دراسات

قراءة بنيوية في ديوان بيدق أسود في يد الجنرال للشاعر اليمني محمد اللوزي

أحمد الفلاحي

يُعد الشاعر محمد اللوزي واحدًا من أبرز الشعراء الذين أخلصوا لقصيدة النثر في اليمن، حيث بقي وفيًا لمعايير القصيدة من حيث البناء والرؤية. في هذه القراءة، سنستعين بمفاهيم رئيسة من النظرية البنيوية، مثل التباين، التكرار، التوازي، التركيب السردي والزمني، والإشارات الدالة، كأدوات تحليلية لفهم كيفية تفاعل هذه المفاهيم داخل النصوص المختارة من الديوان.
البنيوية، كمنهج نقدي، تركز على فحص الأنظمة والعلاقات داخل النص الأدبي بعيدًا عن السياق الخارجي، مثل حياة المؤلف وعلاقاته (موت المؤلف). وهي تفترض أن المعاني تتشكل من العلاقات بين العناصر المختلفة داخل النص.
يضم الديوان مجموعة من النصوص التي تتناول مواضيع متنوعة تشمل الاغتراب، الحنين، المجتمع، والتأملات الفلسفية.
يفتتح اللوزي ديوانه بنص “وجه مألوف” ويختتمه بنص “خطوة للأمام”، مما يعكس رحلة الشاعر من التأملات المتنوعة إلى التطلع نحو النجاة من براثن اللعبة التي يقودها صاحب الخطوة الواحدة، الذي يوحي لنا بأنه الملك وضحاياه هم الجنود.

الشاعر والمترجم محمد اللوزي: جيل التسعينيات في اليمن لم يستطع تجاوز نفسه | ثقافة | الجزيرة نت

وجه مألوف:

كل من رآني قال لي: لقد رأيتك من قبل

كل من رآني قال لي: كان وجهك مألوفا

لست متأكدا من أين، ولكنني واثق أنني رأيتك

قلت لهم: ربما تكونون مخطئين

قالوا:

 لا،

لا،

لقد رأيناك، كان وجهك مألوفاً

للقراءة من منظور بنيوي، سنركز في هذا النص على التكرار والتباين والبنية السردية. يظهر التكرار في النص في جملة “كل من رآني قال لي”. يخلق التكرار نوعاً من التأكيد المستمر على الموضوع الأساسي للنص، وهو الاغتراب وعدم الانتماء، كما يعزز التكرار الشعور بقلق مستمر وعدم التأكد، حيث يتردد الشاعر بين الحقيقة والخيال ولا يستطيع الجزم.

أما التباين بين مفهوم “المألوف” و”الغريب”، فيشكل محوراً أساسياً في القصيدة، إذ يلعب النص على فكرة الإدراك الشخصي والذاكرة، مما يجعل المتلقي يندمج في الشعور بالضبابية وعدم اليقين.

يلعب النص على البنية السردية، فهو يتبع بنية دائرية حيث يبدأ وينتهي بنفس الفكرة، مما يعزز فكرة الدورة اللانهائية للبحث عن الهوية وعدم التوصل إلى نتيجة حاسمة. هذه البنية تعكس شعوراً عميقاً بالضياع والانفصال عن الذات

وجه:

رأيت وجها في الحلم

كان وجها مختلفا عن كل الوجوه

وجها لم أره من قبل

كان مألوفا، غريبا في الوقت نفسه

استيقظت وأنا أحاول تذكره

لكن الوجه ضاع في الضوء

سنقوم بتحليل هذا النص من خلال التباين، البنية السردية، والرمزية. يظهر التباين بوضوح في الفرق بين “المدرك” و”الغير مدرك”، مما يعكس تعقيد هوية الشخصية وتشوشها. يعمل الحلم كمساحة لظهور هذه الهوية المتناقضة بين طيات النص.

بينما تُبرز البنية السردية في النص فكرة الانتقال من الحلم إلى الواقع فينشأ عنها نوعا من الانفصال بين ما هو زماني ومكاني، هذا الانتقال يضع القارئ في حالة اضطراب، اذ أن فكرة “الوجه ضاع في الضوء” تشي بماهية الفقد، فقد شيء ما كان ملموسا لكنه ما لبث يتحول إلى غموض. أما الرمزية في هذا النص فهي تستند إلى مفهوم الهوية، فالوجه هنا يرمز إلى هوية أو ذات يؤطرها النص رمزياً فيحاول المتلقي استيعابها، لكنها تظل غامضة وغير محددة، وكلمة الضوء في هذا السياق، يمكن أن تكون رمزا للعقل الواعي الذي لا يمكنه استيعاب كل ما هو غير واعي. 

