دراسات

" رقصة المراكب الغارقة"

بقلم: د. سلوى العبّاسي

سأحكي حكاية سمعتها مرّات ومرّات، حكتها والدتي في جلسات الصّباح على مرّ الفصول مستمعاتها هنّ جاراتها ، عشيرات عمرها كما كانت تقول دوما، كلّهنّ قد غادرن هذه الدّنيا الواحدة تلو الأخرى وكلّهنّ ما يزلن ينبضن بالحياة في قلبي وذاكرتي .

    على صوت غليان القهوة في “زَزْوَةِ” النُّحاس القديمة النّاعسة ما بين الرّماد والجمر في كانون من الطين الأملس الجافّ،أمّي تتفنّن في الحكي ، تخرج الأحداث من بين شفتيها مسترسلة كخيوط العجينة المتساقطة من عيون الرّحى في ليالي العيد، ما انفكّت تبدع  في تلوينها بألوان من التّشويق والإثارة ، حتّى أنّني بتّ أتصوّر وكأنّها عاشت المرحلة مع من عاشوها بأدقّ تفاصيلها…”

 

                               (سهام عبيد كردوس: رواية “حديث الأيّام” مخطوط)

 

إنّ النّساء يفكّرن في ما خفي من معاني الأسئلة أكثر من تفكيرهنّ بالأسئلة ذاتها”

                                                                      غابريال غارسيا مركاز

 

  • الرّواية المكتّظة،”الحرّاقة”/ حكايتي حكاية” ..”حكايتي طويلة عجيبة”

 

    “بين حلم سبَق الثورة ومرارة الخيبة بعدها ” كتبت الرّوائيّة التونسيّة أستاذة العربية بالتّعليم الثّانويّ روايتها العاشرة في الكتابة والثّانية في النّشر[1] بعد “حديث الأيّام” و”التّاريخ رجل آخر” وهي من المطوّلات  المؤلّفة على شاكلة كلّ الرّوايات الكلاسيكيّة الضخمة التي بدو أنّها مستلهمة إلى حدّ كبير من أسلوب الأدب الروائيّ اللاتينيّ[2] و الكاتب الإسبانيّ غابرييل غارسيا ماركيزGabriel García Márquez رائد “الواقعية السحرية” بوجه خاصّ،فقد عرف ماركيز في أغلب إبداعاته بقدرته على أن يمزج مزجا عجيبا المرجع الأسطوريّ والحلم بالواقع والتاريخ، ومن رواياته: “الحب في زمن الكوليرا”، “الحب وشياطين أخرى”، “مئة عام من العزلة”، “الجمال النائم”، “خريف البطريرك”….

وفي نصّ الرّواية مشيرات تلمّح ولا تصرّح بمحاذاة هذا النّهج في الكتابة واستيحائها مصدرا هامّا من مصادر التخييل ،إذ نجده مدسوسا في معرض حديثها عن شخصيّة شامة التي ” تشبّعت بأشعار فيديريكو غارسيا لوركا وروايات جوسيه ساراماقو وغابريال غارسيا ماركيز،هؤلاء الذين ارتفعوا بالأدب الناطق بالإسبانيّة والبرتغاليّة إلى سماوات الإبداع الإنساني . يموت أصحابه عشقا للكتابة بخيال الأحياء المحبّين للحقيقة ليحيا من يأتي بعدهم على فتات أضوائها” وفي قولها ” لم تكن بلدان أمريكا اللاتينيّة أفضل حالاً بما فيهم الأرجنتين من حيث الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة ، أغلب البلدان في تلك القارّة كانت تمرّ بأسوإ المراحل السياسيّة”

تحضر بصمات الأدب اللاتيني في أسلوب الكاتبة الذي ينزع نزوعا بيّنا إلى اتّخاذ المشاهد والعبارات العفويّة في الخيال الشّعبيّ وموروثه الحكائيّ أداة من أبلغ أدوات التّعبير عن الموقف وسرده بأسلوب واقعيّ، لكنّه مقنع مبين وهو ما يعرف بـ”البساطة الرمزيّة” التي انعكست آثارها بضوح على بلاغة الجملة الروائية عند سهام كردوس التي تعاف التهويمات والمعاظلات المسجّفة بالغموض وتتجافى الهذيان وفوضى المعنى التي تعرف بها كتابات أخرى من الأدب التّونسيّ المبالغ في التّكثيف ،فالجمل عندها تكاد تكون تامّة في نسبة كبيرة منها مبنى ومعنى لا تميل إلى التقطيع والتفضية ونادرا ما نجد في القصّ فجوات وفراغات تحتمل المعنى غير المعنى الذي قصدته الكاتبة فكأنّها تريد أن تقرّ سنّة جماليّة مناقضة لما عرف به أغلب الأدب التونسيّ لا في الرواية وحدها وإنّما في القصّة والمسرح والسينما والشّعر مؤدّاها وقاعدتها أنّ التّخريف إذا اختير في الرّواية أسلوبا و ميزة جمالية يقتضي بالضرورة شرط الوضوح والإبانة وأنّ الرّواية حينما تحاكي الخرافة الشعبية ليست في حاجة إلى الغموض لتقول أكثر ممّا يجب قوله.

أمّا لو بحثنا عن عناصر الكثافة في نصّ “الرقصة الغارقة” فمجاله التكثيف في مستوى القضايا المطروحة وعدد البرامج القصصية الحاضرة فهي رواية المتعدّد الاجتماعي الثقافيّ الجغرافي التاريخيّ ينضاف إليه المتعدّد السرّدي باعتبار انشدادها إلى بنية التضمين والقصّ الخرافي القائم على توالد القصص وتوارد الأفكار والمرجعيات من كلّ حدب وصوب.

