فضاء المجلة

جوكندا..نص قصصي

نذير معيوف .. العراق

عجيب..
قالها بشكل اعتراضي وهو يدقق النظر في لوحته, بعد اخر ضربة لفرشاته، ثم انتقل (علي ) خلف قطعة الخشب التي تحمل الاطار المبطن (بالخام الاسمر ) وكررها مرة اخرى: عجيب.. ولكن هذه المرة بطريقة استفهامية ونظره يستقر على اسنان المنشار المطروح قرب قطع الخشب المركونة بجانب الجدار والتي تركت شظاياها على طول سكته.
خمسة اشهر احرقها العلي في الاعداد لمشروعه الضخم والمهم مصمما على انجاز تحفته الخاصة بعد ان اطلع على كل ما كتب عن تلك اللوحة المبهمة مدققا في اصغر التفاصيل وممحصا حتى في نوع اللحوم التي كان يلتهما ابناء ذلك العصر. اقتنى قاموساً ايطاليا بثلاثة اجزاء وأول كلمة أتقنها (possibile) ممكن, فأصبحت لازمته الشهيرة وماركته المسجلة مع نطق ممتد ومبالغة تشبه مبالغة الايطاليين بحب الجبنة.
اصبحت كنيته, علي ممكن او علي بوسيبيلي, فرافقته في كل تفاصيل عمله وسيطرت على الجزء الاكبر من احاديثه مع الاخرين ككلمة احتفالية ومفتاح سحري لمشروعه للولوج الى عالم اللوحة المثير, واضعا امام انفه الضخم قراراً يشبه من حيث الاهمية قراره بالاقلاع عن ارتداء البناطيل القماشية العريضة والاكتفاء بسراويل الجينز الضيقة.
كان تصميمه ان يخلق مونليزاه الخاصة المتخمة بنكهة علي ممكن.
لا ضير ان نحترف التقليد وتوجه نفسك الى ناحية الابداع, انا لا استنسخ اللوحة بل احاول محاكاتها. أليست الحياة محاكاة؟ نحن مقلدون من الطراز الاول. ألم يكن ابي يحاول ان يماثل ( جيفاراه ) وهو يعتمر تلك القبعة الشهيرة ويعض باسنانه على سيكارته البنية, مصدرا الاوامر الى امي وهي تنهمك بتنظيف قن الدجاج وتجاهد لتفحص مؤخرات الطيور علها تتحسس بيضة قريبة لتصنع الفطور لذلك الثائر وهو ينبطح على اريكتنا الوحيدة.
تلك الافكار خلطها في مخه الكبير وهو يضغط بفرشاة الزيت في وسط اللوحة ليرسم خط شروعه.
كجزء من مشروعه الابداعي قدم علي ممكن اوراقه الى السفارة الايطالية للحصول على تأشيرة دخول شارحا اسباب الزيارة من خلال خمس اوراق من القطع الكبير، خطت بعناية فائقة ورسمت فيها الحروف مثل اغنية تحكي لوعة فراق .
استفز من خلال اسطره كل المشاهد التي تراكمت في مخيلته طيلة الفترة التي قضاها كخطاط لشواهد القبور في مقبرة المدينة القديمة. استعار الكثير من الجمل المبكية التي كان ذوو المتوفين يرغبون ان تنقش على تلك الاحجار الصلدة. قام بفرز اشدها تعبيرا وصدقا ثم اعاد بناءها بما يلائم طلبه حتى انه ذكر من باب الاستعطاف الليلة التي انهكه التعب فيها بعد ان خط اثني عشر شاهدا لعائلة قضت بتفجير ما، ولم يرافقهم سوى جارهم العجوز وهو يوصيه ان يكتب على شواهد قبورهم عبارة يبدؤها من اول حجر وينهيها في الشاهد الاخير .
“كنا نتنفس من رئة واحدة والان كتمت انفاسنا واصبحنا مجرد ارقام نستنشق التراب”

الا ان توسلاته لم تنفع في زرع ذلك الختم الملون والمرتفع كبرج بيتزا في جواز سفره ورفضت طلباته تحت حجة واحدة انه غير مؤهل للدخول .

بعد ان عجزت محاولاته للدخول الى ارض (الطليان ) قرر الاكتفاء بما عثر عليه من مصادر مكتوبة وسيستمر ايضا باستغلال غنى مدينته التي تزخر بالمستفزات لتكون صانعة اضافية للتميز.

انهماكه التام في الابحار في عوالم الابداع جعل منه شبه مجنون، فحمّى الانجاز سيطرت عليه وجعلته في عزلة تامة نسي معها الكثير من الامور التي يجب انجازها خارج اطار اللوحة. كانت روائح الاصباغ الزيتية والسمفونيات الصاخبة تنتزعه من الخارج وتأخذه الى اماكن لم يكن يخطط للوصول اليها, اصابه ذلك الجو بحالة نادرة من الهذيان المستمر ضربة فرشاة .. ثم جملة طويلة, كان يعلق بعد كل لون يمزجه.. كثيرا ما كانت كلماته بلا معنى وذات طابع سريالي رغم انه يعمل على لوحة تمثل شيئا من الواقعية التصويرية .
مئة وخمس وخمسون يوما عصفت بحياته كما لم يفعل امر اخر من قبل, كان حاضرا بكل قوة في تلك اللوحة تذكر اشياء لم يكن ليتذكرها احد, كانت ذكرياته ابعد واعمق من ذي قبل، امتدت في مرات كثيرة الى جلسته وسط ذلك السائل اللزج في بطن امه وهو يحاول الخروج قبل موعده.
مرت عليه صور شاهدها واخرى رويت له ونبوءات لم تحدث بعد, كانت حياته تتمحور في تأريخ وذاكرة وصور وجنون فرشاة .
الان انا اعلن بعد ذلك الجهد وتلك الرحلة اتمام ذلك العمل الذي سيكون مفتاحا لحديث اجيال كثيرة, ها انا اقول لك ايتها الالوان ويا ابداعي العظيم يا كلي انك مأذون لك أن تتنفسي من جسدي وها انا انفخ فيك من ذاتي, ثم اصدر علي اوف كبيرة مثل عاصفة ..
عجيب رددها صانع اللوحة وبداخلها كل ادوات الاعتراض وهو يتفحص منجزه الاخير ويطوف حوله بشكل هستيري, عجيب صرخ بها طافت في المكان وفجرت كل علب الزيت الملونة واحالت المكان الى فوضى.

عجيب قالها وهو ينتصب امام اللوحة بطريقة تشبه تلك الاغاني التي تحكي لوعة الفراق, ممكن مفردة لم يقلها الان رغم انه اتقنها فبقيت حبيسة تنزف داخله .
كانت تلك صورته داخل اللوحة وهو يخط اثني عشر شاهد قبر لتلك العائلة وبجانبه جارهم العجوز وهو يوصيه ان تكون الحروف سعيدة ونضرة مثل وجوه الاطفال .