أحلام السجين:

كانت طائرتي الورقية تطير بلا انقطاع

لكن الوتر لم يتحرر

كنت أسيرا لطائرتي الورقية

وأحلامي كانت سجينة الوتر

الوتر كان يمتد ويمتد

لكنه لم ينقطع أبدا

تظهر الرمزية في هذا النص بإحالة الطائرة الورقية إلى مفهوم الحرية والطموحات، بينما الوتر الذي بواقعه يأخذ دلالة النغم لكنه هنا يرمز إلى القيود والواقع فهو لم يتحرر بوصفه نغم الأناشيد للتغني بالوطن والحب، وعدم التحرر يكمن خلفها مفهوم القسر بمدلوله السياسي والاجتماعي، هذه الرمزية التي افتعلها الشاعر عن غير ذي قصد اذ ان السياق يعني الوتر المربوط بالطائرة الورقية والريح عادة ما تحاول خلخلة الثبات، وإذا ما سلمنا بتلك الإشارة بكون الخيط المربوط بالطائرة الورقية لم ينقطع او يفلت من يده الممسكة فهذا يعكس الصراع الداخلي للشخصية بين رغبتها في التحرر وقدرتها على ذلك، لكني أميل إلى تحميل دلالة الوتر إلى النغم بوصفه حرية موازية تتاخم قضايا التحرر، وحتى لو كان وتر الطائرة فهو يصدر صوتا كلما داعبته الريح.

يبرز في النص بنية ثنائية بوصفها مؤشرا لمفهوم بنيوي، إذ يعتمد النص على الثنائية بين الطيران (الحرية) والوتر (القيد)، مما يعزز فكرة التوتر المستمر بين الرغبة في التحرر والواقع المقيد.

أمّا البنية السردية في النص فهو يتبع سردية تصاعدية حيث يمتد الوتر مع علو الطائرة لكنه لا ينقطع أبداً، وأجد ذلك يعكس فكرة الأمل الذي يسعى إليه الشاعر لكنه لا يتحقق رغم الاستمرار في السعي دون الوصول إلى هدف مرسوم او هدف يأمل في تشكله رغم الريح.

سباق الطائرة الورقية:

في سباق الطائرة الورقية

كان الطير أسرع

كانت الطائرة الورقية تحاول اللحاق به

لكنه كان يبتعد

كانت الطائرة الورقية تطير عاليا

لكنها لم تصل أبدا

كان الطير يراقب من بعيد

وكأن السباق لم يكن سوى لهو للإنسان

في المجموعة الشعرية للشاعر اللوزي والتي تكاد أن تكون نصوصاً متصلة أو متتابعة تحمل نفس الثيمة والدلالة فقد يشير ذلك إلى كون المجموعة نصاً واحداً، ولكيلا نحّمل مدلولاتنا على المجموعة بوصفها عملاً ابداعياً محضاً، يحق للشاعر أن يدلي برؤاه بطريقته وتقسيمه للنصوص أو عنونتها كما يحب، فنصوص الطائرة الورقية ظهرت بشكل متتابع لتكتمل الفكرة. وفي نص سباق الطائرة الورقية اعتمد الشاعر على فكرة التوازي، نجد النص يعتمد على التوازي بين الطائرة الورقية والطير ليظهر التنافس بين الإنسان والطبيعة، وهذا بدوره يبرز حدود القدرات البشرية مقابل قوة الطبيعة.

النص السابق يتبع سردية مفتوحة إذ أن السباق لا ينتهي بفائز محدد، وهذا يعكس عبثية الجهود البشرية في مواجهة الطبيعة.

أما فكرة التباين بين الفعل (محاولة الطائرة الورقية اللحاق بالطير) والنتيجة (الطير يبتعد) تعزز الشعور بالاستحالة والفشل الذي يمكن أن يعكس جانباً من التجارب الإنسانية، وأن السباق استحال الى فكرة اللهو للإنسان.

