقاضِ على الجثث. لم تأتِ نهايةٌ ما بالمعنى الخاصّ بالنهايات، كنتائجَ يُمكنُ تقويمها. لكنّني أقولها بلسانٍ عُريان: سوريا انتهتْ. وأنا كتبتُ قصيدتي بالخواتيم المُختزلةِ في هذا الحُكْمِ القاتل. الكلُّ يعرفُ أنّ سوريا انتهت. لو توقَّفت الحربُ عند الحدود التي هي عليها، فقد انتهتْ سوريا. لو استعادَها الروسيُّ كاملةً من خصومِ الحاكم، سوريا انتهتْ.

في أصلِ نشوئها بسنواتٍ قليلةٍ بعد استقلالٍ ركيكٍ، كانتْ دولةَ عائلةٍ؛ مؤسّساتِ عائلةٍ؛ اقتصادَ عائلةٍ؛ ثقافةَ عائلةٍ؛ ثقافةَ ربط الدولةِ بشرايين الحاكم، إنْ انسدَّت شرايينُه، اختنقَتْ الدولةُ. ظننَّا في الثورةِ المغدورةِ، أنَّ الجغرافيا السوريّة قد تُضيّق على هذا القَدْرِ أو ذاك، النهبَ العائليَّ المذهبيَّ. حروبُ المذاهبِ، وحروبُ الخَوَنةِ، وحروبُ الحلفاءِ الكَذَبة، والصادقين، أنهتْ ما كان مجرّدَ احتمالٍ لنشوءِ الدولة، ولو على مقاسٍ ركيكٍ (بلا أوهام)، بنظامٍ من تداولِ السّلطة. اكتمل القمرُ الدمويُّ في سماء الجغرافيا. انتهت – ليس اللّادولة التي كانتْ – بل علاقة الجماعاتِ “المتُهادِنة” منذ الاستقلالِ الركيك، القائم على تحاصُصٍ في “الأسماء الوطنية” جبلٌ باسم طائفة. سهلٌ باسم طائفة. قومياتٌ نزيف. لم نعرفْ إلاّ “الكيان” القائمَ على عَسْفٍ، وجبروتٍ في القهر، بمواثيقَ لا معنى لها: كرديٌّ يُنشِدُ نشيدَ البعث العرقيّ قوميّةً. يهوديٌّ مُجبرٌ على درسٍ إسلاميّ. مسيحيٌّ يقرأ، كطالبٍ، تاريخَ نشأةِ دينٍ “أذلَّ” دينَه بتنحيتِه من هِدايةِ المعتقدِ. نشأ الكيانُ المذهلُ مجموعاً من جغرافيا الكراهيةِ للجغرافيا، ومن كراهيةِ العِرقِ للعِرقِ، ومن كراهيةِ المذهبِ للمذهبِ، ومن كراهيةِ الجهاتِ للجهات. الفسيفساءُ التي كانت مُلتحِمةً بصمغِ الحريقِ تفتَّتت، من أوّل سطلٍ للمياه اندلقت فوقَها، رماداً سائلاً كان وحدَه “تجانس” ما سُمّيتْ دولة سوريا.. اكتمل موضوع قصيدتي. لا رثاءَ فيها إلاّ رثاء الأخلاق. هي ملحميّةٌ بالقَدْرِ الذي أعدتُ الحُكمَ على أزمنةِ وجودِ سوريا دولةً ركيكةً هدَمتْنا بركاكتِها القاتلةِ، السّهلةِ، تُباعَ فيها وتُشرى، لقاءَ كرسيِّ الحاكمِ. هي قصيدةٌ على سِعَةٍ من الزمن – ذلك يعطيها حقَّ الملحميّة، بالتفاصيل، من انتحارِ الشجر حزناً، وانتحار الترابِ”.

إرباك القارئ..

في حوار ثالث مع “سليم بركات” أجراه “عدنان حسين أحمد” يقول عن رواية (الريش) التي يتداخل فيها الواقع بالحلم، حتى يصل إلى ذروة التشويش السردي وهل يتعّمد هذا النوع من الكتابة المتأرجحة التي تترك القارئ معلقاً: “من حقي كروائي، أن (أتعمّد) نصب فخاخ للقارئ. التقنية لعبة قصدية تتبادل فيها المهارات الصغيرة أدوارها على رقعة العقل. لكن تلك القصدية هي ما ينجزه التلقائي من المشافهة حكياً حين يغدو تدويناً. الوصل، والقطْع، والتدوير، والبدء من النهاية، والانتهاء بالبدء، وإعادة توزيع المشهد على نحوٍ ملتوٍ، والإيهام، كلها مراتب نقْضٍ وإبرامٍ هما من عِقْد التأليف وخواصه. هما احتيالٌ يبتدعه الزمن للإيقاع بالزمن. التقنية دورةُ تخريب نبيلة للتاريخ (القدسي) الذي يقدم به عقل النظام الاجتماعي، ولسانه التعليمي،(حقائق) هويته (الطبيعية). في روايتي (أرواح هندسية) تتبلبل الملائكة في سعيها إلى تأكيد (النسق الواقعي) لزمن الإنسان بالبحث عن أربعة أيام مفقودة من حياة طفل. في (الريش) حلمُ (آزاد) هو واقع (مم). وما يفعله (مم) داخل حلم أخيه هو واقع أبيهما. وما يفعله الأب في واقعه هو إشكال التاريخ السحري: كل واحد يخلق الآخر من ضرورة حاجته إلى نصٍّ أكتبه أنا. أعلى القارئ أن يتبلبل في هذا؟ منذ متى كان(القارئ) واقعياً واثقاً حتى التخمة من تلفيق الفكر الكسول للواقعية المغمى عليها من ثرثرة (رُسُل) الواقعية المنكوبة؟ تعالوا إليَّ كي يلفِّق أحدنا الآخرَ على قَدْر (هيامه) بالحقائق”.

