دراسات

جوريّات في حقول الخشخاش

شاعرات كرديّات

ليلى عطاء الله (شاعرة و باحثة تونسية)

 

” هذه الوردة الميدية ” شوكة ميدية “معجزة كانت.. وسوف تكون “ تمتد حقول الخشخاش عميقا إلى “أو ر” القديمة.

تغوص في أعماق التاريخ المتوجّع. ترسل أشواكها نحوالشمال وصولا إلى الأطلسي.


  داخل رؤوسها تعشّش حبيبات سوداء وعلى الصّقيع تقيم، يندر أن تزهر فإن فعلت كانت مسافة عمر بين الجفن والخاصرة. وإذ تتلوّن فإن الغالب هوالبياض ببتلات أربعة فحسب. وسرعان ما تذوي لتخلي السّوح للأفيون… لا شيء غير الخدر. استلاب وضجيج هذيان… داخل هذا العالم الأسود الشائك منفيات من المعابد المقدّسة ترتفع الجوريات. كيف يجئن؟ وأي سرّ دعاهنّ؟

من الأشواك تضفر الجدائل. والقصص لم تعد وردية بفساتين مخمليّة. بل صارت وجع الصبّار إذ يرجّ الصّخر ينزاح من تحت ثقله وينشد.

“حاملة سلّة البخور

أنشد ترنيمتك السعيدة.

لكنّني الآن لم أعد أسكن المعبد المقدّس الذي شيّدته يداك.

 أتى النّهار وجلدتني الشمس.

  وأتى ظل اللّيل وأغرقتني الرّيح الجنوبية.

صوتي الرّخيم الحلوكالعسل صار نشازا.

 وكل ما أعطاني المتعة تحوّل إلى غبار” الأميرة الشاعرة : أنخيدوانا*

كاهنة منفيّة أنشدت الشعر في قلب التاريخ. وعلى خطاها سارت جوريات كرديات. الشّمس تجلدهن والأرض تبخل بمتر مربّع للحياة. لكنهن يسكنّ النصّ وتخرج التجربة الشّعرية النسائيّة الكرديّة عن مسار النسويّة العربية. إذ جمعت التّشكيل اللّغوي المتمرّد على قواعد المدارس البيانية والتنويع الدّلالي المتفتح على أجناس عديدة كالرسم والمسرح والموسيقى بالإضافة إلى النحت وإن كان هذه المرة بالأظافر.

  1. الجسد والطبيعة

تتشكل الأنثى جسدا متماهيا مع الطبيعة فأن تشبه المرأة عنصرا من عناصر الكون فهذا من الإرث الذي صار نوعا من البداهة أما أن تتماهى كينونة أنثوية وحاجة وجودية فهذا لا ترسمه غير شاعرة كردية.

يغدوالجسد لحظة خلق يتعمّد بدهشة الحرف، إنّه ابن التراب والمطر والشمس، هوالمعجون بالورد والمضمّخ بالحبر وإيقاع تنهيدات المساء الذي يرحل نحوشرفات الوعد ليستريح  عليها.

“سوف أُهوي جدرانك المرفوعة من الطين

أنصب مكانها

وعلى علوقامتك

أكواخا من الحبّ لهذا القلب

ومن السّماء

سأسرق قوس قزح

أسدله على قامتي الهيفاء ”

(الشاعرة : دلشا يوسف

ترجمة : آخين  ولات.)

يصبح الجسد بكلّ تفاصيله الأثيرة عنصرا أساسيا في الكون إنّه “التراب” يتداخل مع الهواء من خلال استدعاء أيقونة “الوردة”.

يتجلّى الوعي هنا مخالفا للعادة التي تجمع بين الخصوبة والمرأة ويغدوالأمر من خلال التشكيل المتفرّد أو سع من الصورة القائمة على الاستعارة وعلى التشبيه.

إنّه الرمز الذي يمنح الأنثى مساحة التمرّد على الصفحات مستقبلة  الشمس. لا مجال للإستعارة المكنيّة. لم تعد الحاضرة الغائبة بل الحاضرة في الحضور وفي الغياب. إنّ المرأة هي الأرض.

