دراسات

الميتا – شعري وأسئلة الشعرية قراءة في ديوان 'برشاقة أكروبات' [1] للشاعر سامح درويش

 د.جميلة رحماني

 

على سبيل التقديم

سامح درويش شاعر مسكون بحرقة الإبداع الشعري، أصدر ديوانه “برشاقة أكروبات” بحس شعري مرهف وتجربة، يحمل في أحشائه رؤية للشعر، ومعايشة للواقع، ومعاينة لرحلة الذات في متاهات الكتابة. وما يصحب كل هذه العملية الشعرية من عوائق ولذائذ مما لا يدرك أثره، أو يحس به إلا شاعر راسخ في الإبداع. حيث سيعمل شاعرنا على تقديم عمل شعري له صفة “قطعة غيار”، يحتوي على جملة مواصفات يستند إليها في كتابته الشعرية، محاولا حفر مجراه المتفرد في تربة القصيدة، وطرح مفهوم التجديد الذي أنجزه في هذا الديوان تحديداً.

 

  1. يسألونك عن الكتابة عند سامح درويش قل هي:
  • عمل انقلابي

تتخذ من البحر نموذجاً لها، حيث الماء يثور على وضعه، ويناقض نفسه، ويفقد ذاكرته في كل لحظة. وبغير هذا الشرط تغدو الكتابة نسخا لما سبق تأليفه، وتوضيحا لما انتهى شرحه، ومعرفة بما سبق معرفته. ومع أن الكتابة لا تخلو من ممارسة مجموعة من العادات المتفق عليها، إلا أن ذلك لا يعني أن تتحول إلى قانون عصي التجاوز؛ يعاقب كل من سوّل له قلمه التمرد عليه. لأنها نقيض النسخ، ونقيض النقل، ونقيض المحاكاة. الأمر الذي جعل من مهمة الكاتب الانقلابي صعبة ودقيقة لأنها تتعلق بإلغاء نظام قائم ضارب في العمق، أو إعلان نظام بديل وتبنيه إبداعيا.  يقول:

أكتب في غفلة مني،

لكيلا أعكر مزاج القصيدة

باستعارات فاسدة

ومجاز منتهي الصّلاحية،

لكيلا ألوّث مجرى الفطرة في الكلمات (ص 9)

ولن يجيد الشاعر إلاّ إذا أطلقت قريحته من عقال التقييد، وأضيفت إلى قوتها تمديد فترة صلاحية الابتكار، فيحصل على جواز سفر يسمح له بحرية التنقل دون اعتبار الحدود الوهمية، والتحرر من كل سلطة خارجة عنه. والتمرد على كل معيار أو تصنيف أو فكر سابق، واختراقه للزمن وقدرته على الاستمرارية. حينها لا مناص من المساهمة: “في تحرير الشعرية العربية من قبضة النموذج الجاهز، والتخلص بمقدار من أصباغ البديع وأثقال البيان لصالح زوايا جمالية جديدة تنبثق من فلسفة الاستنارة وتستمد بناءها من عناصر المشهدية الحية والدهشة الخلاقة،”[2]. فلا غرو أن يكون ضرب مبدأ النموذجية في الإبداع، ومن ثم محاولة تحطيم قداسة التحفة الخالدة، لأن جوهر التحديث يقتضي البحث غير المنقطع عن أشكال؛ وموضوعات؛ وأخيلة غير مطروقة ورفض الركون إلى أدوات جاهزة نمطية، يقول:

هذا يكفيني .. قصيدتي حيث مالت الشمس تميل (ص 24)

فلا مناص من تفتيت نظام القافية باعتباره جزءا من ذلك البناء الموسيقي العام، وإنهاء دورها بوصفها ضوءا أحمر أو علامة وقوف إجبارية، بعد أن أضحت محطة وقوف اختيارية تتنفس فيها حركة مشاعر الشاعر، وأفكاره قبل أن تستأنف رحلتها. يقول:

لا أطفّف في الحلم ولا أزوّق وجه القول بقافية ( 32)

فالقصيدة مادة شديدة الحساسية تنجح عندما تترك لكي تبلور نفسها، بأكثر مما لو وضعت في قوالب معدة مسبقا.