نستدلّ هنا بما ورد في كتاب “الأدب اللاتيني” من قولة للناقد روبين باريرو ساجيي حينما نعت الثّقافة الاّتينيّة مهاد هذا النّوع من الرّوايات كونها “ثقافة خلاسية هي محصّل التّطعيم الأيبيري الأوّل والإحلال بعد ذلك للجذع المتعدّد للثقافة الهندية الأمريكيّة مع الإضافة اللاحقة للعنصر الإفريثقيّ ولرواسب الهجرات”[3] ومنها “سعي هذا الأدب إلى اكتساب لغة خاصّة به تفيض عن الحدود الجغرافية الثقافية للأصل الواحد لتغدو الواقعيّة فيها واقعية متحرّكة رخوة الحدود قادرة على استيعاب أكثر من مرجع وأفق ، فهو أدب  محليّ غير أنّه مناهض لكلّ أشكال القوميّة أدب”مثل المرآة يمكن لأيّ شخص أن ينظر إلى نفسه فيها دون أن تظلّ الصّورة منقوشة ” هو” أدب الأرض الزّلقة المفتوحة على لعبة الاحتمالات”[4] ومع هذا استمدّت منه الكاتبة مرجعيّة خصبة لتأليف رواية هاجسها قوميّ بدرجة أولى كيف لا وهي المنهمّة بقضايا الوطن مزّقته الثورات وفتتّته المشاريع الاستعماريّة الهدّامة ونخرت كيانه النّكسات وقد ظلّ عرضة للانتهاكات و حركات الاحتلال المباشرة والمتقنّعة قاومتها الرّوائيّة في إطار رؤية فنيّة مستحدثة يمكن نعتها بكونها “ثلاثية الاستقطاب” يتجاذبها التّغريب والتّهويد والتّشريق في زمن انفجاريّ مؤذن بالخراب دعي “الثورات العربيّة” الرّواية باختصار لا نأنف إذ قلنا إنّها من أدب المقاومة

يكفي أن نتأمّل تفاصيل قصّة شخصيّة فريدا اليهودية القادمة من فلسطين إثر هزيمة1967  والمستقرة كعديد الجاليات اليهوديّة بونس (التي تبيّن في ما بعد أنّها سليلة أسرة تونسية جنوبية استقرّت بمنطقة الزّارات )  كونها حاضرة بثقلها مشروعا قصصيا  ثانيا يزاحم الحكاية الإطارية الأولى الدّائرة حول موضوع الحرق المرتبط بقصّة عواطف الشخصية المحورية المسيطرة على جلّ الأحداث والأقوال، إنّ اختيار الكاتبة رفد القصة الرّاهنة لمآسي تونس الثورة بقصّة ثانية لتونس الماضي مفترق الحضارات  ومستقرّ الأقليّات  جعل من عملها أدبا نسويّا ملتزما بقضايا وطن عربي كبير لا يتجزأ ،ينطلق الحديث فيه عن تاريخ الثقافة العربية الإسلامية وتعاقب دولها وصراعاتها المحليّة والإقليميّة ليعبر القصّ الرّوائي الملتبس بالتّاريخ سوريا وليبيا ولبنان فلسطين وكلّ المنطقة، فريدا يهودية التونسيّة كان لا بدّ لها من زوج فدائيّ عبد العزيز عروبي يؤمن بالمقاومة ويناصر القضية الفلسطينية حتى لا تنزاح الرّواية عن همّها القوميّ وقلقها المتعاظم مثقّفة مدرّسة تحمل إحساسا بالمسؤولية تجاه وطن يعيش النّكسة تلو النّكسة ولا يكاد ينهض من هزيمة حتّى يخرّ تحت كلكل أخرى الكلّ فيه مهدّد بالغرق أو الحرق لا فرق.

تقول فريدا في بعض أنحاء الرّواية: “عائلتي المحافظة على خصوصيّاتها اليهوديّة في فرنسا باتت قاب قوسين من قرار التبرّؤ منّي، رأوني لا أدافع عن حقّ الصّهاينة في أرض فلسطين المحتلّة عام 1967 فغضبوا.” وتصف من أحبّت ووجدت فيه رجل حياتها بعد طول معاناة بقولها:

“فعلا أحبّ وطنه ورغم ذلك تركه من أجل قضيّة أخرى كان يراها أهمّ قضيّة في الوجود العربيّ، هي قضيّة تحرير فلسطين ،هي في نظره أمّ القضايا وأهمّ ملفّ في حياته.”

 

  • القصّ الملغز والخرافة التاريخيّة الشّاهدة على زمن الثورة

    مرّة أخرى نؤكّد أنّ رواية الأستاذة كردوس رواية الرّوايات وخرافة الحكي المطوّل، “جاءتنا من بلد الثورة” تونس 2010-،2011 “جاءتنا محمّلة بالأحزان و”الأسرار معا، في زمن المواقف المريبة” وفي “أرض لم يحدّد فيها أصحابها اتّجاهاتهم ” ..”فقد كشفت الثورة ما كان مستورا، فتحت أبواب بيوت الدّاء ، وجدنا في داخلها خلايا الصّراعات النّائمة  من أجل السلطة ، حرّكتها الثورة .. نفخت في صورتها فتحوّل التّناحر والتدافع من أجل كرسيّ الحكم إلى مارد يأخذنا إلى عوالم الخوف المزمن من المجهول ومن عواقب تعطيل آليّات الإصلاح لكلّ ما فسد قبل الثورة وبعدها”

هي أيضا من الرّوايات التي يمكن تصنيفها ضمن ما بات يعرف بـأدب”الحرق” وروايات الهجرة السريّة التي اشتهر بها كتّاب المغرب العربيّ، فهي كما يصنّفها النقّاد تعدّ ملاحم معاصرة يكاد يختصّ بها الأدباء المغاربة[5] بعضها ألّف بالعربيّة والبعض الآخر بالفرنسية نذكر منها: “يوميات مهاجر سريّ “لرشيد نين و”موسم العودة إلى الجنوب” و ثمانية عشرة سنة دراسية مهربة عن طريق البحر” و” حفريات مهاجر”. لحميد الأشهب و”نساء الرّيح” للأديبة الليبية السورية رزان نعيم المغربي وهي من آخر الإصدارات في هذا المجال التي أكّدت التوجّه النّسوي نحو كتابات الحرق الذي من مترادفاته أيضا “الحرك”،وقصص “الحرّاقة” أو “الحرّاكة” أدب يدور غالبا على فكرتين تبدوان متناقضتين فغي الظّاهر تناقض الماء والنّار وتشابك الحلم بالواقع والمنشود بالمحدود لكنّهما تعبّران بصدق واقعيّة تسجيليّة على وقوع ضحاياها بين مأساتين لا فكاك منهما:الموت غرقا أو الموت احتراقا قد بات من طقوس النزّعة الانتحارية التي استفحلت بين صفوف الشّباب اليائس في وطنه منذ ثورة 17 ديسمبر2010- 14 جانفي 2011، بعد أن أشعل الشّاب محمّد البوعزيزيّ العاطل عن العمل حامل الشّهادة العليا نفسه احتجاجا على صفعة شرطيّة حوّلت الحادثة إلى ملحمة شعبية لثورة عارمة ضدّ القهر والاستبداد رفعت فيها شعارات” شغل ،حريّة كرامة وطنيّة” انتهت بلحظة انفجارية عصفت بأنظمة سياسية كثيرة لا في تونس وحدها، بل في كلّ المنطقة، حتّى بدأت قصّة الثورة تتحوّل من ملحمة إلى خيبة “الخيبة العامّة التي تراها على وجوه العابرين نفس الخيبة العامّة التي تراها في وجوه العابرين ، يصعب تجاهلها . لقد ضربت مجتمع ما بعد الثورة وهو يرى سحاب النّفاق والتّجارة بالدّين المشفوعة بإرهاب يغشّي سماء الوطن ويزرع في قلوبنا ألغام الخوف من المجهول. لا نكاد نخرج من حداد إلاّ لندخل في حداد جديد بأعلام حمراء منكّسة وجنازات متتالية للشّهداء من السياسييّن والأمنييّن ورجال الجيش والمواطنين، ثمّ استحالت لغزا كبيرا، بل كونا من الأحاجي لم يستطع أحد حلّها حدّ الآن:

 “الثورة تلك الكلمة اللّغز، كلّ النّاس صاروا بعد الثورة يبحثون عنها، عن التّفاصيل التي تكمن في عناوينها العامّة، حقيقة ما حصل في البلد أثناء الثورة يقال : لا يعرفها أحد ، جرائم قنص البشر في تلك الأيّام فظيعة وهويّة القنّاصة علمها عند عالم الغيب والشّهادة ، حقيقة حرق حقول القمح والشّعير والسّجون أيضا ظلّت غامضة لم يعرف مرتكبوها ، الاغتيالات السّياسيّة باتت ترتكب في عزّ النّهار وفي الأحياء الآهلة بالسّكّان ، وأرتال البضائع المهرّبة تتنقّل برّا وبحرا وجوّا بلا حسيب ولا رقيب”

  ففي الحرق تنبجس فكرة “المحرقة” الجماعية التي أدركتها ذاكرة الكاتبة على نحو انفساحيّ ممتدّ وأيّة قيمة للرواية إن لم تكن “جنسا اكتساحيّا آكلا ” على حدّ قول “ميخائيل باختين” الاكتساح فيها هو أيضا انفساح وانتثار وتلاش بين أزمنة وأمكنة كثيرة، فالرواية آكلة لحدودها تماما كما ينهش السّمك بقايا الجثث المتآكلة للحرّاقة القابعين في الأعماق، تراجيديا اجتماعيّة تاريخيّة واقعة بين الحرق والغرق امتدّت خلالها تخوم الفاجعة داخل فضاء روائيّ متّسع مكتظّ بالرّاحلين والقصص المكدّسة على ظهر ها صناديق من أسرار. كما لو كان لابدّ للرواية منذ البدء أن تشيد عالمها المخيّل المتخيّل على متن معدّ في كلّ لحظة للانقلاب،أشبه بجزيرة سحريّة قادرة أن تتحوّل في أوقات المفاجأة إلى ظهر حوت كبير ،ليظلّ من البداية حتّى النّهاية مرجا قلقا تتحرك حدوده على إيقاع ثورته وفوضاه الخلاقة كيف لا والرّواية هي أيضا من النوع الخرافيّ سليلة حكايات ألف ليلة وليلة كما سنبين ذلك لاحقا.؟

 يظهر موضوع الحرق “ثيمة” الرّواية و”فكرة جامعة” ينشدّ إليها البرنامج السرّدي للشخصية البطلة صاحبة القصّة الرئيسية عواطف وزوجها الحارق لتغدو محورا للرغبة في الحصول على مصدر قوت وعيش كريم يتقاطع مع محور الصّراع مع واقع محدود مسيّج بالأوهام ودخان الثورة وأبخر السّراب ولكنّ موضوع الرّواية ممتدّ في الأصل إلى ما أبعد من ذلك ضارب بجذوره في حقب تاريخيّة غابرة عرفتها تونس ليصبح في ذاكرتها الثقافيّة الحضاريّة سمة إناسية مميّزة وعلامة من العلامات استقصتها الرّوائيّة وجعلتها مادّة أساسيّة من مواد التّخييل والمحاورة في ذات الوقت بين مجموع الأزمنة والأمكنة المتساتلة في الرّواية حضورا وغيابا.

 التاريخ محرقة الأبعاد ومنصهر المرجعيات ومجمع تلاق بين المتناقضات المحرّكة للأحداث الكبرى التي تعاشتها ولا تنفكّ تعيشها المجتمعات فمن أبرز مهامّ الرواية التاريخيّة حسب جورج لوكاتش” وضع المتضادّات على صلة ببعضها البعض لتتصادم وينتج عن تصادمها المنحى الصّراعيّ للرواية”[6]

 تتمازج في خضمّه أخلاط الأسطوريّ مع الواقعيّ وتتجاوب أصداء الذّاكرة الفرديّة للشخصية الواحدة مع أصوات الذّاكرة الجماعيّة للبلاد لا تونس وحدها بل كلّ البلاد العربيّة وما تعلّق بها مشرقا ومغربا من قصص تواريخ وحضارات ولعلّ شخصيتي شامة وفريدا وما تعلّق بهما من شخصيات نسائية وذكوريّة من أصول متنافرة تصل إلى حدود بلاد الأرجنتين وكندا، “كان لها ما تريد في تورنتو مع رجل أرجنتيني من أصول عربيّة ، يكاد لا يعرف عنها شيئا وهي أيضا لم تكن تعرف عنه شيئا عدا أنّ جدّه الحاجّ خيرالله الورّاق قد أتى في بدايات القرن العشرين من مدينة حلب السوريّة مع زوجته ليقيما في البلاد الأرجنتينيّة بُعيْد سقوط الخلافة العثمانيّة وانتهاء حكمها في المنطقة العربيّة”

