الألفة معبرًا إلى قلب النص نفس عميق من .. "هواء المنسيين"

الألفة معبرًا إلى قلب النص نفس عميق من .. "هواء المنسيين"

 عاطف عبدالعزيز

تحكي لنا الأسطورة أن الملك المغولي شاه جهان، كان قد ألزم آلاف العمال والفنانين الذين شاركوا في بناء ضريح زوجته ممتاز محل، بتوقيع عقود تحول بينهم وبين تكرار تلك المعجزة المعمارية الخالدة في مكان آخر، وعلى ما يبدو فإن الملك العاشق كان يهدف من وراء ذلك إلى أن يظل هذا البناء محتفظًا بطاقته الأسطورية الكاملة،  وعلى الأغلب، نجح الرجل في مسعاه هذا كل النجاح، حتى أن بعض الهنود المتيمين بقصة العشق الإمبراطوري، مازالوا يعتقدون بأن بقايا المرمر الأبيض الذي استعمل في كسوة الضريح بقيت مستقرة حتى الآن في قاع نهر يامونا الذي كانت تُنقل عبره ألواح المرمر فوق مراكب صغيرة.

المدهش أن بعض المغامرين الذين استطاعوا استخراج شيء من هذا المرمر الغارق، فوجئوا بأن ما بين أيديهم لم يكن سوى قطع من الرخام الأسود، الأكثر إدهاشًا، أن هذا الكشف لم ينل من بهاء الأسطورة، بل منحها المزيد من التركيب، فالمتيّمون هؤلاء، أكدوا أن المرمر الغارق قد اسودَّ تحت وطأة حرمانه من وصل الأحبة الراقدين، بينما أكد العقلاء منهم، بأن ألواح الرخام الأسود هي التي ابيضّت تحت إشراقة النور المقدس في ذات اللحظة التي كانت قد استقرت فيها الألواح الداكنة فوق حوائط الضريح.

لا أحد يعرف على وجه اليقين لماذا لجأ المعماريون المجلوبون من هضبة الأناضول آنذاك، إلى إقامة بناء آخر هامشي وغامض يقع على مقربة من ضريح الملكة أسموه “جواب”، يقال إن محرابه جُعل في اتجاه معاكس لكل المحاريب في المكان، كأنه معبد لدين غريب، كما أن أرضيته كانت مكسوة ببلاطات من الرخام الأسود النادر الذي يوحي لمن يراه، بأنه ليس سوى مرمر آبق، مجرد مرمر آبق تأبّى على الإشراق.

نعم .. أسموا ذلك البيت جوابًا إمعانًا في الغرابة، بعد ذلك قيضوا له راهبة بيضاء يكاد جبينها يضيء، إمعانًا في إيلام أعين التائبين الخارجين من عتام المعصية، ثم اختاروا لها اسمًا غامضًا وغير مألوف في تلك البلاد، أسموها “جاديتاب” أو “غاديتاب”، كي يتحوّر الاسم بعد ذلك ليصبح “غاديت”، ثم سرعان ما يستقر على ألسنة العامة .. “غادة”.

يقولون، إن صوت الراهبة الواهن كان يُرى في الليل، حين يمتد من خلوتها البعيدة خطًا دقيقًا من النور المتماوج، حتى يحطَّ على حافة البركة المقدسة:

نعبر

قرب الشلال المجهول

هكذا

سال ماء الأغاني

على قصيدة

بطول العمر

لن تكتبها امرأة واحدة

ولا شاعر

مهما كان كبيرًا

نسدد دينًا

لشخص لا نعرفه

عن ذنب لا نعرفه

كأشباح

لا يرون بعضهم في ضباب الزمن  

قليلون أولئك الذين مروا تحت شرفة غادة نبيل ولم يقعوا في الحب، لذلك كنت لا أتواني عن تحذير أصدقائي من المرور تحت شمس الظهيرة في ميدان الدقي، كنت أحذرهم وأعرف أن الطوبة -لا محالة- سوف تصل إلى الثمرة المعطوبة، وأن المساء لابد سوف يجمعهم فرادى وجماعات في مقهى (المنسيين).

غير أن المحبة التي حملتها إلينا غادة من أروقة حيدر آباد وبراري التبت، كانت أشبه ما تكون بحربة ذات شعبتين، الشعبة الأولى تكمن تحت ابتسامتها الشاملة، وهي ابتسامة شاملة لأنها تضعك على تلك النقطة العجيبة التي تتقاطع فيها بهجة اكتشاف الحياة، مع ذلك الأسى على انخطافها وفواتها السريع، هي شاملة أيضًا لأنها لا تنهلُّ عليك من وجهها الصبوح فحسب، بل من جسدها كله، وربما من ملابسها أيضًا.