“هذه الوردة الميدية ” شوكة ميدية

معجزة كانت.. وسوف تكون

يدا عقاب قاس لــ “سيدة عبقرية “

غربلتني مع التراب

وعجنتني مع الطين

 ووضعتني فوق صخرة من الصوّان

تم خبزتني على نار ملتهبة ” 

(الشاعرة كزال أحمد

ترجمة عباس البدري)

تنطلق الشاعرة من الوردة لتنتهي إلى صخرة من صوّان. فينهض النصّ على النفي والإثبات في الآن نفسه نفي البديهي المتعارف عليه وإثبات التحرّر والانعتاق عبر تخييب أفق القارئ الذي يسير في طمأنينة اليومي ليصفع بصخرة الشّعر.

إنّه لم يعد ناعما دامعا بل صار خبزة الوعي الفردي يتسع ليحمل الهمّ الجماعي.

 وتلك هي المعجزة الكردية  كلّما أحرقت نهضت عنقاء جديدة من رمادها.

يقول هيدغر “تفعيل البنية الذهنيّة لتلك العلاقة وتعزيز نمط الكينونة بما هي انعتاق نحوالشيء واستدامة واعية  لقيمته الجوهرية وبالتالي فهي انقلاب قصدي على الفهم الاستلابي” المصدر: قصيدة النثر في الشّعر النّسائي الجزائري

د: عمارة بوجمعة 19/12/2017    الموقع دار الفكر

تختار الشاعرة المرأة التحرر من ربقة الاستلاب ويتجدّد الانتماء مفارقا للرقّة  المحيلة في المخيال الشّرقي على الضعف وعلى الخنوع وعلى التبعية. الجسد أنثى مميزة تأخذ من الطبيعة كثافة معناها وجبروتها  لحظة الخلق والولادة.  إنها الهادرة بسحبها ورعودها، المتجأو زة للماضي الذي حنّطها داخل قوقعة وأمرها بالصّمت حتى لا تخدش حياء الورد

“كان زمنا

عوضا عن قطرات العرق.

كنت أفرز السكاكين الملوثة

ولم يقل احد لماذا ؟

كان زمنا

حين كنت أريد أن أقول الوردة

كان فمي ممتلئا بتلك الغدور

التي غمرت الصفاء في السواد

وضحكوا عليه

ولم يقل أحد لماذا “.    

(الشاعرة : كوسار كمال إبراهيم)

عبر تقنية الانزياح وترديد النّفي يتشكل الوجود الأنثوي.  عناصر طّبيعية  تحمل دلالات الخراب والموت،تصبح  أكثر من الرّيح عويلا  ومن الشمس احتراقا لكنها تحتفظ بهشاشة الورد وبأمل الشعر وإن كان حلم اليتيمة التي لا تملك سوى أن تحصي خسارتها.

“الريح أنشودة يقظة المشاعر

الذكريات

ابتسامة مشنوقة

لا الشمس

ولا القمر

لوحة باقية في مكانها فقط

في الجرح

شجرة

الجوع

العشق

الوطن

وردة يتيمة

وحلم وحيد :

(الشاعرة : كولتار علي

ترجمة : يدل رفو)

“كائن جميل هي المرأة.. فرحها طفل، لغوها طفل، ويداها تركضان

 على ثيابها في فرح طفولي… صور تلتقي واحدة : جسد وروح

“حلمتان ومثل طيّب…. إنني نهرها…

تغرق فيه”

(قصيدة النّثر وإنتاج الدلالة

عبد الكريم حسن /دار السّافي)

تغترب الذات في عالم ضيّق لكن النصّ يفتح عينيه فتتسعان عبر استدعاء صورة مغايرة للرجل.

  1. الرجل وطن:

تتجأو ز  الشاعرة المرأة فقدان توازنها  الجغرافي من خلال توظيف التوازي parallélisme  و”هوذ وطبيعة مورفوتركيبية يتحقق بتكرار صيغ وتراكيب متماثلة في بنيتها النحوية والصرفية وفي الطول والمسافة الزمنية وأيضا في طبيعتها  التنغيمية ضمن جدلية التماثل والإختلاف” صفحة 52 ” في شعرية  قصيدة  النثر     عبدالله شريق.

يتحول الرجل إلى عنوان وهويّة فعبر تكرار تركيب العطف تتأسّس عاطفة قوية بين المرأة والرّجل ويصبح العشق السري “هذا المركب النّعتي ملاذا آمنا للطريدة والمطرودة التي أعيتها سبل التفتيش  عن وجودها.