الطائرة الورقية والنسر:

واجهت الطائرة الورقية نسراً في السماء

كان النسر قوياً وجباراً

لكن الطائرة الورقية كانت ملونة

تساءل النسر عن هذه الأشياء الضعيفة

لكنه شعر بالتهديد من ألوانها

حاول أن يمزقها

لكنها ظلت تطير بلا خوف

يتابع الشاعر رحلته مع الحرية ويحيل فكرة الحرية الصاعدة للأعلى إلى طائرة ما تلبث أن تواجه عثرات جديدة، وهذه المرة كان النسر وهو إحالة الى جبروت الدكتاتور مقابل الشعب الذي يتوق الى الحرية.

التباين هنا بين الطائرة الورقية الضعيفة والنسر القوي يعكس الصراع بين القوة والطموح البشري، فالطائرة الورقية تمثل الضعف الظاهري الذي قد يحمل في داخله قوة غير متوقعة.

الرمزية في هذا النص تشير الى أن النسر يرمز إلى السلطة أو القوة التي تهدد الطموحات البسيطة أو الضعيفة (تساءل النسر عن هذه الأشياء الضعيفة) وشعر بالتهديد من ألوانها وهذه إحالة الى التعددية، لكن النص يشير إلى أن هذه الطموحات ستظل قوية وتستمر في مواجهة هذه التهديدات (حاول تمزيقها).

أما بنية النص السردية، فالنص يتبع سردية المواجهة حيث يظل كل من النسر والطائرة الورقية في حالة من التوتر، مما يعزز الشعور بالصراع المستمر بين القوى المختلفة.

 الملك الكثير:

كان للملك الكثير من الجنود

كان لديه الكثير من الحاشية

كان لديه الكثير من القصور

لكن الملك كان وحيدا

كان يجلس على عرشه العالي

يشعر بأن كل ما لديه لا قيمة له

كان الملك حزيناً 

يعتمد النص على تكرار كلمة “الكثير” لتأكيد وفرة الأشياء المادية التي يملكها الملك، لكن هذا التكرار يكرس في الوقت نفسه الشعور بالفراغ الداخلي والوحدة.

التباين بين “الكثرة” و”الوحدة” يعكس فراغ السلطة عندما تكون معزولة عن العلاقات الإنسانية الحقيقية، فهو يسلط الضوء على التناقض بين الامتلاك والحرمان العاطفي.

النص يتبع بنية سردية تنازلية حيث يزداد الشعور بالوحدة والحزن مع كل إشارة إلى ما يملكه الملك، مما يعزز من تأثير الفراغ العاطفي لدى القارئ.

الفتى الفائض:

الفتى الذي فاض مثل كأس

كان الفتى ممتلئا بالأفكار

لكنه كان فارغًا من الداخل

كلما حاول أن يمتلئ

زاد فراغه

كان الفتى فائضًا

لكنه لم يكن يشعر بشيء

يعتمد النص على تكرار فكرة “الفيض” و”الفراغ”، وهذا بدوره يعكس الصراع الداخلي بين الوفرة الظاهرية والفراغ الداخلي، كان الفتى ممتلئا، لكنه كان فارغا من الداخل.

في النص بنية ثنائية يستخدم النص فيها ثنائية الامتلاء والفراغ بشكل فعال لخلق شعور بالتناقض الداخلي، هذه الثنائية تظهر حالة من الضياع وعدم القدرة على إيجاد معنى حقيقي في الحياة.

 الرمزية في النص يستخدم النص الفتى بوصفه رمزا إلى الحالة الإنسانية الحديثة التي تمتلك الكثير من المعلومات والأفكار لكنها تفتقر إلى الشعور الحقيقي والمعنى.

  شجرة البن:

شجرة البن ماتت بعيداً عن أرضها

كانت الشجرة حزينة

لم تعد جذورها تلامس التربة التي تعرفها

كانت أوراقها ذابلة

وقلبها مكسور

ماتت الشجرة وحيدة

البنية الرمزية هنا هي شجرة البن والتي تمثل الجذور الثقافية والانتماء، والموت بعيداً عن الوطن يعكس الفقدان والاغتراب، نجد النص يعتمد على هذه الرمزية لتعزيز الشعور بالفقدان والحنين.

أما التباين بين الحياة في الوطن والموت في المنفى فهو يعزز الشعور بالحزن والاغتراب. 