  • محض لعب:

فهي لعبة شعرية، ولعبة إشارات ضوئية لا تتم إلا عبر اعتماد لغة موجزة،  لغة موحية، تشير وتومئ، ولا تصرح. حينها ندخل غمار لعبة أسها ‘وجع الإيجاز.. وجع إدخال الحياة كلها في خرم إبرة’، يقول:

أكتب برشاقة أكروبات

أمشي على حبل المجاز بكل ثقة واتزان

وأنا ألاعب دوائر الكلمات

أقف على رأسي بتركيز مثل راهب بوذي

فوق مفردة في الهواء

وأنا ألوح للجمهور بكلتا قفازتي

أتشقلب فوق سجادة القصيدة بخفة سنّور ( ص 33)

لعب يخلق متعة ذاتية، متعة تستثير، رأسا، اللعب النيتشوي الخلاق المربك لثقافة الانتظام، والمبلبل لمتخيل الاستتباع. لعب يقتضى التجريب، والبحث عن الجديد، والمغاير، والمختلف. لعب لا يخشى مقارعة ترسانة اللغة، والنظم، والقيم المكرسة. ”إذا الكتابة لعب، لعب بالكلمات، ولكن اللعب هنا يصبح أخطر فعل مارسه الإنسان على الإطلاق. إنه فعل وجود: مواجهة للسلطة في الكلمات”[3].

وهنا يلتقي الفنان المبدع مع الطفل الذي يلهو أو يلعب ويشتركان في كونهما يمارسان نشاطهما بتلقائية، ويلتذّان بما يعملان لأنهما يصدران عن رغبة في ذلك وليس عن الإحساس بالواجب، كما أنهما يستمعان لما يدعوهما لممارسة النشاط من دخيلتيهما، فلا يتقيدان بزمان أو بمكان لممارسة نشاطهما. كلاهما متعلق بالحرية والانفكاك من قيود الواقع. فالفنان والطفل يشتركان في خصيصة هي النأي عن تدخلات الآخرين، فالروعة في الفن وفي اللعب تصير باهتة؛ إذا ما اقتحم الناس من الخارج أسوار الأنا عند كل منهما.

يقول:

أفرقع كُرْباجي المضفور من أمعاء الخيال

فتَخُبّ على الرَّكْح أحصنة بيضاء

أقف على صهوة واحدٍ، ثم على صهوتين

ثم أتدحرج من تحت بطون الأحصنة البيضاء

مثل كائن من العِلْكِ

أمشي على حبل المجاز بكل اتِّزان

سيّان عنديَ الآن سيان

أن يقال هذا شاعر أم … بهلوان    (ص 34)

كتابة تشبه “رَمْيَةَ نَرْدٍ” على رقعة من ظلام فيهوي الكلام كريش على وجه الورق، يرسم حروفا تشع نورا تسر الناظرين. لعبة يومية مع الموت والحياة، يقول:

أكتب على أعصابي

مثل لا عب يا نصيب مهدّد بالإفلاس

تارة أرمي قلبي رمية نرد

وأتركه ينبض فوق طاولة الرّهان (ص 67)

ج-  حياة:

وله في الكتابة حياة أفلا تعبّرون؟، وهي انتشال الكلمات من الغدير الآسن الذي غرقت فيه، والعمل على أن تُسَلَّ كلمة كلمة من نسيجها القديم، وحياكتها في نسج جديد. ومن ثمَّ بثّ الروح فيها مرة أخرى لكي تصير قادرة على التكيف والاستجابة للسياق الجديد.

حتما لا جدال في أن الكتابة الشعرية هي كتابة على كتابة، حيث يجد المبدع صوته الخاص وتنفسه الخاص بعيدا عن المؤثرات التي هي حتمية. إذ لا يوجد شعر بدون تأثر وتبادل. المهم أن لا يكون التداخل مباشراً.

أكتب كي أعيد نبض الحياة للكلمات

وأستخلصَ العطرَ من الحجرِ

أكتب بمزاج سنبل

 كي أصنع من الحب معادلَ قنبلة ( ص 11)

فالشاعر إنسان جوال بين اللغة يعود إلينا بين الحين والآخر بأزهار لم نرها من قبل، ويحكي لنا عن عوالم لم نخبرها. طائر يحلق في فضاء المعاني يهيم في بحورها ويعود ليتربع فوق غصن القصيدة منشدا ”أغنية السلام”.

د- تطهير:

الكتابة ليست إنعاشا للعواطف فحسب، بل إعادة الانسجام للذات بعد حالة التوتر والقلق. فلا غرو أن تكون نوعا من الخلاص الشخصي من قيد الانفعالات الحادة التي يعيشها، والقلق الذي يأسره. يقول:

أكتب كي لا أتأسّن

أكتب بأحلام نبع مدلّلٍ بتوته البرّيّ

بضجة مطر يهطل بغتة في أول الصيف

بذاكرة نهر يمضي رقراقا إلى الغرق

…….

كي تنظفني من الأحلام الميّتة ( 62)

  1. هذه صورتها وذاك شأن القصيدة

وإذا سألك متعبد في محراب الشعر عن  مناسك كتابة القصيدة في ديوان “برشاقة أكروبات” فقل أن حبر سامح درويش مازال يخفق شغبا بانِيا لجوهر الجمال الناطق والحقيقي، سخِيا في طرح قضايا تطرق بابَ الكتابة الشعرية، ليعرض لنا أنواع القصائد التي تتراقص فوق سجاد الشعر.