“تهواك هي

 وبقيت الأنيس

والأثير لها

وتطهّر روحها وتقطّعها

وعلى هواك تشيّدها من جديد

ومع تساقط الثلج

 تأتي بالشعاع

وتبرّد الجحيم بالثلج ”

(الشاعرةشيلان محمد بيرموس

ترجمة : بدل رفو)

ينطلق المقطع من تركيب إسنادي  فعلي ينسب الفعل فيه إلى الفاعل مرتين: الأو لى عبر آلية البنية النحوية للجملة والثانية عبر ضمير الفصل “هي ”  وهوتأكيد يوسّع  مساحة العشق  فتشمل كلّ “أنت” وتنسب إلى كل أنثى مغيبة “هي” ويستمرّ التوازي محدثا إيقاعا متحركا  يبنى النص مثلما  يبنى الوجود من خلال  هذه  الأفعال الايجابية المنسوبة إلى الرّجل.

“تطهّر،تقطع،تشيد، تأتي وتبرد ” تتعالق الأفعال لا للترميم ولكن  للبناء

الجديد  ليست  العلاقة مجرّد  عشق للحظة  جسدية  عابرة بل هي تأسيس  كيان   وإتيان هوية.المرأة  الشظايا الموجوعة  الرّوح يعيدها الرّجل إلى إنسانيتها “الأنيس”. ويرتقي  بالعلاقة  عبر التطهير الروحي لتستقيم شعاعا.ويستمر هذا  الفعل عبر المفردات  المتضادة  “تقطع ≠ تشيد / تبرد ≠ الجحيم / الثلج ≠ الشعاع ” إنها لحظة الولادة لكن الرجل هوالوالد والمرأة هي الوليدة. لكأننا في حضرة  معزوفة  كونية. فالتوازي  حقق توازيا إيقاعيا إلى جانب التوازي الدلالي عبر  ظاهرة الترديد الصوتي “و، و، و”

يقول جاكوبسون “إنّ بنية الشعرهي  بنية التوازي المستمر… هناك نسق من التناسبات المستمرة على مستويات متعددة،في مستوى تنظيم وترتيب البني التركيبة وفي مستوى تنظيم وترتيب المقولات النحوية.. وأيضا  في مستوى تنظيم وترتيب تأليفات الأصوات والهياكل التطريزية ” رومان جاكوبسون – قضايا الشعرية ص 105-106. ويستمرّ هذا التوازي من خلال تركيب الجرّ الذي ينشد إليه ضمير المخاطب أنت فتصبح “اللاّم” جواز مرور بين المرأة ممثلة في صفتها الممهورة  بتاء التأنيث  نحوالرّجل فيتحقق التوازن عبر التوازي وتتّسع الرّؤيا عبر الألوان القزحيّة وعبر الاستعارة حين تحمل المُزنُ وتتعالق الأرض بالسماء.

” مشتاقة    لك

وطن  لك

أنثى لك

ضحكة وبكاء

ودم الرّوح

قوس قزح أنت

مزنه ربيعية حبلى أنت ”

الشاعرة شيلان محمد بيرموس

ترجمة الشاعر : بد ل  رفو.

وهذه شاعرة أخرى من القلّة السعيدة بالحب تستحضر لحظات وجد وشغف  تؤثث من خلال الألوان عالمها.إنّه الأحمر الدافئ في أزمنة الثلج ،حيث يتجلى الرجل وطنا لا حدود له.

“إنّه عيد الحب

ورود حمراء في فؤادي  

وشموع حمراء

أو قدها وتغنّي لي

“عاشق أنا وأعرف عشقك جيّدا “

أنا فتاة حمراء وأنت رجل أحمر

وتتحدّ روحانا ”       

(الشاعرة: تريفة دوسكي

ترجمة : بدل رفوالمزوري)

ينساب الأحمر متوغلا في الحريق هي لحظة الانصهار.  طقس أسطوري: القربان على معبد الشّوق، النّار والورد والورد والنار.