جزء من قصيدة “الغزلية الكبرى”

بقلوبٍ

أو

مِنْ

دونها يختلِسْنَ من اللهِ حظوظَ الهوى.

عاشقاتٌ هُنَّ،

بقلوبٍ

أو

مِنْ

دونها.

لا تشروحَ الشروحُ جُنَّت أنْ إلاَّ سْتوفى من أو بقلوبٍ، الهوى حظوظ من المُخْتَلَس هذا، الشأن في

الأرجحيْنِ؛ أرجحِ على يُعتَمَد سَبْكٌ ممكنٌ؛ ذا كل ممكنٌ.دونها. بالمعاني للنزوح الطُّرقِ الأديانِ في تعديلٌ

إلى شفيرِ لزومها. هُنَّ يتدبَّرنَ هذا تدبيرَ السُّحُبِ مجازفاتِها. وأنا؟ مالي؟ بقَلبٍ،

أو

من

دونه أختلِسُ من الله حظَّ العاشق بلا

تدبيرٍ يُعتَمَدُ إتقاناً، كي أرتجلَ الصعودَ مثلهن في قُبلةٍ إلى متاجِرِ الأبد وأسواقهِ.

بقلبٍ،

أو

مِنْ

دونهِ الآثارُ كلُّها تُحْتَوَشُ ـ الآثارُ القلوبُ طريحةً في مَعَاصِرها، والآثارُ الزَّفراتُ من أحمالِ المواعيد.

راهنتُ كما راهَنَّ. لا يخفى ذلكَ مُذِ المعجزاتُ هِيَ هِيَ كالمُراوَداتِ الصخبِ بقلوبٍ في الرهانِ على مِلْحهنَّ. لكنْ ما الرهانُ إن كُنَّ جَمَعنَ الجيادَ كلَّها في أَرَقِ العاشقاتِ؟ بقلبٍ،

أو

مِنْ

دونه تُسْتدانُ زفرةُ العاشقِ. بقلبٍ،

أو

من

دونه، أحبهنَّ يتفهَّمن أعذارَ الحدائقِ،

ما أثناهنَّ، من قَبْلُ، نقدُ النباتِ مجازفةَ الزُّرقةِ بأحكامِ الأخضرِ،

وأعذارَ نوافيرها.

ولا توضيحَ توسَّلْنَه من انقسامِ الجبل على إرث السهلِ،

ومن مقاضاةِ السُّحبِ للرعدِ على نقْضهِ هدنةَ البرقِ،

ولا تلمَّسْنَ باعثاً على شَكاةِ النهر من حجارة المجرى تدقيقَها في أدبِ الماء.

يتفهَّمن إفراطَ المنخفضات في حيائها،

ورعونةَ المُحتجِب في حجابهِ،

ورصانةَ وصفِ المعقولِ بريئاً يتولاَّه العَدَمُ عن لسانِ التَّابلِ الأول في مأكولِ الإنسان.

أُحبهنَّ أَبْطَلْنَ نازعَ القَسَمِ بالحقائقِ،

لأنهنَّ تفهَّمنَ القُدسيَّ في الأعْذارِ،

والقدسيَّ في بُطلانِ الأعذار.

أُحبهنَّ تركنَ كلَّ شيءٍ على حالهِ في الوجود الصغير.

لم يبدِّلنَ إناءً،

أو خزْنةً،

لم يبدِّلن موضع التُّحفِ في أبهاءِ الوجود الصغير.

أريكةً، أو سريراً.

أبْقَيْنَ على عيوبِ الذهبِ،

وفوضى الملح منتثراً فوق موائد العرَّافين.

وتفاديْنَ أن يوقفنَ شِجارَ المغيبِ على أبوابهنَّ. أحبهنَّ:

والأكياسَ مثقوبةً على ظهور الأرواح.

تركْنَ الأحذيةَ مثقوبةً،

والكمالَ مثقوباً،

كلُّ شيءٍ على حاله،

مُذْ ألْزَمْنَ الشكَّ قناعَ الحَذَر في دخولهنَّ الوجودَ الصغيرَ من ممرِّ الطهاةِ إلى المطابخ.

لا يباليْنَ:

تركنَ جواربَهنَّ مثقوبةً،

وأقدارَهنَّ مثقوبةً،

وطباعَهنَّ مثقوبةً،

وأمانيَّهُنَّ مثقوبةً،

وعزائمَهن مثقوبةً،

ودِلاءَ حظوظهنَّ مثقوبةً.

لا يأبهْنَ:

كلُّ

شيءٍ

على

حالهِ

في

مديحي إلاَّ هُنَّ:

لقد بدَّلْنَ الوجودَ بفائضٍ من ثناءِ الذهول.