أما الشعبة الثانية، الشعبة الأكثر طولًا ورهافة، فكانت تنتصب على الدوام خلف مزاميرها الشعرية، التي كانت قادرة على تثبيت الهداهد في الهواء، وإرباك الملائكة، ثم في الأخير، تبقى قادرة على إعادة تعريف الشعر، وتعزيز علاقته بالأشياء.

معنى البعيد

أن تبكي

لأنك تعرف

أنه حين تموت

لن يكون حبيبك إلى جوارك

تنثني بالأسى

لفوات العمر

دون أن تسند رأسك

-مرة واحدة-

على كتف من أحببت.

البعيد / المقيم

الفاسد / الطاهر

الأول / الأخير

الميت / المبعث

هو هو أنت أنت أنت هو هو أنت الذي ليس هو

الذي مات

لأنه لم يجد

قلبًا واحدًا يسعه

في كل العالم   

في ديوانها “هواء المنسيين” تمتحن غادة –كعادتها- قراءها ومحبيها، فتمررهم عبر أنابيب من نار تستمد لظاها من خليط التذكارات التي تخصها، أو التذكارات التي تخص بشرًا غيرها، بعض هؤلاء البشر ربما تكون غادة قد رأتهم رأي العين، وربما تكون قد سمعت بهم، أو قرأت عنهم، أو قرأت لهم، أو رأت فقط من رأوهم، هكذا تتقاطع في نصوص هذا الديوان حيوات وعلاقات وأزمنة وأسماء وعقائد وجغرافيات شتى، ويتسكع في سككها شعراء ورحالة وعشاق وسادة وخدم وبنات ليل ورهبان ومغامرون، كي تصنع لنا من ذلك النثار المتباعد سبيكة إنسانية غاية في التركيب، لكنه يبقى التركيب الخلاق الذي ينافح فكرة الإبهام، ويهدمها من الأساس، عبر مناظرته الدقيقة والأمينة لتعقيدات النفس البشرية في عمومها، الأمر الذي يجعل من الطمأنينة شكلًا من أشكال الإدراك والتواصل، ويجعل من النص الشعري فضاء أليفًا يشبه من يقرؤه، ومن ثم يصبح حافزًا على خلخلة الذات، وتحرير إرادتها.

التقطت “مايتري ديفي”

صورة فوتوغرافية

لرجل غير زوجها

أرادت كشاعرة

أن تلهم الضيف العجوز

قصيدة غير حزينة

أتت له بأطنان من الورق

كانت دونت عليه

سابقًا

أجور العمال والموظفين

بينما زوجها

مدير مصنع الكينين المجاور

يستخرج اللحاء

لعلاج الملاريا     

في ختام “هواء المنسيين”، ترمي لنا الراهبة -التي عرفنا في مبتدى الكلام أنها نذرت نفسها لحراسة المرمر الآبق- ضوءًا ساطعًا على الطريق الوعرة الموحشة التي جاءت منها إلى هنا، ففي مبتدأ نصها القاسي “محاولات متكررة لكتابة قصيدة صادقة”، تلقي غادة نبيل بالسؤال صريحًأ كطلقة:

من تظن نفسها

غادة نبيل؟

تعلّق غادة سؤالها هذا في سقف الصفحة، ثم تترك تحته فراغًا كبيرًا يشبه تنهيدة عميقة قبل أن تنخرط في الحكي، اللافت أن الشاعرة لم تضع علامة التعجب في آخر السؤال حتى تحيله سؤالًا استنكاريًا كما كان يقتضي السياق، لكنها اكتفت بعلامة الاستفهام، فيما يشير من طرف خفي، إلى إيمان غادة العميق بمشروعية هذا السؤال وضرورته، واعترافها الضمني بحاجتها إلى طرحه على نفسها، فالصيغة الاستنكارية كانت ستمنحها –بلا شك- الفرصة الكاملة للعب دور الضحية، وهو ما لم يتقبله -على ما يبدو- ضمير الراهبة.

متى ينتهي كل شيء

متى تنتهي النهايات؟  

لاتزال غادة قادرة على إعادتنا -كلما شردنا بعيدًا- إلى حياض الشعر، ومازلت حتى اليوم، أحذر أصدقائي من عبور ميدان الدقي تحت شمس حامية.