 تطهير نصيّ ترتقي معه القصيدة إلى عالم المقدّس حيث تعود الصّورة إلى سيرتها الأو لى “تتّحد روحانا” غير أنّ الشّاعرة تخاتلنا باحتجاج المقهور من خلال المفردات ذات الدلالة التضادية أي الحاملة للمعنى وخلافه فحين تقدّم رجُلها منعوتا بنعت هوالثلج

” في هذا الشتاء

   حيث لا ثلج

 وأنت رجل ثلجي

  أبيض أبيض ”

فثمّة إيحاء بالصّفاء والنّقاء من خلال الأبيض غير أنّ البياض هوفراغ الصّفحات قبل أن يدفّئها الحبر. هوالصقيع الممتدّ خارج الزمان فيصبح الشتاء حالة قسوة روحانية تتسع على الفصول. ويتأكّد هذا الموقف من خلال بقية النص.

” مثل روح الغيوم

تحوم حول

فنجان قهوتي وتمتزج به

بعشق تخطّ عتبة حجرتي

 وأنفاسك على زجاج النافذة

تستحيل ندى

أقف وبأناملي أخطّ اسمك

حين كبرت

سرقت قلبي

وخبأت روحي في خرير النهر

كم أشتاق لك وأنت بجنبي.”

(الشاعرة : تريفة دوسكي

ترجمة : بدل رفوالمزوري)

يستحيل شبيه الثّلج إلى روح غيمة. صورة تجمع النقيضين أيضا. هي الشفّافة الدافئة وهي التي تعد بالمطر وتبتعد هناك فلا يُرى غير ظلها الحائم على الفنجان. هي الرّائحة تتجوّل في العالم الأنثوي. يصبح الأنف مصدر الحسّ الوحيد لرائحة هذا الرّجل نكهة مميّزة. حين نعشق يمتزج البنّ المرّ برائحة العرق اللاّهث على عتبات الرّوح. إنّه حضور الأنفاس. يتحوّل معه الحبيب إلى لحظات حياة وتبلغ الصّورة منتهى الوجع حين يمسي إسما يرسم على النافذة التي غشيتها سحابة الانتظار.

 هكذا نفعل في عمق غربتنا ووحدتنا. نحن المنفيات اللاّئي لا يرافقنا غير بلل  الحرف المغمّس في زيت قنديل الرّوح. يرسم الإسم نسكبه معطّرا على النافذة الزّجاجية و في لهفة الشوق ننسى فنقبّله… تلك القُبلة التي تمحوه… يالخطيئتنا الأبديّة أو ليست القُبلة إعلانا مقنّعا للفراق وللموت.

” وأنفاسك على زجاج النافذة

   تستحيل ندى

   أقف وبأناملي أخطّ اسمك.”

“ينتهي النصّ في شبه حيرة.حيث يسود الصّمت ويظلّ السؤال معلقا.

   ” لكنك  لم تنطق

    أي شيء أهديك “

الذين يسكنوننا ماذا نهديهم في الأعياد؟ والأعياد كيف تكون إن صاروا منفى؟

  1. الرّجل منفى:

“في هذه البقعة النائية من العالم

في هذه البقعة الخطرة من العالم

في أرض يسمونها كردستان

لا بحر لكي يكون تظاهرة للمياه الغريرة التي فيها.

 بل فيها محيطات من دم وعظام ودموع 

 لا فكر… لا عبقريّة…لا زمن

هنا العشق والكذب وسوء الحظ ”            

 (الشاعرة كازال أحمد

ترجمة: عباس البدري)

يتّخذ الإيقاع  جرسا مأتميّا عبر ترديد مركّب الجرّ ” في هذه، في هذه، في أرض” إنّه المرأو حة  في نفس المكان تتغيّر الصفات والنعوت ولكنّها تصبّ في خاتمة الأمر في مصبّ وحيد هوالعدم والكذب، إنّه المنفى الكبير.عبر آليّه النفي

“لا بحر، لا فكر، لا عبقرية،لا زمن “.

يتموقع النصّ عبر إسم  الإشارة  “في هذه البقعة ” يتردّد صدى قصيّا لصوت العالم. هوالمنبوذ والمعزول لا بحر ترسوعليه السفائن بل محيطات للعدم والعشق ممهور هوالآخر بالكذب وسوء الحظّ ليصبح الرّجل مرادفا للمنفى لا انتماء للتراب ولا صدر تضع عليه الغريبة رأسها كلما اشتد بها الحنين.