مقتطفات من ثلاث روايات لسليم بركات


معسكرات الأبد

 حين انفصلا، لمرة واحدة، دارا حول البركة، كل من جهة، ليغرقا بمنقاريهما- المفتوحين من التعب- بعض الماء يبردان به  حوصلتيهما الساخنتين. ولما أكملا الدورة والتقيا، ضرب ذيلاهما الأرض ليندفع جسماهما أعلى، متواجهين مخلبا إلى مخلب، وصدرا إلى صدر، ومنقارا إلى منقار، وعينين إلى عينين، وأعماقا إلى أعماق بما فيها من شرود كأن غيرهما يتخاصمان، لا هما. وإذ تصادما بعظمي القص في صدريهما، صدر عنهما أنين خافت، عميق، احتبسته عظامهما القاسية، ولحمهما الذي لا شحم في عضله وأليافه. ثم تبادلا انقضاضاتهما العالية، في تناوب متفق عليه. حتى أن أحدهما، إذا لم يتمكن من تسديد ضربته، بسبب انزلاقه على الطين مثلا، يتيح له الآخر أن يعيد الكرة ليتعادلا بشهامة طائرين لا يطيران، بل أنهما لم يسألا نفسيهما من قبل، قط، لم لا يطيران.

ولماذا الطيران على أية حال؟ أهو تمرين للأجنحة؟ لقد اختبرا أجنحتهما من قبل، وهماواثقان أن لهما مقدرة على النفاذ بريشهما، وعظامهما، فلطالما تعرضا لغضب غير مبرر من الكلبين “ توسي” و” هرشة” ، يباغتانهما مهاجمين فيطير الديكان. نعم ، يطيران من الذعر الذي يرفع الأجنحة بحكمته إلى مدارج الريح فيعلوا جسماهما أمتارا عن الأرض، ويندفعان بقآقآت مديدة كالصراخ ممتزج بجلال الهواء الذي يجعلهما خفيفين ككائناته الخفيفة. ولطالما هاجمتهما الإوزات الثلاث، أيضا، فكن مصدر اختبار.

 

 

 

 

 

السيرتان

 ما الذي تراه؟ قل لي أيها الطفل ما الذي تراه؟ هضبتان في الأفق، وعقد من القرى وتراب يترنح بين صيف طائش وبين شتاء أحمق. وموعدك أيها الطفل موعد نبات أو طير. تغمض عينيك على ضحى تتساقط من سلاله الأقنعة، وتقبض بكفيك علىى لجام غامض، كأنما تتهيأ أنت للكهولة، أو تتهيأ لك الكهولة، لتختزلا، معا، ذلك السحر الذي ينبض مرة واحدة فتنتحر الحياة شوقا إلى نبضة ثانية.

هيهات أيها الطفل أن ترى غير ما رأيت. وما الذي رأيت، قل لي، غير عربات تئن، وينابيع هاربة من ضربات الغبار؟ كفاك انتحالا للأشكال لتطمئن إليك الأشكال. كفاك دفعا بي إلى ندامى احتضنوا الجذور وناموا. لكن بالله، لا تخفف من وطء الغمام علي ووطء الثلج، حيث المحك بينهما تنحر العصافير والوقت، ناثرا من نشيجك على الأرض طفولة للأرض، ناثرا شباك دمك السكران لتلتقط الملحمة .

أنقاض الأزل الثاني 

 وضع الشاب راحته على أذنه اليسرى كي يستدل بالصدى المرتد إلى حجاب يده على طبقة الصوت. ينبغي أن يكون بين المغني وصوته عازل خفيف يحيله إلى سامع للنبرات حال اطلاقها. الصوت يجرف المغني إذا عكرالرنين الحر على سمعه نقاوة الإصغاء إلى نفسه. هكذا علمه الأعمى، وهكذا اندلقت الخمائر الأولى من حنجرته في حوض الهواء الحي :

“ أنا غالية الثمن، يا شاغل نفسه بي”  قالت.

“ إن كان ثمنك الحب فلدي منه كثلج القمم في هكار، وأهراءات القمح في سهول ملاتية”  قال

“ بل أنا أغلى من ذلك “ قالت

“ يالتعاستي . إن لم يكن حبي كافيا فما الأغلى من ذلك، يا فتاة؟ “ قال.

“ أظل أغلى، يا شاغل نفسه بي “ قالت.

