ليست العينان

ليست العينان

سهير السمان- اليمن

على طاولة مربعة الشكل، ربما أخذت شكل الاتجاهات الأربع التي تحيط بالأشياء.. كأس ماء وكوب قهوة يوهم نفسه بشوقي إلى احتسائه،.. الأضواء الليلية تختزن أوجاعي اللامتناهية، وصوت كروان قديم الأزل يذكرني بفيلم شهير كانت نهاية أبطاله موت الخطيئة حين تتوب، على الطاولة أراقب إحساسي المتعفن، والجالسين أمامي مجموعة يتلاعبون مع الحياة بلغة الإشارة التي اخترعوها للتواصل ، أي تواصل يتبقى ونحن لم نعد نشعر به، إلا عبر زمن رقمي ،أراقب حديثهم الصامت، المتفاعل بين ملامحهم، قد تتعب عضلة اللسان من الحديث، وترهق الأذنان من تلقي الأصوات ، ولكن ألا تتشنج أذرعهم من تلك الحركة المتواصلة . أشعر بالإرهاق من طول الانتظار.

انتظار شخص لم أتواعد معه أبدا ، طاولة بقربي يصل إليها اثنان أحدهما نحيف وطويل، أدار لي ظهره، والآخر يقابلني، بوجه دائري مكتنز، لقد كان النحيف يشبه شخصا قابلته قبل فترة طويلة، ولكن في مكان فقد خارطته الآن على الكرة الأرضية، أو على الأقل أحاول أن أضع له خارطة جديدة على مساحتي المؤقتة ،

كان شابا وسيما، دائم الحديث والتعليق في المناسبات التي أجده فيها، يركز على الحاضرين بعيني صقر، حين كان حديثي الأول والأخير معه، كانت الأسئلة التي يمطرها عليا في قضية شائكة جدا، وكأني متهمة أمامه يجب عليها أن تجيب بدقة، ساعة ونصف، أرهقني فيه حديثه. ولم أقابله أبدا بعدها ولكني كنت أتابع نشاطه وكتاباته لفترة، قبل أن تنقطع أخباره عني، ها أنا ذا أختلس النظر إلى ظهره بين لحظة وأخرى، لاقتنص ملامحه من الخلف، ولكن هؤلاء المجموعة أمامي يشكلون إزعاجا دون صوت، حركاتهم أقلقت تركيزي، آخذ رشفة من القهوة، أعود إلى الشخص الذي مازال ظهره يواجهني، الوقت يمر ولم يحرك رأسه أبدا لأي جهة، رجله على الأخرى، منتصبا يومئ برأسه تفاعلا مع حديث رفيقه، لا ينطق بكلمة.

أبحث عن طريقة لأرفع صوتي لعله يجذب انتباهه، أمسك بهاتفي لأتصل بشخص وهمي، أطيل الحديث المتقطع ولكن دون فائدة لم يلتفت إلي، ماباله ساكن الجسد هكذا؟

أعود لقراءة ما بيدي، ومازال أصحاب الإشارة متفاعلون في حديثهم وابتساماتهم، ترى هل يسمعون ضجيجا في أعماقهم يختلقونه، كيف يكون هذا الضجيج، هل هو نفس الضجيج الآن الذي في داخلي؟

يوي صوت انفجار مروع، ينتفض كل الجالسين ، وأخيرا التفت لأراه ولكنه كان يلبس نظارة سوداء ويمسك بيد رفيقه لأنه كان لايبصر الاتجاه الذي سيخرجون منه، نعم كان هو، ولكنه فقد بصره، ولم يحركه الآن إلا صوت الانفجار، أثار منظره حزنا شديدا في نفسي، ليتني لم أره هكذا، ما الذي أصابه ليفقد بصره؟

وأولئك الذين لا يسمعون، لم يحركهم صوت الانفجار، فهم مصرين على الاستمرارفي الحديث الصامت.

فما بال الحواس أصبحت تقض هدوءنا؟

أين تلك العينان