“على هذه الشاكلة،

أنا اليتيمة فاقدة الأب

اضطجعت في تابوت الشرق

بلامبالاة

وفي مهد أحلام يقظتي

أنا اليتيمة فاقدة الأمّ

قهقهت.. حدّ انفجار القهقهات

طفولتي تجيل النظر بين خرائب بلادنا

آه… أيّتها الطفولة

كفى… كفى… كفى ما رأيت 

كفى… كفى… كفى ما رأيت 

يقينا لورأيت أكثر لأصبت بالعمى ”

(الشاعرة: كزال أحمد)

 تجتاح الشاعرة غربة حارقة، تفقد الإنتماء تدريجيّا عبر يتم الأب. يصبح هذا الشرق مجرّد ضريح تستلقي فيه كالأموات.. هي الفجيعة والوجيعة  بفقدان الأمّ تفقد رحما ومهدا وتضيع طفولتها تنعدم الرؤيا أو هي تتحاشى النظر إلى بشاعة العالم من تحت قدميها. وإذ تقف على الشرفة توشك على العمى ويتوحّد الرّجل مع الوطن كلاهما منفى. هي العارية والمصلوبة على لوح الخطايا تعلن عشقها الممنوع.

 

“من أعالي قمّة صحوتي

وحتى آخر نقطة في سهول غبائي

تأمّلوا

ترونني مليئة بالجرائم مثل الأطفال

مليئة بالخطايا مثل الملائكة

أنا في وقت واحد

صاحبة ثلاثة عشّاق

عشاقي ليسوا واحدا…

ليسوا اثنين

ثلاثة هم عشاقي

ثلاث هي عقدي المستعصية

نرسيس * تانا توس * وايروس *      

(الشاعرة كزال أحمد)

تتجمّع كل عناصر القهر لتسكت صوت العشق ويتحوّل الكون بخرابه وزمنه الغابر إلى مطارد للأنثى التي أخرجت لسانها من غياهب الصّمت وأعلنت أنّها هنا… وتبلغ الخيبة منتهاها حين يتحوّل الرّجل إلى منفى داخل المنفى. فنرسيس لا يرى جمال البركة بقدر ما يعشق وجهه فيها. وتاناتوس هوالزوج الموت الذي عقد قرانه وأنشب أظفاره في الجسد المشتاق. وإيروس هوالعشق الأبدي تبلّلنا  خطاياه ولا نشرب غير وجع الشهوة المحاصرة بالفؤوس.تعقد الشاعرة علاقة مفارقة عبر هذا الثالوث  “الحبيب والزوج والعشيق “

“الحلم والموت والشهوة “

وتنتهي إلى الخراب.فالموت يتوسّطهما ويمدّ جناحيه السودأو ين فلا نطال حلما ولا عشقا.وحده هوالباقي الموت.

“في وطن بلا صاحب

  في ديار نابضة

  تتردّد موأو يل الرّثاء

الإغاثة

منظر طفل

الحقد لن يرحل

وعمق جرحك

عاشق بلا حبيب 

وظمأ القصيدة ”      

(الشاعرة: شيلان محمد بيرموس)

  1. الحجاج الصّامت :طلب اللّجوء إلى الكلمات

القصيدة ظمأى والمعشوق وهم.. حين تلفظك الأرض تدّعي أنّك لست منها وأنّ الطين الذي تحمله فيك ليس ابن ترابها. لا يبقى أمام الكرديّات غير طلب اللّجوء الصوتي إلى الكلمات. رغبة ملّحة تدفعهنّ إلى الاحتجاج على عالم القهر، اللّغة أنثى والكلمة أنثى والقصيدة أنثى إلا أنّ  التقعيد مذكّر. حاصر المرأة العربية  بدائرة التأنيث وأغرقها في نون النّسوة. نقطة بين الجاذبية وبين السّماء. أمّا الكردية فأشدّ شقاء فعلى أيّ سطر  تميل : هل تكتب بالكرديّة فلا يسمعها أحد، هل تتمرّد ثانية وتكتب بالعربية فتكون غربتها غربتين : غربة الجغرافيا وغربة الحرف … اللّغة الكردية تفلت من كفّ الشاعرة.. تتعثّر فلا تقدر على أن تكون حمالة أو جه.