نص شعري لسليم بركات

لا تسألوني الضبطَ مُتْقَناً كالرَّبطِ مُتْقَناً بعد الآنَ. الأعالي مُخَبَّلَةٌ مزَّقْت صُدْرَتها، والأسافلُ مُخبَّلةٌ كالأنحاءِ الخَبَلِ لا تُرتجى بعد الآن.
ركبتايَ خارتا، والسماءُ خارتِ. الْسماءُ يُصلحِها الغزاةُ. الْسماءُ العطْلُ. الْسماءُ الوَزْرَةُ بالدمِ عليها من شَلْشَلهِ. اْلسماءُ شدوُ الجنونِ البلبلِ، ورقصُ البلبل فوق ذيل التِّنينِ. اْلسماءُ الركلُ من مُعْتَقَدٍ إلى مُعْتَقَدٍ. لا دليلَ على السماءِ بعدُ. لا دليلَ على سُلمٍ إليها، أو نزولٍ منها بسُلَّمٍ إلى الإنسانِ، أيها البلد.
فَتْقٌ في الروحِ، ورتْقٌ. ويلَ الرَّجمِ بعظامِ الأسلافِ الماءِ، والأسلافِ الطينِ. ويلَ الرَّجمِ بالمراقدِ جُوْفاً خُدِعَتْ، لم تَشْغَلها جثثٌ. ويلَ البلدِ أيها البلدُ الأكياسُ يجمعُ المخذولُ فيها ثيابَه، وعنادَه، وحناجرَ أولادهِ المُنتَزَعَةَ. مزادُ الشرعِ عليكَ. مزادُ اليقينِ فيكَ. مزادُ المزاراتِ السطوِ، والمدافنِ السطوِ، أيها البلدُ: مَسْحٌ في الأملاك:
بقايا قَصْرٍ،
وغزاااااااةٌ حَرَسٌ.
لا توضيحَ أكثرَ من اِيرادِ الرملِ أمثلةً في الأحكامِ. اْلمآخذُ هَيِّنةٌ مُذْ حِصَصاً نتسلَّم الهولَ؛ حصصاً نتسلمُها الأعمارَ بالمغارفِ الحديدِ. مآخذُ لا تُذْكَرُ على عنادِ الخرابِ في التدقيقِ. المآخذُ هيِّنةٌ لا تُذْكَرُ على اقتسامكَ رماداً. سَمِّهِ القتلَ بأسماءِ أيامك بعد الآن، أيها البلد.
عَدَمٌ في التلخيصِ. دولٌ ملخَّصاتٌ، والعبورُ ملخَّصاً من حصونِ الآلهةِ إلى المسالخِ. أصباغٌ لدِهانِ الجبلِ، ودِهانٌ للبحر مُذْ تقشَّرت أساطيرُهُ. بلاءٌ أثاثٌ في كلِّ ردهةٍ، والأقدارُ ضحلةٌ لا تبلغُ أرساغَ الأقدامِ. لا خلافَ. تعبٌ لا خلافَ عليهِ. لا خلافَ على الحقائب أخفَّ وزناً أو أثقلَ بعد القتلِ. إلهٌ لا خلافَ عليهِ، بل على معقولهِ، أيها البلدُ. اْلبضائعُ مكفولةٌ بضمانِ الشكِّ الشكَّ، واليقينِ اليقينَ، والإلهِ المعاركَ. ضمانٌ أن لا نفاذَ للماءِ من شقوقِ الأرواحِ مُذْ طُلِيَتْ قِيْراً. شكراً للقيرِ، أيها البلد.
هاكَ، إذاً، دِلاءَ الأرواحِ مرفوعةً بأشطانِ الحرائقِ من آبار الحرائق.
هاكَ الموتَ يُصْرَف بأسعار البارحةِ. فداكَ الشحوبُ الأبُ: خُذِ الحريةَ من زُقاءِ الديكِ على أطلالِ الهيكلِ، أيها البلدُ الوثَنُ الوثنيُّ. خداعٌ مشرفٌ من النافذةِ على أصيص النبتةِ الدمويةِ، أيها البلدُ الهَدْمُ الشاطرُ، والسخريةُ الضربُ بحذاءِ الأبدِ على الطاولةِ. اْلأناشيدُ فاسدةً تُحفَظُ في ملحِ العهدِ وخَلِّهِ. سهوٌ في الميثاقِ خائباً من حِبْرِهِ، أنتَ، أيها البلد.
لادِيْنَ للغدِ.
لادَيْنَ للغد على أحدٍ في تراجمِ العائدين من الهولِ بألسنةٍ طميٍ.
مآثرُ مجذِّفةٌ في الرمادِ بمجاذيفَ من أصواتِ المرتعديْنَ. اْلبضائعُ مكفولةٌ، أيها البلدُ. تُراحُ الأرضُ عاماً لتُزْرَعَ عاماً، لكنْ لا يُراحُ فيكَ الزرعُ بالأرواحِ البذارِ. أوقِفْني عن مطابَقاتِ الدمِ في الأغاني. أوقِفْ شَكَاتَكَ أنْ ما من آلهةٍ تغضبُ بعد الآن، يا اغترافَ الظلالِ بالأقداحِ شُرْباً.
تولَّيْتَ الحصادَ في أبَّانهِ صَمَماً من الحقائقِ، وخَرَساً من مذاهبها. اْلسماءُ لا تُحتَمَلُ بعد الآن. ادْحضِ السماءَ. ادحضِ الأخوَّةَ التي لا تُحتملُ بعد الآن. الأعمدةُ تلهو بالأعمدةِ، وحيادُ الخميرةِ لا يُنجي الأرغفةَ من مساءلات المعاركِ. دَفْعٌ. هاكَ. يُصْرَف الموتُ بأسعار البارحةِ، فلا أُسْألَنَّ الضبطَ مُتْقَناً كالربطِ مُتقناً، بعد الآن. اْلموتُ ضيِّقٌ بعد الآن.