القصيدة الرشيقة: يحاول سامح درويش تقديم ”قصيدة/وصفة”، كتابة قصيدة بشكل جديد، وإلباسها ثوبا عصريا ومريحا وفق قياسات ”الموضة”، مركزا على الاختصار ومهتما بالتكثيف، معتمدا على ”ريجيم” حتى لا تصاب بالبدانة، فتتثاقل في التحرك.. يقول:

أكتب برشاقة أكروبات

أمشي على حبل المجاز بكل ثقة واتزان،

وأنا ألاعب دوائر الكلمات. (ص 33)

والرشاقة كما يعرفها تشيخوف: ” هي أن يصرف الإنسان أقل الحركات الممكنة لتأدية عمل معين”[4]

القصيدة الخنثى: إذا عُقِدَ قران الشعر على الحكمة، حينها سنُرْزَقُ بمولود يسمى “قصيدة خنثى”؛ خصوصا إذا لم تُقَدَّمْ بوسائل فنية خاصة. يقول

لكيلا أسقط في شَرَكِ الحكمة الخادعة

وأقعدَ دون شعري

كأي خنثى بين الحكمة والشعر(ص 9)

فالشاعر لا يعرض آراءه، ولكنه يعرض رؤية، حتى إذا ما صعد على منصة الشعر قدم قصائد تنبض جمالا، وتنساب من بين يديه كرحيق الورد عطره يعبق الأجواء. فهو يتمثل أفكاره لتتحول إلى رؤى وصورٍ، كما يتمثل النبات ضوء الشمس ليتحول إلى خضرة مظللة وزاهية.

القصيدة العاشقة: قصيدة تهفو إلى زرع وردة حب على جسد الشعر، مادام الحب شرارة الوجود تلهب القرائح كما تلهب الخدود. فعلى امتداد التراث الشعري والجمالي الذي اجترحته الإنسانية عبر تاريخها الطويل هناك صراع ضد القبح الذي يعتلي وجه العالم. فحيثما يكون ضرب في القلب فثمة الشعر الحق.

أكتب بأشواق عاشق ولهانْ

أفرش قلبي وأجلس بين أزهاري

كأني في قصيدة غناء

أشمّ أريج الكلمات عند القطاف

 ( ص 29).

يضرب الحب بسهامه القلوب ما شاء إذا كان النبوغ بين الحاء والباء. فليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب. يقول

 

سأستعمل غاز الشّعر

كي أبيد ما استطعت

من عساكر الحقد

بلا هوادة

سأقصف راء الحرب

وأمدّ جسرا من القُبَل بين حائها والباء (ص 38)

  1. طريق القصيدة إلى حريتها:

 الشعر شجرة ماؤها الذي يغذيها مجاز، وجذورها التي تجعلها ثابة في الأرض لغة أُحْكِم اختيارها، والتربة التي تحتضنها حلم نُسِجَ من عمق الخيال. فالمجاز واللغة والحلم في ارتباطه بالقصيدة عند سامح درويش كتعانق البحر مع الأرض مدّا وجزرا. مجاز بفرط نوره تشتعل أضواء بين أضلع الكلمات، ولغة من لظاها تسكن الأعماق، وحلم من لهيبه تتغذى القصيدة.

المجاز: مصدر إيحائي في الشعر، والانتقال بالأداء البلاغي من بساطة التشبيه والكناية والتورية إلى التلاحم المجازي الذي تتضافر على إقامته عناصر وقرائن شتى؛ تمنح النص الشعري صفة كلية مجازية؛ وترتقي بالعلامة الصوتية؛ أو الكاليغرافيةٍ؛ أو الفراغات إلى دور الريادة لم تكن لتحظى به سابقا، يشبه دور الماء الذي يتخلل مسام التربة فيشبعها. كما يؤكد ذلك كولردج في قوله أن ”الشعر من غير المجاز يصبح كتلة جامدة.. لأن الصور المجازية هي جزء ضروري من الطاقة التي تمد الشعر بالحياة”[5] ويقول شاعرنا:

أنا الفدائيّ الذي رأى النور على أرض المجاز

وشبّ … مثل حريق في غابة الأمل (ص 15).

اللغة: هي أول المفاتيح التي تُدخلنا في عالم الصور والألفاظ والتعابير، والظاهرة الأولى في كل عمل فني، والنافذة التي من خلالها نتنسم. فهي ملازمة للشاعر، كملازمة القلم للورقة في الكتابة الشعرية ومن أساسياتها. فلكل قصيدة لغتها الخاصة حسب تجربة الشاعر، عبرها ندرك ما يريد أن يثبته في تلك السطور.