يعتمد النص على بنية سردية تنازلية يمكن أن نسميها الهبوط حيث تبدأ الشجرة قوية ثم تذبل وتموت في النهاية، هذا التدرج يدعّم فكرة الانفصال عن الجذور باعتبارها سببا رئيسيا للفقدان، هذا الانحدار التدريجي يعكس تأثير الانفصال عن الأرض والهوية على الكائن، سواء كان نباتاً أو إنساناً.

أمّا البنية الرمزية تكمن في الشجرة بوصفها رمزاً للحياة، وموت الشجرة يعكس النهاية الحتمية لفقدان الانتماء والهوية، مما يبرز أهمية الجذور الثقافية والانتماء الى المكان بوصفه عنصرا حيويا للحياة.

  بلا صوت:

حياتي فيلم صامت

كل شيء يتحرك من حولي

لكني لا أسمع شيئاً

أرى الناس يتكلمون

لكنني لا أفهم كلامهم

أعيش بلا صوت

وأحلم بصوت

في هذا النص يبرز التناقض بين الحركة والصمت يشكل محور النص، إذ يعكس التناقض بين الحواس المختلفة حالة من الانفصال بين الذات والعالم الخارجي، وحياتي فيلم صامت يشير هذا السطر الشعري الى أن الصمت هنا ليس فقط فيزيائياً، بل هو صمت معنوي يعبر عن عدم القدرة على التواصل أو التفاعل مع الآخرين.

النص يكرر فكرة الصمت بشكل مكثف ليعكس الحالة العميقة من العزلة. التكرار يعزز الشعور بالغربة والانفصال عن الواقع، حيث تصبح الحياة مشابهة لفيلم صامت، يفتقر إلى الأصوات التي تجعله حيًا ومترابطاً.

والرمزية بوصفها علامة بنيوية يتمركز عليها النص بجعل الفيلم الصامت يمثل الحياة التي تفتقر إلى الأصوات والألوان الحقيقية، أما الحلم بالصوت فيشير إلى الرغبة في تجاوز هذا الصمت والعثور على وسيلة للتواصل الحقيقي.

غرباء المدينة:

غرباء يجوبون المدينة

عيونهم تائهة

وجوههم بلا ملامح

كانوا يسيرون بلا وجهة

وكانت المدينة تبتلعهم

كأنهم لم يكونوا يوماً

يبني الشاعر هذا النص على فكرة التوازي، إذ يعتمد على التوازي بين “الغرباء” و”المدينة”، وهذا يعزز الشعور بالاغتراب والضياع، بينما التوازي يُظهر المدينة بوصفها كائنا ضخما، يلتهم الغرباء مما يجعلهم غير مرئيين وغير مؤثرين.

ويستمر الشاعر بأخذ البنية الرمزية، فالغرباء يمثلون أولئك الذين يفتقدون الهوية أو الانتماء في المجتمع، أما المدينة هنا فهي رمز للحضارة الحديثة التي تبتلع الأفراد وتفقدهم هويتهم وتفردها.

 ويميل النص إلى بنية سردية مفتوحة حيث لا يوجد نهاية واضحة، هذا الأمر يعكس شعورا بالدوامة والضياع، فالمدينة تبتلع الغرباء وكأنهم لم يكونوا أبدا، وهذه هي فكرة الانسحاب الكامل للهوية.

هروب:

الفتى أراد الهروب

لكن القيود كانت كثيرة

كانت الأبواب مغلقة

وكانت الجدران عالية

حاول التسلق

لكن يداه كانت ضعيفة

انتهى به الأمر جالساً على الأرض

ينتظر الفرج

عمد الشاعر في هذا النص السابق على التوازي واستمر في بنائه في هذا النص، إذ يعتمد على التوازي بين الرغبة في الهروب والقيود التي تمنع هذا الهروب والتسلق، هذا التوازي يُظهر الصراع الداخلي بين الإرادة الشخصية والعوائق التي تفرضها الظروف.

ثم ما لبث أن يجتر التكرار بوصفه ملمحاً بنيوياً لتشكيل النص، فعمد إلى تكرار فكرة القيود والعوائق لتكثيف الشعور بالعجز واليأس، يعي الشاعر أن التكرار يعزز من تأثير الصراع النفسي الذي يعيشه الفتى.