لا عافيةَ تعيدني إلى ماكنتُه.
لا إخلاصُ الجبلِ،
لا الجبليُّ،
لا جدِّيَ الجبلُ،
لا جدَّتي الغابةُ، 
لا إخوتي الطُّرقُ ضيِّقةً،
لا شقيقاتي الصخورُ الصقيلةُ في مجاري الأنهارِ،
لا فجرَ يعيدني إلى ماكنتُهُ.
لا خُسرانَ، أو نصرَ،
لا طريقَ تعيدني إلى ماكنتُه.
لا الآباءُ الجيِّدونَ،
لا العشاقُ الجيِّدونَ،
لا القتَلَةُ الجيدونَ،
لا الموتى الجيِّدونَ، أولاءِ الذين لا يتوقف الموتُ عن التبشير بهم أنبياءَ في ممالك الموتى، يعيدونني إلى ماكنتُه.
لا السماويُّ وحِرْصُ بناته على دفوفهنَّ،
لا ربابنةُ المهجورِ،
لا ملاَّحو الكثبانِ الكبرى، يعيدونني إلى ماكنتُه.
لا الحياةُ النومُ تحت شجرة الموتِ،
لا الألوفُ الأعوامُ استغرقتِ الإنسانَ كي يعرف أنَّ البرتقاليَّ لونٌ وليس برتقالةً،
وأنَّ الشكوكَ ذئبيَّةٌ مع الزوال الحائر في قَسَمهِ بالزوالِ،
ومع الكُفْر نبيلاً في إيمان الكُفرِ بالشجرة تلك، التي أنا ظلُّها، ستعيدني إلى ماكنتُهُ.
لا الموتُ معترِفاً للموتِ بأرَقِهِ كَبَشَرِ الباطنِ مولوديْنَ سِفاحاً من أساطير المنتظَريْنِ، يعيدني إلى ماكنتُه.
لا الموتُ بسيطاً في الأزمنة الكبرى،
أو مختلِطاً تعقيداً في الأزمنةِ الصغرى، يعيدني إلى ماكنتُه.
لا المعذِّبون يقينَ الجبلِ أنَّه الأعلى،
القساةُ الطيبون كالمَرَقِ الطَِّيِّبِ،
يعيدونني إلى ماكنتُه.
حين الأمَّهاتُ جميعُهنَّ أُمهاتُ الغَرَ قِ في الأديانِ الغَرَ قِ،
لا أمهاتٍ يُعدْنَني إلى ماكنتُه.
لا
أحدَ
يعيدني
إلى ماكنتُه.
هَرْجٌ، ومَرْجٌ: عُدَّ، أيها البلدُ، ما يُذْهِلُ ويَشْدَهُ؛ مالا يُسْتَجْمَعُ إلاَّ في انهيارٍ.
عُدَّ. مفرِّغٌ أنا جيوبَ الصِّفْر من كُسَارةِ الأرقام. الأعداءُ قساةٌ كالأساطير أيها البلدُ. لا أريد أرضاً بعد الآن. لا أريد سماءً فوقي بعد الآن. أوقفْ قلبي على قدميه. أوقفِ الطُّرُقَ المغمى عليها على أقدامها. أوقفِ النزوحَ من الوقتِ إلى ما لا يعرفه الوقتُ. أوقفْ خصومةَ التراب للترابِ، 
وشِجارَ الحدائقِ،
وسقوطَ الدقائقِ مهشَّمةً بمطارقها،
أيها البلد.
في أحذيةٍ،
أو بأقدامٍ حافيةٍ، ينجزُ الذبحُ عبورَه من السهلِ إلى الجبل. لا. لا توقفْ قلبي على قدميهِ، أيها البلدُ.لا تمنحْهُ فرصةَ النظرةِ الأخيرةِ إلى مالن يعودَ. مرجَّحٌ أنني لن أتبيَّنَ الثقلَ بعد الآن، ولا الخفَّةَ بعد الآنَ. اْلأيدي هواءٌ، والقلوبُ هواءٌ. خَلْقٌ نزوحٌ بالكفرِ إلى عدْلِ الكفرِ.لا بحرَ هنا.
لا بحرَ هناك.
لا سهلَ هنا.
لا سهلَ هناك.
لا جبلَ هنا
لا جبلَ هناك:
بلادٌ تُطْبِقُ الكتابَ على سطورهِ الطويلةِ،
والقتلى لن ينهضوا إلى مهمَّة بعد الآنَ. إنَّهُ حصادُ المتاهاتِ، وتأثيثُ الرياحِ للإقامةِ. أقمارٌ رخيصةٌ في الأسواقِ. قتلى وبضائعهُم معروضةً على مساطب الشفق. آدابُ القتلى، وشرائعُ القتلى في تنظيم الموتِ كالدُّوَلِ الموتِ. اْلقبورُ المقايَضاتُ، وذهولُ الباذنجانةِ من بياضِ الأسنانِ في فم الخائفِ، أيها البلد.
عزلةُ الكونِ أخيراً، أيها البلد.