 ليست في بساطتها أو جلالها هي المحك، ولكن الطاقة أو العاطفة أو الحركة التي يسبغها الشاعر عليها هي التي تحدد قيمتها. فتتحول بدخولها عالم الكتابة إلى شكل وإشارة دالة على معان لا تنتهي، حاملة ظلال رقيقة للأفكار والمشاعر. ومن ثم ارتقاء المكتوب من حيز الملفوظ المغلق إلى فضاء النص المنفتح والتعددي. يقول:

 

أزرع الكلمات مثل عباد الشمس

وأرقب كيف تشق النبتة قشر التراب

وكيف تيْنع في الضّياء

أرقب ارتعاش الزّرع من فرح الصّباح (25)

تصبح اللغة في التجربة الجمالية إشارة حرّة مغسولة من الصدأ و”الاستخدام الشائع الجاري، إنها نوع من العودة إلى البراءة الأول للكلمات”[6]. إذ يتمّ تحريرها على يدي المبدع الذي يطلق عتاقها، ويعيد لها الحياة على إيقاع زمنه الحديث، دون أن يقيدها مرّة أخرى بتصوّر مجتلب من بطون المعاجم، بل يتفاعل معها؛ ويفتح أمامها أبواب خياله. فتفرده في استعمال الكلمات الدقيقة المبتكرة البعيدة عن المألوفة والمعتادة، وخلق صورة متفردة وإحساسا ذاتيا مكثفا عميقا، سيميزه ويفرده.

الحلم: يلوذ الشاعر بالحلم ليفكك صورة الحاضر إلى أجزائها الصغرى ليعيد تشكيلها وفق هواه، فينشر عليها ألوان الماضي وعبقه. إذ يشكل الحلم عتبة رئيسة، وعصبا فارقا في تطوير القصيدة، يدفعها إلى آفاق مثيرة للدهشة والتأمل. ويظل الهاجس الأهم والمفصلي في تخليص القصيدة من ركام العادة والمألوف، وتحويلها في الوقت نفسه إلى طقس شعري، تمتزج فيه شتى ألوان المعرفة، بهموم الإنسان وأحلامه في العدل والحب والحرية. يقول:

وعلى جبيني أحمل حلمي شكْلة المصباح

قلبي بطارية الشحن

وضوئي من تلقاء نبضي أقدحه

كي أشق حلكة الأنفاق (ص 35)

فيصنع الشاعر حلمه نائما ويقظا في مختبر القصيدة، لأنه ذو حظ في الخيال عظيم.

 

على سبيل الختم

إنّها رحلة معراجية خاضها الشاعر سامح درويش في ديوانه برشاقة أكروبات إلى سماوات البحث عن ملكة الإبداع جديدة، وسفر سلكه كعتبة إلى حيث القصيدة المحلوم بها، أو ليست الكتابة ذاتها سفرا خياليا في الأجساد والأرواح، في الجغرافيات والتواريخ. رحلة كان برنامجها لإقرار أن الشاعر ليتجاوز الفجوة بينه وبين القصيدة/الوصفة محتاج إلى ”كتالوج”. لعل ذلك من شأنه أن يحقق التفرد والتجدد للشاعر، ويساعده على ترك بصمته واضحة على  جبين الحياة.


المراجع

  • أدونيس، زمن الشعر، دار الساقي لنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 6، 2005.
  • ديوان برشاقة أكروبات، سامح درويش، منشورات الموكب الأدبي، 2015.
  • ديوان خنافس مظيئة، سامح درويش، منشورات الموكب الأدبي، 2015.
  • البيانات، جمع وتقديم محمد لطفي اليوسفي، سراس للنشر، تونس، 1995، ص 18/19.
  • الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، اليزابيت درو، ترجمه الدكتور محمد إبراهيم الشوش منشورات مكتبة منيمه بيروت

 

[1] – ديوان برشاقة أكروبات، سامح درويش، منشورات الموكب الأدبي، 2015.

[2] – تقديم ديوان خنافس مظيئة، سامح درويش، منشورات الموكب الأدبي، 2015، ص 5.

[3] – البيانات، جمع وتقديم محمد لطفي اليوسفي، سراس للنشر، تونس، 1995، ص 18/19.

[4] –  الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، اليزابيت درو، ترجمه الدكتور محمد إبراهيم الشوش منشورات مكتبة منيمه بيروت

ص 64.

[5] – الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، لإليزابت درو، ص 59.

[6] – زمن الشعر، أدونيس، دار الساقي لنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 6، 2005، ص 272.