البنية السردية في هذا النص تكمن في سردية تصاعدية تنتهي بالهبوط، ليعكس فشل الفتى في الهروب وإحساسه بالعجز، وجلوسه على الأرض وأعني الفتى هنا ينتظر الفرج، تعكس هذه السردية فكرة الاستسلام للوضع القائم، وبهذه الفكرة يعزز النص الشعور باليأس والانكسار.

سجّان:

السجين أصبح سجّانا

كان يجلس خلف القضبان

ينتظر دوره في الهروب

لكنه أدرك فجأة

أنه هو السجّان

كان يمسك بالمفاتيح

وكانت القضبان في يديه 

ابتعد الشاعر في هذا النص عن التوازي واستخدم بنية التباين، حيث أعتمد على التباين بين دور السجين والسجان، ليخلق توترا درامياً يعكس من خلاله عملية التماهي مع القمع، والتي تكرس مفهوم المازوشية التي تستحيل إلى “عقدة ستوكهولم “هذا الحب الذي يتحول إلى تقمص تام، هذا التباين في النص يبرز التداخل بين الهوية الفردية والسلطة المفروضة.

البنية الرمزية في هذا النص ليست مباشر وإنما ايحاء دلالي، فالسجين الذي يتحول إلى سجّان يرمز إلى فكرة السلطة الداخلية التي يفرضها الفرد على نفسه، حيث يصبح الإنسان سجّانا لنفسه عند الوصول الى مرحلة الاستلاب بعد فشله في محاولته للهروب من القيود.

البنية السردية في هذا النص هي سردية مفاجئة حيث يكتشف السجين أنه هو السجان، هذا الاكتشاف المفاجئ يعزز من الشعور بالارتباك والاضطراب الداخلي، بحيث تتداخل الأدوار وتصبح غير واضحة.

 طــائر:

الطائر لم يعد يستطيع التحليق

كانت أجنحته مثقلة بالخوف

كلما حاول الطيران

سقط على الأرض

كان ينظر إلى السماء

لكنه لم يجرؤ على التحليق

ظل الطائر وحيدًا على الأرض

ينتظر يوما بلا خوف

في هذا النص تتجلى البنية الرمزية في إسناد الطائر إلى الحرية والطموح، لم يكن هذا الإسناد على استحياء وإنما عمد إليه النص باعتبار الطائر في تحليقه بالمفهوم الجمعي حرية وسمو، لكن الخوف الذي أسند الشاعر لأجنحة الطير يمثل القيود التي تمنع هذا الطموح من التحقق، وبهذه الإحالة تمكن الشاعر من إبراز صراعا داخليا بين الرغبة في الحرية والخوف الذي يمنعها.

استعاد الشاعر بنية التوازي التي اختفت في النصين السابقين، إذ اعتمد هنا على التوازي بين النظر إلى السماء (الطموح) والبقاء على الأرض (الخوف)، هذا التوازي يعكس فكرة الصراع بين الرغبة في التحليق والانغماس في الواقع الأقسى.

كما جنح اللوزي الى بنية سردية يمكن أن نسميها سردية الانتظار، حيث يبقى الطائر على الأرض دون تحليق وعيناه الى السماء مما يعكس حالة من الجمود والعجز عن التقدم. انتظار يوم بلا خوف يعزز من شعور الأمل المثقل باليأس. 

البنطال الحزين:

البنطال الأسود يعكس حزناً عميقاً

كان يحمله الشاب كل يوم

كلما ارتداه

شعر بالحزن يتسلل إلى قلبه

كان البنطال يذكره بكل ما فقده

كان الشاب يرتديه

لكنه لم يكن يرتدي شيئاً

يعمد اللوزي في هذا النص الى بنية رمزية لتمثيل الحزن، فالبنطال الأسود يرمز للحزن الذي يحمله الشاب معه يومياً إذ أن اللون الأسود هنا يرمز إلى الفقدان والحزن الدائم.

بنية التكرار في النص تجتر فكرة الحزن والارتداء وتعكس ارتباط الحزن بالهوية اليومية للشاب، هذا التكرار يعزز من تأثير الحزن على النفس وعلى الحياة اليومية.

أما التباين الذي استخدمه اللوزي في النص بين ارتداء البنطال والشعور بعدم الارتداء، يظهر عملية انفصال الشاب عن ذاته الحقيقية وانغماسه في حالة من الحزن العميق التي تحجب هويته الحقيقية. 