إسطبلاتٌ كثيرةٌ للجيادِ الحجارةِ. قُفْرانٌ كُثرٌ للنحل الحجريِّ. إيمانٌ بالحجر المعذَّبِ، أيها البلدُ. لن أُسلِّم السماءَ إلى أحدٍ إنْ سُئِلْتُ مُذْ سلَّمتُها البارحةَ، بيدَيْ يقيني، إلى الشحاذينَ. موتٌ خيريٌّ. موتى خيريونَ. خجلُ الماءِ من نفْسه هذا، أيها البلدُ. بكاءُ البحرِ، وندْبُ الغيومِ. كوفِئْتَ: الغضبُ مكافآتُ الآلهةِ على أعمالِ الموتِ. واُرِحْتَ مُذْ لا إصلاحَ في كسور السماءِ وأقفالِها. هَيْتَ لكَ. لا قلبَ في يديكَ؛ لا قُبَلَ في جيوبكَ. استَرِحْ عندما لا قلبَ في يديكَ؛ لا قُبَلَ في جيوبكَ. عندما
لا
بابَ؛
لا
نافذةَ؛
لا بيتَ؛
لا حدائقَ،
ولا أمكنةَ؛
عندما لا يعرفُك العارُ السَّيدُ،
والفجرُ السيِّدُ؛
عندما لا تعرفكَ الكراهيةُ كما ينبغي،
ولا تعرفها كما ينبغي؛
عندما الشرُّ مديحٌ لا غيرُ،
والإغراءُ جراحٌ؛
عندما الأجسادُ تُطوى كالأعلامِ تُطوى بعد المهرجانِ،
والهذيانُ وحده يستطلعُ الطريقَ السالكَ أميناً؛
عندما النهارُ النَّذْلُ ضرورةٌ لقبول النُّصحِ من الضياءِ النذلِ،
والتجاريبُ كلُّها فلكيةٌ،
والطبيعةُ سداسيَّةُ الشكِّ كالعفَّةِ في دِيْنِ الغضبِ؛
عندما لا غالبَ إلاَّ العويلُ،
والأمكنةُ الأراذِلُ، والجهاتُ الرذيلةُ؛
عندما النهايةُ تجري مجرى الليلِ،
والغبارُ يجري مجرى المعْجِبِ بالهباءِ العُجابِ؛
عندما أنْ مفطورون على الساعاتِ مُفرَّغَةً،
وعلى الأيامِ مفرَّغَةً،
وعلى السنينِ مفرَّغةً؛
مفطورونَ
على
الأوزانِ
مفرَّغةً،
وعلى المبتدّأِ الفارغِ
كالمنتهى الفارغ؛
عندما أنْ مفطورون على الحرائقِ،
وصناعاتِ الهمِّ المتَّزِنِ،
والغمِّ الوازنِ؛
عندما البابُ جريحٌ،
والأبهاءُ جريحةٌ، 
والطُّرقُ صوتٌ لا يكمل أقاصيصَهُ؛
عندما الرحمةُ نزقةٌ بطباعٍ كالحراشفِ،
والمنشدونَ رَتَلاً على شَفراتِ الدِّيْنِ منشِداً في الملهاةِ،
والأخلاقُ للهربِ بأقدامها؛ لبلوغِ الحفافِ بأقدامها؛ للقفزِ بأقدامها
من
كُفْرٍ
إبنٍ
إلى 
كُفرٍ
أبٍ؛
عندما وحشُ اللازورديِّ في الرسومِ الدولِ،
ونفورُ الجهاتِ من الجهاتِ،
والمدنِ من المدنِ،
والشواطئِ من الشواطئ؛
عندما تحاكي المياهُ الطيورَ، وما يجري مجرى ذلكَ؛
ما يجري مجرى الليلِ،
ومجرى الصاعقةِ الشعثاءِ،
ومجرى المديح منتحراً بممدوحِيْهِ؛
عندما المساخرُ الأضاحيكُ في الشرقِ الحُمَّى،
وخُرافةُ القُبَلِ،
وخُرافةُ الإنسانِ حالماً،
وخرافةُ العسلِ ـ هَيْتَ لكَ أيها البلدُ:
لا شيء يناسبُ شيئاً؛
لا مصافحَةَ تناسبُ مصافحةً، بعد الآن.
عاديٌّ أن ينهار البحرُ جاثياً بعد الآنَ. اْلمجازرُ تُحْمَدُ. يُحْمَدُ البقاءُ الشفرةُ.
يُحمَدُ الخرابُ التصديقُ؛
الْجوعُ التصديقُ؛
اْلكلماتُ التصديقُ أطبقتْ عليها يدُ المنتحرِ. الْخرابُ الأمراسُ مفتولةً، والخرابُ الهَللُ. رعاعُ الإيمانِ المحتجب في الوثنِ المحتجبِ، أيها البلدُ. ما التصديقُ؟ ممتَحَنٌ بالهولِ الصادقِ والكفرِ الصادقِ. ما التصديقُ النفوسُ؟ أينَها؟ اْلنفوسُ
التي
بلا نوافذَ،
أو أبوابٍ. اْلنُّفوسُ العشبُ مجتزًّا بمقصاتِ المدحِ، والنفوسُ الثقوبُ في كشتبانِ الخلائقِ. جَدَلٌ هذا. جَدَلُ الرمادِ العَلاَمةِ، وخَطابةُ الجراحِ الرَّعاعِ، أيها البلدُ. اْلعَجبُ الأفعوانُ. العُجابُ الكلبةُ في نباحها المعاني ملتزمةً هذيانَ الحكمة الهمجيةِ، أيها البلدُ. اْلغريبُ
شريكٌ
فيكَ،
والغزاةُ
أشراكٌ.
مُذْ أُنجزتَ بلداً بالنقصانِ الخالقِ لم تَثْبِتْ بلداً للحظوظِ إلاَّ نهباً،
أيها
البلدُ.
خُذِلتَ مُذْ كنتَ،
وخُذلتَ مُذْ لن تكون ماكنتَهُ بعد الآن.