” عاجزة هي اللّغة الكرديّة المسكينة

أن تصف وحدانية الأنثى

وحدانيّة قاتمة

وحدانيّة قاتلة لا شبيهة لها

نحن.. مشكلتنا رهيبة مع الكلمات

مشكلة معقّدة مع الكتابة

مع الحرف والفارزة وطلاسم بدايات الأسطر ونهاياتها

 ومع النّقطة السرابيّة لنهايات النهاية

 نحن لا أرضنا تعرف الكتابة

ولا سماؤنا تعرف القراءة

فسماؤنا تكتب بجهالة

وأرضنا تقرأ بجهالة

أهي مصادفة

أن نكون سليلي جهالة جهلاء”  

(الشاعرة : كزال أحمد)

إنّها الغربة الغريبة، هي الإنزلاق في الجحيم ومحأو لة الخروج منه بقدمين حافيتين، كيف تصرخ الموؤودة وكيف تطأ الجمر بلسان عاجز في أرض الجهالة الجهلاء؟؟.

إنّ اللّغة إذ تعجز عن إيصال أصوات العابرات برشاقة على السّطور تصنع ذاكرة مغتالة.

إنّها  ليست بريئة. اللّغة مقنّعة آثمة. هي التي ترجّك لتغادر طمأنينة النّعام إذ يغرس في الرّمل رأسه غير أنّ الكرديّات لا أرض لهنّ سوى جبال الشمالات القاسية وحقول الخشخاش السوداء.

فكيف يجازفن بضرب الرؤوس الصّغيرة على صخور القبائل؟

ثمّة فرق بين الحجاج واللّجاج. لذا تعمد الشاعرة إلى الحجاج القائم على الترديد.

  يتعدّى من سيرورة  وأطروحة إلى ضرب من الإيقاع الذي يقرع الصّدر قبل الأذنين ويجبر على الانصات إليها. وينهض على التّرديد اللّفظي. تكرّرت لفظة «وحدانية” ثلاث مرّات في ثلاثة أسطر وهوما يمنح الاحتجاج صفة نفسيّة: وحدة الأنثى وتميّزها في ذلك. وصفة اجتماعية  وهي الإقصاء الذي تعانيه المرأة.ولعلّ الإقصاء اللّغوي  هوأقساه عليها.

يعاضدها في ذلك ترديد تركيبي يقوم على التناظر فيخلق مفارقة مدهشة  لهذا الواقع الذي يسيّج ألسنة النساء.

” نحن لا أرضنا تعرف الكتابة

ولا سماؤنا تعرف القراءة

فسماؤنا تكتب بجهالة

وأرضنا تقرأ بجهالة “

 (الشاعرة : كزال أحمد)

 يتحوّل الأمر إلى احتجاج وجودي “نحن”  ضمير الإنتماء الجمعي  سرعان ما يفقد هويّته في أرض لا تتحدّد. منفيّة من عالم المعرفة مقيّدة بحرف الجرّ “بـ”  الذي يحيل على “الحالة”:  الجهل والعدم.

عبر الحجاج المقلوب تنزّل الشاعرة الصّفة محلّ الموصوف، تتحوّل من دوالّ ثابتة إلى رموز متنوّعة قلقة ترغم المتلقّي على الانصات إلى الموقف. وإن كان الموقع من درجة ثانية في ترتيب الأجناس ومن درجة الضّياع في ترتيب الجغرافيا.

” سماء أبنوسيّة

أرض أشدّ أبنوسية

بينهما ممرّ ناصع البياض مثل خطّ الحليب

أسراب من الطيور المهاجرة البائسة تعبره

وهي ” تشيّع ” مواكب الأعراس

فيما الدّموع تواسي العيون المبلّلة 

في مكان ما من لوحة الكون المتشابكة

ثمّة نبع برتقالي غير مرئي يسعل”   

(الشاعرة: كزال أحمد.

ترجمة: عباس ألبدري)

تنطلق الشاعرة من السّواد المخيم عبر استدعاء صفة “الابنوس” منسوبة إلى الأرض وإلى السماء. يتجرّأ خطّ الحليب فيشق الظلام ممرّا ناصع البياض، هي الأنثى واهبة الحياة هي الثّدي إذ تنزّ بالحليب فيفيض على هذا الكون البائس الذي تعبره الطيور المهاجرة،وفي حركة الفيض الأنثوي تتساند البواكي الدّامعات “الدّموع تواسي العيون  المبلّلة ” اللّوحة نكرة لا يعرف صاحبها ” في مكان ما ” والـ “ما ” لغير العاقل والشّعر وحده لاَ يَعْقِل الأماكنَ بل يحِرّرها.