 النص:

قبل أن يغمض عينيه  

ويتجه بالخطى صوب الأفق  

لا يحمل في يديه شيئاً.

   عندما يمسك اللوزي بناصية الشعر تماما تأتي النصوص أكثر عمقا وتركيزا رغم صغرها وفي هذا النص والنص الأخير، سيكون تحليلنا لهما أكثر استفاضة.حيث سنركز على التركيب اللغوي والرمزي ونتحدث عن بنية الزمن والتباين والبنية السردية والسياق الاجتماعي والثقافي.

في النص أعلاه نجد تركيبه اللغوي والرمزي يتألف من جمل قصيرة ومكثفة، تنقل للمتلقي إحساسا بالبساطة والتجريد وهو ما يعمد إليه الشاعر في نصوصه أغلب الأحيان. في النص كلمة “يغمض” تشير إلى فعل يومي وعادي باعتباره ممارسة يومية بفعل الحاجة البيولوجية للنوم، ولكنه في هذا السياق قد يحمل معنى أعمق؛ ربما يكون رمزا للنهاية أو الموت أو الدخول في غيبوبة الحلم، والفعل “يتجه” يضيف حركة ديناميكية للنص، لكنه يتجه نحو “الأفق” وهذا يشير إلى نهاية أو انتقال إلى حالة جديدة أو مرحلة. “لا يحمل في يديه شيئاً” هي جملة تضيف إحساسا بالفراغ أو التخلّي، وهذا يشير إلى أن الرحلة النهائية هي رحلة منفردة، خالية من التعلق المادي.

 بنية النص الزمنية تتجسد في تحدث النص عن لحظة محددة من الزمن “قبل أن يغمض عينيه”، وهذه اللحظة تحمل بعداً زمنيا يتجاوز الحاضر إلى شيء أبعد، ربما إلى لحظة الانتقال بين الحياة والموت او الحلم. ان الزمن هنا مضغوط، كأن الشاعر يحاول أن ينقل لنا شعورا بأن فكرة الزمن ليست إلا وهماً أو يفقد قيمته ليصبح دون أهمية في اللحظات الأخيرة.

يركز النص على التقابل والتناقض فهو يستخدم التناقض بين الحياة اليومية العادية (إغلاق العينين) وبين النهاية المحتملة (الاتجاه نحو الأفق)، يعزز التناقض بين الأفعال الصغيرة والمعاني الكبيرة ي من تأثير النص على القارئ فيضع مجموعة من التكهنات.

 من منظور بنيوي، يعمد النص إلى سياق اجتماعي وثقافي من خلاله يمكننا القول إن النص يبرز موقفاً وجودياً، إذ لا يقدم الشاعر إجابات، بل يعرض حالة من التأمل العميق حول الفناء في المجتمعات التي شهدت الحروب أو الصراعات التي تجعل النص متجاوبا مع مشاعر الإحباط والعدم، يمكن القول إن النص يشكل خلاصة فلسفية تجسد روح الديوان بأكمله التي يتجلى فيها البحث عن المعنى في عوالم متشابكة ومعقدة، بحيث قد تكون الإجابات غير موجودة.

خطوة للأمام

كما لو إنه ملك  

يخطو البيدق خطوةً واحدة  

ولكن للأمام فقط.

النص “خطوة للأمام” والذي اعتبره انا هو خلاصة الديوان أو ما أراد اللوزي أن يخبر به القارئ، فالنص يحمل في طياته عمقاً رمزياً يجسد فيه الصراع الداخلي والخارجي للفرد من خلال توظيف صورة البيدق، يقدم الشاعر تأملاً عميقاً حول حتميات وقيود نواجهها في حياتنا اليومية نقف أمامها في بله تام.  ومن منظور البنيوية، يمكن اعتبار النص تعبيراً عن التأرجح بين القوة والضعف، والسيطرة والخضوع، وهذا ما يثير التساؤل عن مدى الحرية الحقيقية التي نتمتع بها في خياراتنا الحياتية.