خُذلتَ مُذْ لا تعرف ما ستكونُهُ بعد الآنَ. يا لكَ
إرثاً
من نِعَمِ المُشْكلِ.
يا لكَ
أكيداً
كأخيكَ الشكِّ،
أيها
البلد.
بطشٌ عسلٌ. نساءٌ منمَّشاتٌ كالأقدارِ. أرِني، أيها البلدُ، البطشَ العسلَ، والنساءَ منمَّشاتٍ كالأقدارِ. أمْ هذا ردْعُ العبثِ عن كسله لنتعافى في العبثِ؟ اْلمذابحُ رشيقةٌ، سكاكرُ. الْمذابحُ السكاكرُ في أيدي الأولادِ. الجلاجلُ في كواحل الموتى، والدفوفُ في أيدي المُحتَضَريْنَ. خُذْها زلَّةٌ من لساني، أيها البلدُ. اْلقتلُ
مرتعداً
من
صوتِ
أمِّه الضاحكةِ. خُذْها زلاَّتٍ من ألسنة المدنِ وأشباهها؛ الأممِ وأشباهها. سأحاكيك بنحيب الصخرةِ التي تلمسُ النهرَ؛
بالخوفِ عريقاً؛
بالخوفِ خالقاً،
وارِثاً،
وريثاً؛ بالخوووووفِ مائلاً كقلبٍ. مُرجَّحٌ سقوطُ القلوب في سقوطِ المدنِ. مرجَّحٌ
أنْ
لا يُستَرْجَعَ
خِيارٌ؛
ألاَّ
يُسْتَأْنَسَ
بأصلٍ أصلاً.
عروضُ المدنِ مُسْتَنْفَدةٌ،
أيها
البلدُ.
زلَّةٌ على لساني.
زلَّةٌ من لسانِ الماءِ. أمْ أسمعُ الصوابَ في انهيارِ الأمكنةِ على أسمائها؟ بلغَ الزبدُ ما بَلَغَه في رئتيَّ. خذْها الزلاَّتِ من ألسنة الحربِ مُكْتَنَفةً بكِلَلِ الشِّعر ذي الأوزانِ العويلِ. خذْها الحربَ الناعسةَ طولاً. خُذْ يدَ الشجاع المنكوبِ بظُلمِ سلاحهِ،
أيها
البلد.
خُذِ الشِّيعَ الهَمَجَ،
وانتصاراتِ المحنةِ زلاَّتٍ على ألسنةِ السبيِ فصيحاً.
خذْها مني: انحلالَ السماءِ. لا آلهةَ
إلاَّ 
آلهةَ
الصرخة.
لا سوى الغريبِ الجسارةِ في النَّحْر؛
لا سوى الغريبِ وكيلاً في نقل المدنِ حطاماً إلى الآلهةِ الحطامِ. المآذنُ الدخيلةُ. القلوبُ الدخيلةُ. المستَعْمَراتُ المراقدُ جُوْفاً، والفتاوى المستَعْمَراتُ. السماءُ الدخيلةُ، أيها البلدُ. تلاسُنُ الدول فوق رؤوس القتلى المنتصبينَ، أيها البلدُ. اْلذهبُ المنحورُ. اْلغيومُ المنحورةُ، أيها البلدُ. محاكاةُ الطُّرقِ للمذابحِ. محاكاةُ القتلى للقتلى،
والموتى للموتِ،
والبساتينِ المهجورةِ للبساتين المهجورة.
محاكاةُ الدويِّ المذهلِ للشُّكْر انِ يرفعه العدمُ مضطرباً في التوضيحِ،
أيها البلد.
الجيوبُ ممزَّقةٌ.
ممزَّقٌ كلُّ أصلٍ أيضاً، فهلاَّ رَفَقْتَ بالمِيْتاتِ معدَّلةً بعدُ؟ خذْها الأمثالَ معدَّلةً تجري على ألسنة التماثيلِ، واسمعْ إكراهَ النار ألاَّ تتركَ رماداً، وإكراهَ الدخانِ على النومِ في حلم النارِ، أيها البلد. اْلمخلوقاتُ الرمالُ، والمخلوقاتُ القناديلُ الدمُ، والفنونُ الماءُ، والفنونُ المائيةُ. اْلأيامُ خبيثةُ المَطَالعِ، أيها البلدُ. رِفْقاً بالمِيْتاتِ. رِفقاً بيديِّ الموتِ الوديعتينِ. اْلأضاحي مقيَّدةٌ في ترجمةِ الغريبِ للسِّيْرَةِ الظلالِ ـ سِيْرتِك،
أيها
البلد.
جرائمُ الأمهاتِ أنْ يلدنَ بعد الآنَ،
والآباءِ أن يستولدوا. هي ذي تقوى المدية فوق النَّحرِ،
وتقوى المذبحةِ،
وهدْيُ الحريقِ. رِفقاً، أيها البلدُ، بأحذية القتلى على الأرصفةِ. الْأرواحُ دارسةٌ أطلالاً كالأجسادِ الأعمدةِ، والأجسادِ السقوفِ، والأجسادِ الجدرانِ. الملاهي تُلْمَسُ في فردوسِ الأنقاضِ. الغزااااةُ هنا، أيها البلدُ. اْلفاكهونَ الغزااااةُ في بستانكَ ـ بستانِ الأحشاءِ. ما غَرَّكَ أن تَصْرِفَ أو تُصْرَفَ؟ قَعِيْدٌ أنتَ مُذْ أُنشئْتَ سُكنىً موصدَ النافذةِ، وبابُكَ ضيِّقٌ.