وعلى أساس المسحة التاريخيّة البارزة في الرّواية يتبدّى تاريخ تونس منذ أقدم العصور تاريخا حارقا محترقا في أتون قصص الرّحيل من أرض إلى أرض وقصص التعلّق بتلك الأرض حدّ الموت والحريق، تقول الكاتبة: “الموت احتراقا: هي القديم المتجدّد، تلك عادة شاءت الأقدار أن تُبعَث من جديد لإحياء مفهوم الموت ومفهوم الكرامة الإنسانيّة. الحرق في ذاكرتنا الجماعيّة يحيلنا على علّيسه والكاهنة امرأتان صنعتا تاريخ تونس، أحبّتا بلدنا إلى حدّ الاحتراق بالنّار من أجله “

لم نعش أبدا تاريخنا دون حضور الأسطوريّ والخرافيّ العجيب في تماوج عجيب ودون امتزاج الحقيقة بالخيال، وهذا ينسجم بدوره مع المكان الروائي وقد بدا بقعة إطارية كبيرة ممتدة متحوّلة تارة، محدودة متقلّصة مسيّجة بالتسمية والأسلوب التسجيليّ التاريخيّ التوثيقيّ المدقّق طورا فتجري أغلب الحوارات المتبادلة لعمليات السّرد داخل”شقة من أملاك الأجانب الإيطاليّة والمالطيّة واليهوديّة داخل عمارة قديمة من عمارات مدينة حلق الوادي الضاحية من مدن تونس الشاطئية “

المكان في الرّواية بالغ الأهميّة بؤرة تخييل وتأثير ومستودع السحريّة المدسوسة في الأعطاف كالسرّ الغامض لا يبوح بحقائقه دون تعجيب وترميز وإيحاء:” الأمكنة لا معنى لها إن لم تحفر فيها أقدارُنا خطواتِ عبورِنا في ثنايا ضجرِنا الدّائمِ من طولِ المعاناةِ، نحن هكذا نركن إلى زوايا انكماشنا على أنفسنا هربا من صورة لا نحبّها أو شوقا إلى صورة نريد رؤيتها” تقول الرواية:

” إنّ الأمكنة لا معنى لها دون أصحابها ودون تلك العين الخفيّة التي تنظر إليها وتطلب من الله في عَلـْيائه الرّحمة لأموات المكان والرّأفة بأحيائه”

لم تنكف صانعة الحبكة عن جعل المكان الروائي عالما للقصّ والشّهادة ومرآة مقعّرة تعكس الوجه الآخر للحكاية وفضاءها السحريّ غير المعيّن ولا المسمّى لنفس المدينة صورة عجائبيّة حسيّة متلوّنة تميد كالتيّار الخلاسيّ على سطح ماء شاطئها المتوسّطيّ أو كالشبح المارق من مدن الخيال:”

“المدينة لها رائحة، يصعب تحديد كنهها، هي مزيج يجمع شميم البحر ورائحة الأرض.  المكان نفسه، بقي كما هو في المخيّلة لم يغادره عبقه ولا نكهته. أجواء المدينة عند العشيّة لا مثيل لها. تستقبلنا بقوس النصر وبتمثال الزّعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة ، تراه شامخا فوق الجواد البرونزيّ ، يحيّي بيده الوافدين ، يفرض على الناظر إليه هيبته وهيبة المكان ومتانة الأرض التي انتصب فوقها ، على بعد أمتار تلوح جدران الكرّاكة السميكة وأقواسها ، استمدّت لونها الأصفر الرّملي من التراب وهي صورة أخرى لطبيعة المكان، يتمدّد الظلّ على جنباتها وعلى العشب الأخضر المزروع في محيطه”

وهي أيضا مستقرّ اللعبة البارزة المتمثّلة في تقنية القصّ الجماعيّ المطوّل الذي يراوح مكانه في الظّاهر ولكنّه في العمق يتّخذ من المدينة السّاحليّة المشرفة على البحر نافذة على الماضي والحاضر ومرفأ تستقر فيه سفن الحلّ والترحال إلى الأزمنة المختلفة والعوالم المتباعدة في أعماق ماضيه الشخصيّ والجمعيّ المكان الإطاريّ شرفة أو غرفة هي لازمة الحكي الممتدّ بالاستطراد والتوليد والتّضمين وكلّ ضروب القصّ المتداعي بالحكاية داخل الحكاية ، لا ندحة عن عودته أدراجه إلى نفس الموضع تذكيرا بأنّ  السّاردة العليمة بالخفايا والبواطن والأسرار تنهض بدور شهرزاد بطلة ألف ليلة وليلة .

تنتصب مدينة حلق الوادي بسماتها الإطارية المفتوحة على الأحداث والتحوّلات التاريخيّة الثقافية التي شهدتها تونس على مدى حقب وعصور فضلا عن علاقاتها التجارية واللغوية والقيميّة الرمزية بحضارات البحر الأبيض المتوسط حاضنة لجميع القصص النسوية تقريبا قصص شامة وفريدة وإيفون وحضرية غيرهنّ وكذلك القصّة الرئيسيّة الإطارية، قصّة عواطف مع زوجها الحارق خالد “ابن مدينة الكاف ثار في الشّوارع ، صاح مع الصّائحين وقال للديكتاتور مع القائلين dégage جرت في دمائه دماء جدّه الأكبر الذي ثار مع علي بن غذاهم ضدّ الباي في ستّينات القرن التّاسعَ عشرَ  في القرى الدّاخليّة المهمّشة ، في تلك الأيّام انتفض النّاس ضدّ حكمِ البايات ، ساروا ببطونهم الخاوية وبأسمالهم البالية وهاماتهم المرفوعة في صفوف متراصّة سوداء كجحافل الجراد ، كانت مواكبهم ثائرة هائجة ، أرادوا فقط وقف نزيف الاستغلال والاستبداد والنّهب الجِبائيّ فجوبهوا بالقمع والسحل والإعدامات . صحيح أنّ تلك الثورة أجهضت، لكنّ الغرْسة كما يقال تطرح ثمارها ولو بعد سنين”

 