 يركز اللوزي على البنية اللغوية وتراكيب النص، فهو يتكون من جمل قصيرة كي يعزز من خلالها الإيقاع المتواتر فيه ويعكس التوتر الداخلي أو الحيرة التي يشعر بها المتلقي. إن استخدام الاستعارة هنا “كما لو إنه ملك” يضفي بعدا رمزياً على النص، إذ يشير إلى الفرد الذي يتحرك بخطوات محددة ولكنها موجهة نحو الأمام فقط، واستخدامه للفعل “يخطو” يضيف إحساسا بالحركة المستمرة، بينما عبارة “خطوة واحدة” تشير إلى القيود المفروضة على هذه الحركة.

 ولعرض الدلالات الرمزية في النص نجد أن الملك يرمز للقوة والقدرة على التحرك بإرادة كاملة، رغم أن البيدق هو القطعة التي تتحرك بخطوة واحدة فقط للأمام، مما يرمز إلى التقدم المحدود تحت ضغط الاستراتيجيات الخارجية، هذه الصورة تعكس حالة الوجود الإنساني، حيث الفرد يكون محاصراً بتقييدات الحياة ولكنه يظل مضطراً للمضي قدماً، يتحدث النص عن صراع داخلي بين الرغبة في التحرك والتحرر، وبين القيود المفروضة من الخارج.

  البنية السردية والزمنية في النص نجده يستخدم الزمن بطريقة تكثيفية، فمثلاً جملة “كما لو انه ملك” توحي بوجود إحساس زمني مختلط بين الماضي (الملك) والحاضر (خطوة للأمام)، هذه البنية الزمنية تعكس فكرة أن الماضي (بكل ما يحمله من قوة أو سلطة) يقيد الحركة في الحاضر، فالزمن هنا ليس مجرد خلفية للأحداث بل عنصر فعّال يتحكم في توجهات الشخصيات. أما البنية السردية فهي قائمة على التتابع بين صعود وهبوط، ومن خلال هذا البناء السردي في النص يعمد الشاعر الى خلخلة الصورة النمطية لخطوات الشطرنج.

 بنية التقابل والتناقض في نص خطوة للأمام تبرز بين “ملك” و”بيدق”، حيث أن الملك هو صاحب القوة والسيطرة، بينما البيدق هو العنصر الأضعف في اللعبة، هذا التناقض يشير إلى الازدواجية في الطبيعة الإنسانية، إذ أن كل شخص يحمل في داخله قوةً وضعفاً، ويتمحور الشخص حول كيفية التوازن بينهما في مسار حياته.

 من منظور البعد الاجتماعي والثقافي، نجد النص يجسد التوترات الاجتماعية والسياسية في المجتمع، فالبيدق يكون رمزاً للفرد العادي الذي يجد نفسه مرغماً على التحرك في مسار معين وضعته له السلطة السياسية ممثلة بقوانين وحقوق ووجبات فيما لو كان سلطة ديموقراطية، أما إذا كانت سلطة قمع وهي الأقرب بالمعني، إذ أن الملك كان رمزاً للديكتاتورية، فالفرد هنا يكون محركاً بفعل القسر دون أن يمتلك الحرية الكاملة للاختيار. هذا الوضع يعبر عن القوى الاجتماعية بوصفها ثقلاً مكبلاً للفرد بالأعراف والتقاليد والتي تفرض قيودا على الفرد، مما يجعله يتحرك بخطوات محددة ومقيدة.

من خلال تطبيق المفهوم البنيوي على النصوص المختلفة في هذا الديوان، نلاحظ أن الشاعر يعتمد على بنى نصية معقدة تعزز من التوترات الداخلية للشخصيات والمواضيع، فالتكرار، التباين، والتوازي والبنى التركيبة والزمنية كلها تستخدم بفعالية لتعزيز الشعور بالاغتراب، الحزن، والصراع الداخلي. 

تتعامل نصوص الديوان مع قضايا الهوية، الفقدان، والحلم بأسلوب يجسد عمق التجربة الإنسانية من خلال البنية السردية والرمزية، ينجح الشاعر في بناء عالم مليء بالتوترات الداخلية والخارجية، وهذا يجعل نصوص المجموعة الشعرية تعبيراً قوياً عن اضطرابات نفسية ومجتمعية في العصر الحديث.

في النهاية، يمكنا القول إن بيدق أسود في يد الجنرال يمثل قراءة دقيقة للنفس الإنسانية في مواجهة الضغوط المجتمعية، ويبرز التوترات التي تميز حياتنا المعاصرة بأسلوب شعري غني ومؤثر.