إعراضٌ فافتتانٌ. لَبْثٌ في العَناءِ عن قصدٍ إلى المدحِ صُراخاً، أيها البلدُ. بذلتَ وَسْعكَ، مثلي، كي تُفْهَمَ غريقاً في ما لا يُفْهَمُ: اْلنجاةُ لا ليَ؛ اْلنجاةُ لا لَكَ. اْلعبثُ
صادقٌ
في وعدهِ. المُشْكلُ
صادقٌ
في وعدهِ. الخوفُ
صادقٌ في وعدهِ. الخرابُ
صادق في وعدهِ. الهتكُ والقتلُ
صادقان في وعدهما. اْلنهبُ
صادقٌ
في وعدهِ. الخسفُ
صادقٌ
في وعدهِ. العجرفةُ
صادقةٌ
في وعدها. اْلذبحُ
صادقٌ
في وعدهِ. اْلحُرقةُ قبل الذبحِ،
وبعد الذبحِ،
صادقةٌ
في وعدها. اْلخيبةُ
صادقةٌ
في وعدها. اْلحقدُ
صادقٌ
في وعدهِ. الخسارةُ والفَقْدُ
صادقانِ
في وعدهما. الدَّنَسُ
صادقٌ
في وعدهِ. الخُدعةُ
صادقةٌ
في وعدها. الكفرُ
صادقٌ
في وعدهِ. الرمادُ
صادقٌ
في وعدهِ. الغزاااااةُ صادقون كالكِذْبِ صادقاً في وعدهِ، أيها البلد.
خذوها مجالسَ الوقوف على طَلَلِ الكونِ.
خذوا التشبيبَ بالباسطين أيديهم بَيْعةً للجحيم.
خذوا الأشياءَ صُفْراً كأعلامِ النَّسْلِ الحَمأَة.
خذوا المراقد مقدَّسةً كالأصفانِ،
مدنَّسةً كشكوى العاهرةِ من نفاقِ فرْجها. وَيْكَ، أيها البلدُ: المُهَلُ الشَّابَّةُ، والمُهَلَ الرميمُ. الكذابون في المُهَلِ مقضومةً بأسنانِ أمهاتهمُ. اْلأعالي مُخبَّلةٌ مزَّقتْ صُدْرتَها – لا تُرتجى بعد الآنَ. اْلأسافلُ مُخبَّلةٌ كالأنحاءِ الخَبَلِ. نَدْبٌ
رائقٌ
من
حِذْقِ
الطَّربِ الرائق.
عتبُ النشأةِ عليك أَنْ كنتَ بلداً لم تكنْهُ، أيها
البلدُ
القيدُ؛
البلدُ القُفلُ؛
البلدُ البابُ مصطفِقاً على قَدَمِ السالكِ. أجناسُ الوحشِ هيَّجَها فَرْطُكَ في التقديرِ. أُخِذْتَ لا مُسْتَعَادٌ. أمْ تُستعادُ اختلاساً من غفران اللاجئِ منك إلى كُفْرِه؟ اْلبدُ
القيدُ.
البلدُ
القُفلُ.
البلدُ التوبةُ عما كانَهُ مرَّةً،
وعمَّا لن يكونَهُ بعد الآنَ.
الحمدُ الشاكي،
والذَّمُّ الشاكي، الغَبْرَتانِ على رفٍّ. والتاريخُ
الهَبَلُ؛
الأنسابُ الهَبَلُ؛
الأعراقُ الهَبَلُ؛
القيامةُ الهبلُ، أيها البلدُ. اْلأقدارُ أسفَّتْ حتى لَتَعَضَّنَّها الجراءُ. اْلقَتَلةُ الشَّرَّى في أسواق الكون مقتفيْنَ نساءَهم يتبضَّعنَ العِظامَ الذهبَ، والقلوبَ الذهبَ، والأحشاءَ الذهبَ من حوانيت الأنساب الذهبيةِ. اْلقتلةُ البراءُ من حقِّ الوقت على الحظوظِ. الْقتلةُ النجاةُ عبوراً من سطور الأمثال إلى الحدائق المحترقةِ؛ المترجمون الدمَ عن الدمِ ماءً، واللحمَ عن اللحمِ مِزَقاً من قواعد الأرقامِ. اْلقتلةُ
المتَّزنون
مشياً
على
الخيطِ
الحريرِ للقتلِ. الوارثون مدنَ الآباءِ سُرقتْ بالشعوب فيها،
والكلماتِ فيها،
والذبائحِ فيها ملوَّنةً كأعلامِ القاهرِ وثيابِ عاهراته، أيها
البلد.
همْ أولاءِ القتلةُ الطرقُ لا جوازَ لمرورٍ إلاَّ فيها؛ اْلبحَّاثةُ في الأصولِ الأولى للألمِ،
وطبائعِ النَّزْفِ،
ومناجمِ الخوفِ؛ الْعدَّاؤون
بالأسلابِ
من نَسْلٍ
إلى نسلٍ. الْجوَّالون بالدفوف على القتلى يذكِّرونهم بسَدادِ الدَّيْنِ؛ الْبُلغاءُ
في
التوثيق
لمناهجِ
الرفق بالقبورِ. القتلةُ القانونُ،
وأنينُ القانونِ،
وأعاصيرُهُ النُّورُ الهولُ. اْلقتلةُ
بأسماءٍ
أو
من دونها؛
برِقَّةٍ
أو
من دونها. اْلقتلةُ السباتُ في اللؤلؤةِ معلَّقةً إلى نَحْرِ الأغنية الخالدةِ. القتلةُ الضغائنُ من نهش التاريخ للتاريخِ. اْلقتلةُ السَّمْعُ مُسْتَرَقاً على همسِ الهواءِ في الرئاتِ؛ آكلو الأعمارِ صباحاً إفطاراً. الْقتلةُ
الفرحُ
بنجاةِ
أسمائهم
في انهيار الدولِ، أيها البلد.