    على إيقاع زمن الثورة الهائج الموتور تسرد السّاردة قصّة عائلة عواطف وبقيّة القصص المضمّنة لشخصيات نسويّة أخرى راوية ومرويّ لها أذكر شامة و من المدن الشّاطئية للضّاحية الشمالية مصبّ قصص وطريق عبور إلى أكثر من زاوية من زوايا الذّاكرة القصصية تلاحق تاريخا جمعيّا لا حدود له يصل إلى قرون خلت وإلى بدايات القرن العشرين ويواكب خاصّة أبرز الأحداث التي عاشها التّاريخ السياسيّ العربي لتكتسي سوادا وقتامة النكسات والهزائم والحروب المتتالية وكلّ ضروب الصّراعات التي تسبّبت في أوقات متباينة في ظهور الثورات كثورة علي بن غذاهم مثلا وفي تصدّي المقاومين للظّلم والاحتلال وشتّى أنواع الاستبداد (استبداد الأنظمة الكليانية والدولة الدينية واستبداد الغرب والاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية وتعسّف أصحاب السلطة ورؤوس الأموال على الكادحين والفقراء والأجراء، فضلا عن الأحداث المقترنة بالجرائم الاجتماعية الأخلاقية للصوصية والفساد، فالأمكنة “لا معنى لها إن لم تحفر فيها أقدارُنا خطواتِ عبورِنا في ثنايا ضجرِنا الدّائمِ من طولِ المعاناةِ ، نحن هكذا نركن إلى زوايا انكماشنا على أنفسنا هربا من صورة لا نحبّها أو شوقا إلى صورة نريد رؤيتها” والأزمنة نثار من التواريخ المتباعدة في الظّاهر المنظومة في عمق الحياكة الروائية للحبكة في خيط واحد لا يذيع حدثا دون ذكر ما وراءه من أحداث قريبة وبعيدة(تاريخ الدولة العثمانية/ ثورة علي بن غذاهم1864 / احتلال فلسطين /1948احداث السبعينات 26 جانفي  1978/هزيمة1967 وهجرة الجالية اليهوديّة إلى الأراضي التونسيّة/ قصف حمام الشطّ ثورة 14 جانفي/ / تاريخ الفترة البورقيبيّة والفترة التي تليها/ الثورات العربية/ الغزو الوهابي لسوريا…)

     تندسّ الرواية التاريخية بين الأعطاف والشقوق تداهم الواقعية وتخاتل المنزع الخرافيّ العجيب لتنجب نصّا لا يتوانى عن كشف أصله السلالي كونه رواية روايات نحتت من أكثر من أصل حكائي أذكر التّغريبة والحكاية العجيبة خاصّة حكايات ألف ليلة وليلة والقصّ الشّعبي ،يطفو المنحى التّاريخيّ فيها، لا باعتباره مجمّعا كبيرا حاويا لمسارد ولتسلسلات حدثية تعاد روايتها بحذر تسجيليّ شديد وهو ليس “متتالية أيام وليال بمفهوم الطّبري” في إطار الخطاب التّاريخيّ التدوينيّ وإنّما هو مزيج من منطق الاعتبار بالعمق والبواطن كما أكّده ابن خلدون ومن منطق “التأويل كما نجده” عند الفيلسوف اللغوي بول ريكور الذي يرى في السرّد فعلا “تصوّريا” فعل تفكّر وتدبّر قبل أن يكون فعل تفكير علميّ وتنظير سكولائيّ ضيّق وهو حدسي إلى أبعد الحدود مودوع في الذّاكرة حتّى لم نعد مرتهنين إلى علم السرديّة لنبني معرفة مكينة به، نحن ننتج السّرد قبل أن يبدأ في التشكّل منطوقا نصيّا محكم البناء ماضيا صوب نحو نهاياته المعلومة ، إنّه مسجّل قابع في قعر الممارسة الحكائية “فعالية فهم” و”تأويل”، وهي في بعض وجوهها أيضا فعالية “تفسير”،فإن كان القصّ يحتاج إلى موهبة فإنّ حاجته إلى قدرات تفسيرية تكون أعلى ليتمّ الانفتاح على المناهج ومختلف تأويلاتها المسلّطة على الظّاهرة السرديّة بوجهات نظر متداخلة أو متغايرة نفسية اجتماعية فلسفية لغوية… هذا ما يجب أن يكسبه الدّرس السّرديّ  ذات المتعلّم لنجيز القول بأننّا علّمناه السّرد .”[7]

قد نستذكر في هذا السّياق قولة للروائي المصريّ جمال الدّين الغيطانيّ في نقده الذّاتيّ رواياته التّاريخيّة يتحدّث فيها عن “البوتقة” في التّاريخ و”اعتصار الهزائم” و”ابتعاث لحظات من الماضي تتشابه مع لحظات الحاضر”[8] فضلا عن معنى “الارتهان” فـ”لكلّ حاضر تاريخ” وأفضل أنواع المؤرّخات “ما جرى لبسطاء الناس، هؤلاء الذين تسقط سيرهم بين سطور الحوليات والمدوّنات”[9]

     ولعلّ في ازدواجية الرّاهن والماضي واختلاط الواقعيّة بالترميز  هي المنبت الأصليّ لخلفية القصّ في رواية سهام عبيد كردوس حينما حاولت إجلاء حقائق الثورة المنسوبة وقائعها إلى شخص البوعزيزيّ وقد صنعت منه الذّاكرة الشعبية لوقت وجيز بطلا وطنيّا ،لكن سرعان ما تهافت رسمه كدمية الطّين حينما انقشعت الغمامة واستفاق الجميع من حلم خائب، وشرعت الثورة تنشر أسرارها على وقع تفاسير وتأويلات وتحليلات وأصوات كثيرة من الدّاخل والخارج ومن شتى الأطياف السياسية والاتّجاهات الفكريّة ،أصبحت تعجّ بها وسائل الإعلام المرئيّ والمسموع وتغصّ بها المشاهد المعيشة المنقولة، يسمع لها أجيج وصراخ كأزيز محرّك السّفينة المشرفة على الغرق والإهلاك الجماعيّ “لمن حرقوا مراحل الحياة ، هجّوا ، غادروا أرض الوطن بلا رجعة” بينما يكاد ينغمس الباقون في الإدلاء بشهاداتهم على المرحلة ، يكاد  الكلّ حاضرا ومفقودا يتحوّل خبير عسكريّا ومحلّلا سياسيّا يحاول أن يفهم ويُفهم على شاكلة مّا، فيرتدّ البصر حسيرا والخطاب السياسيّ للطّبقة المثقّفة وعامّة الشّعب على حدّ السّواء خاسئا عاجزا عن إيجاد الحلول ،يتعاظم حينها مدّ الأسطرة ويغدو القصّ قدرا لا فكاك منه ويمعن الجميع في تبادل السّرد إمعانا في التعلّق بحبال الحقائق والأوهام، لا فرق .

 

 “اندلعت الثّورة، انفجر البلد بالأزمات، انفلت جماح المطالب الشّعبيّة، أطلق عنان الحلم بتحقيقها، توقّعنا إمّا تحسّن الأوضاع بعد الثورة أو سير البلد بكلّ ما بنته الأجيال المتعاقبة نحو الهاوية. المهمّ أنّ خلاصة المرحلة كهذا البحر. لا نعرف له قاعا”

   ولا تخلو فكرة “الحرق في اللهجات المغاربية على اختلافها ومنها الجمع “حرّاقة” من معنى الخرق وتجاوز الحدود الشرعية للبلدان الغارقة في الأزمات بشتّى أنواعها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة،إنّها تغريبة جماعية لسكّان شواطئ المتوسّط وبلاد المغرب تحديدا في اتّجاه أوروبا إلى حدود زمن الثورات فصارت بعدها تشريقة في اتّجاه سوريا وقد أضحت في معجم الفكر الوهاّبي الغازي لعقول الجيل الجديد من الحرّاقة  “أرضا للجهاد” واختلط حابل المطالب الاجتماعية بنابل العقائد الدينيّة حتّى استحال زمن أحداث الرواية  زمن النّفوق والنّفاق والاختناق ذاك المسمّى ربيعا فإذا به خريف كالح مالح ملوحة البحر الذي لا يرحم حتّى جثث الموتى:” ظلّ الموج الأزرق الهائج يتردّد على الجثث العارية المنهوشة في جيئة وذهاب ؛ ينقرها كصقور جائعة ، يغوص في  جراح لحمها كالدّيدان التي نراها في أكياس المزابل و الجِيَفِ ، يفتّت  أوصالها بزخّات ملحه ، يتلذّذ بنتف أسلاك جلدها سلكا سلكا ،  يحرق الحــلمَ تلاطمُه،  ويُطفئ جذوتَه ماءُ البحر.

تلك هي ضريبة القبول الاضطراريّ للمخاطرة بالرّوح، لسوء الحظّ عاش في زمن أوسخ من جرذ المجاري وأذلّ من كلب سائب لم يجد في مزابل الفقراء إلاّ علب السّردين الصّدئة وخبزا يابسا متعفّنا، بلا شكّ رمته الأيادي الخاوية بعد نقعه في عرق شقائها وهي بين حلمٍ سبَق الثورة ومرارة الخيبة بعدها “

 

ما أبلغ توصيف الروائية الوضع وحرقة خيباته حينما قالت:” أنبت الرّبيع العربيّ الشّوك في لهاة النّاس، اهترأت الطبقة الوُسطى، اقتربت من عتبة الفقر بسبب الغلاء الفاحش وتدهور قدرتها الشرائيّة، وطلعت فئة من الأثرياء الجدد، فئة مارقة، متمرّدة على القوانين “

ذاك زمن الرّواية المنعكس بظلاله القاتمة على حلبة الرقصة الجماعيّ المخبول على إيقاعات الوطن الحارق/ الغارق فالأمر سواء، هو ذا ” زمن المواقف المُريبة في كلّ شيء؛ جاءته من بلد الثورة إن جاز قول ذلك، من أرض لم يحدّد فيها أصحابها اتّجاهاتهم، يكفيهم الكلام من وراء نقاب ومن فوق رؤوس الجبال حتّى يقولوا للنّاس إنّهم أهل الفصاحة الإيديولوجيّة والبلاغة اللاهوتيّة بأيديهم مفاتيح الغيب وأسرار الطريق إلى الجنّة وغيرها من المصطلحات الوافدة علينا من الأصقاع الأفغانيّة.”

غير أنّ موضوعة “الحرق ” والهجرة السرية الكاشفة عن أزمات الواقع التونسيّ والعربيّ عموما وقضاياه المتشابكة ليست سوى خلفيّة إطاريّة ومحرّكا للأحداث اقتربت من خلاله الّرواية من النّوع الواقعيّ الاشتراكيّ فقد كان يعرف في كتابات “ماكسيم غوركي” وفي روايات نجيب محفوظ بكونه أدب الثورات أو الأدب الملازم للثورات وقد أحسن توصيفه الكاتب  شولوخوف في بيان له إثر تسلمه جائزة نوبل سنة  1965بقوله: “أنا أتحدث عن الواقعيّة التي تحمل في ذاتها فكرة تجديد الحياة، وتغييرها لخير الإنسان، أنا أتحدث طبعاً، عن تلك الواقعيّة التي نسميها اشتراكية، وخصوصيتها تكمن في أنها تعبر عن وجهة نظر لا تكتفي بالملاحظة، لا تساوم وتبتعد عن الواقع، بل تدعو للنضال من أجل تقدم البشريّة، وتعطي إمكانيات بلوغ الأهداف التي يطالب بها الملايين، وتضيء لهم دروب النضال”[10]

 

  • الحكاية النّسوية العجيبة، حديث القهوة وبوح” الززوة”

 

في رواية “رقصة المراكب الغارقة” تتوزّع عمليّة الحكي على أكثر من مسار تبادليّ محكوم بالقصّ والإصغاء نبدأ بالسّاردة الصّوت المارد الماسك بكلّ خيوط الحبكة المندسّة في التّفاصيل عن تعاطف وفضول فهي “الرحم الحكائيّ” للرواية وهي تؤسس ما يشبه تقنية “الدّمى الروسية التي تعرف بها كتابات سهام كردوس حيث تخفي كلّ دمية في داخلها دمية أخرى أقلّ منها حجما وكلّ الراويات حاملات همّ استعارة مدهشة للعبارة الدّارجة التونسية “رأس الهمّ دادة عيشة” بل كلّهن عواطف رأس الهمّ”..”قدر هذا النوع  من النّساء لا ينتهي مع الأحزان” جميعهنّ صورة من عواطف ونسخة عن شهرزاد الحكاية يجسّدن أسطورة المرأة الرمز وهاجس الأشكلة ونسج الخيوط في النصّ المطوّل المتعدّد المكتظّ الآسر الملغز الذي لا يستقيم إلاّ خرافة  عجيبة توافق القول” حكايتي حكاية” ..”حكايتي طويلة عجيبة”.

لكن السّاردة العليمة المندسّة في الأسرار و تقصّي التفاصيل تروي من خارج يداهم دواخل تلك النسوة ويفضح أسرارهنّ عن قصد هو “التّعجيب” عملا بما ذكره النّاقد الرّوائيّ سعيد يقطين في تمييزه بين صيغتي الحكي الذّكوريّ في الخرافة الشعبيّة فصوت شهريار قانونه السردي ” احكي حكاية وإلاّ قتلتك” بينما قانون الحكي النسويّ عند شهرزاد ي مداره ” إنّ ما سأحكيه أعجب مّما حكيت”[11]

تلبس الساردة العليمة لا دور الحياد وإنّما مهجة التعاطف والمواساة وكأنّي بها “الفداوي” التونسيّ أو ما يعرف عند المشارقة بـ”الحكواتي” في صورة مؤنّثة لا تستنكف من تأثيث مواضع القصّ بالفرجة والتّشويق مردّدة صيغا على هذه الشّاكلة:

“مبدئيّا، يا سادتي، تقول الحكاية المنقولة عن بعض النّسوة هناك إنّ فريدا ابنةُ لأسرة يهوديّة متجذّرة في مدينة حلق الوادي منذ مئات السنين”

كلّ هذا يدفعنا إلى القول إن المرأة في نظر سهام عبيد تتجلّى مقوّما سرديّا لا محيد عنه في بناء حبكة الأحداث وهيكلة الخطاب في وقت واحد، فهي أكثر مجرّد شخصية ساردة أو مرويّ لها أو مشاركة في الأحداث وإنّما هي “حمّالة هموم وأحزان تفوق المعقول والقدرة البشريّة  على التحمّل” أو لا تكون، كلّ الوجوه النّسائيّة تتفاعل مع بعضها البعض محكومة بالسّرد المتشابه ( le récit itératif): في مستوى الوظائف المتماثلة، المحكومة بالمأساة والرّحيل والغربة وفراق الأحباب والقصّ موزّع بالتتابع تارة و بالتشافع والتّناوب طورا وبالتّضمين وإيراد القصّة داخل القصّة

وكذلك حشدت الروائية كل أسلحة السرد والوصف والحوار والتفسير والحجاج النسويّ من أجل تعرية حدث الثورة وإعادة رسمه على مهل بوضع مسافات من التوصيف والتّحليل والتأويل لا تخلو من إشجاء ذي طابع أنثويّ شعبيّ مميّز لا تتقنه إلاّ كاتبة استلهمت القصّ النسويّ الشّفويّ العفويّ كما كان يروى من أفواه النّسوة في مطابخ البيوت وأمام العتبات داخل الرّدهات وخلف الشّرفات وفي منعطفات الأزقّة، يلتحفن “السفاسر” والملاحف ويلتفعن الأسرار، غامضات كالسّاحرات فـ”بعض النّسوة بارعات في جلب المستمعين والمستمعات إلى مجالسهنّ على شاطئ البحر أو في مداخل البيوت عبر قرض النّاس، الغاية من ذلك التقاط آخر الأخبار أو نشرها في الحيّ وهنّ يقزقزن بما في أفواههنّ من بذور عبّاد الشمس أو اليقطين ثمّ يتْفُلن قشورها في كلّ الاتّجاهات”

 كلهنّ سواء: حضرية، أمّ عواطف المعلمة المتنورة مثقة الستينات زوجة المخبر البوليسي السياسي/عواطف زوجة الحارق خالد بن عبد الرحمان/إلهام / نجمة طباخة الروضة/ جنّات/ إيفون اليهودية وابنتها بالتبني فريدا الرسّامة/ الخضراء زوجة لمين أمّ فريدا التونسية الحقيقية الريم خالة فريدا/ تاجه… نماذج نسوية منصهرة في بوتقة الحكي المنضّد بالتضمين ، يروين كلهنّ ما جرى على مهل دون عجلة بنسق متماثل الوتيرة متضارع الإيقاعات موقّع بالتأثرّ والحبّ والحنين وشكوى الخيبات والجراح والمآسي في الحبّ والوطن لا فرق،يحكين وتحاكين على وقع رشفات القهوة ويشقّقن الأحاديث المطوّلة المسرودة بلغة واقعية تحسن توظيف الفصحى كما الدّارجة على حسب مستويات التعمّق والتأمّل ودرجات الوعي المتبادل في الخطاب/ البيلان أو “المانيفاستو” السياسي الواقعيّ الاشتراكيّ يوجّه أصابع الاتّهام إلى الجريمة الجماعيّة المتعاودة الملغزة كرحلات الحرّاقة يموت فيها شيب وشباب ولا تنفكّ تتعاود وتتكرّر بتكرار الفشل في معالجة مشاكل الواقع الاقتصادية التنموية

 تحمل النسوة طبق الحكي والإدانة على حدّ السّواء مثلما يحملن طبق الحلويات ليكون  “تحفة ” المكوث في المجلس النّسويّ و”نقيعة” الحلول في زمن التراحيل [12] مجلس القهوة نافذة القصّ على عرض الفرجة وتقديم الصور الواقعية والخيالية  الذاتيّة والجماعيّة كلّ واحدة تعريض شريط حياتها على طريقتها ثم ينخرطن أغلبهنّ في  طقوس البكاء والتحسّر على المآسي العائليّة والعاطفيّة انخراطهنّ أيضا في مشاهد الرقص والحبّ والحلم والخطيئة والإجهاض والخيانة والأمانة والخطف…كل واحد منهنّ” هي بنت هذه الحياة، جاءت من أراض مختلفة، لتقيم  مع الأخرى والأخريات في هذه المدينة، في نفس البناية. المواعيد المصيريّة ترتّبها الصّدفة، تصنع ظروفها. تتحوّل إلى قصّةٍ عجيبة من قصص القدر، كتبها على جدران تلك العمارة لنقرأها ونحن بين زمنيْن، زمن النكسة ومرحلة الرّبيع العربيّ. تجميع الأحداث بتلك الكيفيّة صعب نوعا ما .”

القصّ على وقع طهي القهوة وارتشافها هو طقس الحكي النسويّ والإشجاء الممتدّ عبر الأزمنة والأمكنة ،ذاكرة القصص العجيبة ومطيّة الرّحلة يبدو وأنّ الكاتبة قد استقدمتها من تاريخها الترجذاتيّ  ومن قصص حياتها الشخّصيّة بمثابة اللازمة و رجع صدى لتتخذ من الأصول الشفوية للحكاية النسوية موضع فرادة وتفرّد في أسلوبها السّرديّ فـ”حال القهوة كحال قلوبنا، تفيض من كثرة الخيبات والوجيعة”

 نجده في مطوّلتها الثلاثية ومنها “حديث الأيام” الذي تقول فيه: سأحكي حكاية سمعتها مرّات ومرّات، حكتها والدتي في جلسات الصّباح على مرّ الفصول مستمعاتها هنّ جاراتها ، عشيرات عمرها كما كانت تقول دوما، كلّهنّ قد غادرن هذه الدّنيا الواحدة تلو الأخرى وكلّهنّ ما يزلن ينبضن بالحياة في قلبي وذاكرتي .

    على صوت غليان القهوة في “زَزْوَةِ” النُّحاس القديمة النّاعسة ما بين الرّماد والجمر في كانون من الطين الأملس فـ الجافّ،أمّي تتفنّن في الحكي ، تخرج الأحداث من بين شفتيها مسترسلة كخيوط العجينة المتساقطة من عيون الرّحى في ليالي العيد، ما انفكّت تبدع  في تلوينها بألوان من التّشويق والإثارة ، حتّى أنّني بتّ أتصوّر وكأنّها عاشت المرحلة مع من عاشوها بأدقّ تفاصيلها…”

لا تنفصم قضايا السياسة وتحولات الثورة في الرّواية عن قضايا المرأة قضايا السياسة لا تنفصم بحال عن قضايا المرأة لا سيّما وقد”بدأنا نسمع بتعدّد الزّوجات والزّواج العُرفيّ والترويج للزّواج المبكّرِ  والفتاوى العجيبة في كلّ مبيحات الزّواج للجهاد أو للمسْيار أو للمتعة. كلّ ذلك تزامن مع استفحال الظاهرة الإرهابيّة المرفوقة بالتكفير”

 

       نختم فنقول لقارئ هذه الرّواية ستجد في النصّ مغامرة تطواح وترحال مرهقة مضنية كثيرة التفاصيل مبالغة أحيانا في التشعيب وتكثير القصص وتكثّرها إلى درجة قد تنفرط معها عقدة المتابعة وينتثر أثر التّشويق وستصدم بجملة روائيّة تبالغ في البيان المباشر والنّزوع الى التتميم وتسكير الفرجات و الفجوات جملة حييّة خجول حتّى في عرضها مشاهد الحبّ والجنس على خلاف ما قد تتوقعه من نسوية وأنثوية اعتادت نسج خيوط حكاياتها داخل عوالم الحرمان والكبت والشّبق والتمرّد على النواميس والقوانين تلك التزاميّة سهام عبيد كردوس الأستاذة المربيّة التي لا شكّ أنّها اختارت نهجها وطريقه الإبداعيّ الفنيّ عن وعي وعن قصد جماليّ لا تغيب فيه الأهداف التعليميّة ولا تنفصم عن مشبك القضايا المطروحة ضمن موضوعة من أعسر الموضوعات طرقا وانهماما هي أدب الحرق والهجرة السريّة جازفت “رقصة المراكب الحارقة” بطرحها طرحا معمّقا مبتكرا يتناول قضاياه ويبحث في اللغة بعمق أشبه بالنّحت تغتلفه رؤية فنيّة مميّزة من منظور نسائيّ استثنائيّ جدّا نعدّه من التجارب الروائيّة المتوهّجة التي ستترك أثرا في السّاحة الأدبية التونسية والعربية عموما وستكون فاتحة نوع جديد كلّ الجدّة من الكتابات لا تقلّ فيه جودة الشكل عن جديّة المضمون.

                                   سلوى العباسي

 

 

 

 

 

 

 

[1] من روايتها  المنشورة ” التاريخ رجل آخر ” صدرت عن دار نقوش عربيّة

ومن المخطوطات :

  • ثلاثية : (حديث الأيّام ــ غضب الأيّام ــ عشت لأتذكّر )
  • البحث عن الزمن القادم
  • زوّار الليل

[2] ومن أهم الروائيين: كارلوس فونتيس مؤلف روايتي “حيث الهواء الصافي”، و”وفاة أرتيمو كروز” وخورخي ماريو بيدرو فارغاس يوسا ومن أعماله: “قصة مايتا”، “حرب نهاية العالم”، “بنتاليون والزائرات”، “دفاتر دون ريغوبرتو”، امتداح الخالة”، “من قتل بالومينو موليرو”، “حفلة التيس”، “رسائل إلى روائي شاب”، “الفردوس على الناصية الأخرى

[3] سيزار فرناندث مورينو ،”أدب أمريكا اللاتينية قضايا ومشكلات ” ترجمة أحمد حسّان عبد الواحد، م عالم المعرفة، ع 116، شعبان 1998 ، ص 33

[4]  المرجع السّابق ، ص 48

[5] ذاكر عبد النّبيء،أدب الهجرة السريّة: تجارب مغاربية معاصرة، المجلّة العربيّة للعلوم الإنسانيّة،جامعة الكويت، ع 105، السنة 27 شتاء 2009،ص 14

[6]  جورج لوكاتش، الرّواية التّاريخيّة، ترجمة صالح جواد الكاشف دار الشّؤون الثّقافيّة العامّة، العراق،1986، ص 37

[7]  تعليميّة السرد رؤية جديدة، وثيقة تعليميّة منجزة في إطار الأنشطة التكوينيّة للمركز الجهويّ للتكوين المستمرّ بأريانة ،فيفري 2015

[8]  ذكره سعيد يقطين، الرّواية والتّراث السّرديّ، من أجل وعي جديد بالتّراث، المركز الثّقافي العربيّ،الدّار البيضاء، ص ص 94 -100

[9]  نفسه

[10] غروموف (الواقعيّة الإشتراكيّة). دار إبن خلدون. بيروت. ط1. حزيران1975. ص 42

[11]  سعيد يقطين، الرواية والتّراث السّردي، المرجع السّابق ص  ص 34-35

[12]  التحفة حسب أسماء المأكولات عند العرب هي الطّعام المقدّم على موعد مسبق بالحضور