في حركة للحياة “يسعل” يخرج صوتا متحشرجا من صدر جثم  عليه الظلام ويبشّر ببعض النور.” نبع برتقالي ” المنعوت نبع بداية التدفق والنّعت برتقالي، آية النورانية والشمس. والشّاعرة عبر الترميز تواجه الأبنوس وسيغرق بعد حين في بياض الصّفحات.

لم تعد الصفات رهينة الديمومة والسّكون، فالتّرميز جعلها شاسعة، صارت صوت احتجاج على العالم باللّون “البرتقالي”  الأبيض ” الذي يجتاح صدر السّواد  ويجبره على ارتداء غلالة قزحيّة.

إنّ تعدّد الألوان ظاهرة كردية بامتياز فبها ينتصرن على كلّ ظلام الحياة… “هكذا ينجزن أعمالهنّ وألوان ثيابهنّ تمرق من أمام العين منسجمة بشكل ما أزرق وأصفر وأحمر وأخضر وأرجواني. شيء من الجمال والرقّة في كّل عالمهّن القاسي. ما أروع وأسنى القرويّات  التيّاهات بألوانهن ووجوههنّ السافرة وما أسماهنّ على تلك المخلوقات البائسات المنطويات نساء المدينة في عباءاتهنّ وبراقعهنّ السوداء ” المستشرق الروسي:  فاسيلي نيكيتين

(الجمال الكردي 9/10/2014)

عبر الإيقاع البصري ومن خلال  بهجة الألوان يتّسع فضاء النصّ ينثال الخطاب الشعري دفقا شعوريا لا حاجة له بالوزن بل بآلية الفعل والفاعلية تؤسّس الشاعرة الكردية وجودها  الباقي عبر الزمان والمكان.

” فالخطاب يمكن أن يبقى شعريا حتى مع عدم المحافظة على الوزن”

جاكوبسون  : نظرية المنهج الشكلي ص 55 “

الشعر هويّة وانتماء والنصّ وطن والأنثى واهبة الحياة تنحت الصّخر وتلد واقفة، الجوريات رقيقات لكنّهن يرسلن ريحهنّ في حقول الخشخاش وينتصرن على الظلام.

” تحت أفياء شلالات أغنياتي

مثل الساحرة أحيل ألف ” وفائي “

 إلى سمكات جذلى

وألف قصيدة شعر تصبح دثارا

من الطحالب لصخرة قلبي

أجعل من عصيان الماء نفيرا

لنشوب الحرب

ومهرجانا لبهجة السلام

أعرف أنني أخطأت

أنا خطيئة…. خطيئة كبرى

شوهت لوحة الطّبيعة بمجيء في غير موعدي

ذوّبت قلب الماء بسحر ومكائد جمالي

وطغيان فتنتي 

أشعلت النّار في صلابة الحجر

……

أو لاء.. وهؤلاء “الطرزانات”

أرادوني خطيئة مقدّسة في مباهج الحياة

عظيمة جدّ ضئيلة

 عذراء… عاهرة

وجودا…. وعدما

عرشا ملكيا في دخيلة نفسي وخارجها

أو لاء وهؤلاء أرادوني في لحظة الموت

 أن أكون لنفسي

وأن يكونوا هم… لأنفسهم”.  

(الشاعرة:  كزال أحمد)

تلك هي الأنثى الشاعرة،الخطيئة المقدّسة لها الصّفحات كنائس والحروف أجراس وسنظل نغنّي.

 

 

 

 

 


تنويه :

النصوص المترجمة اعتمدت فيها دراسة حيدر الحيدر

الكرد وكردستان في الشعر العربي المعاصر

المجموعة الحادية عشر 11/15 بعد بحث دقيق نظرا لوجود نصوص أخرى لا تستقيم  لغتها وهي من قبيل الترجمات  الفورية التي تسيء إلى النص الأصلي.

*هذه الدراسة قسم من دراسة شاملة لنصوص شاعرات من المشرق إلى المغرب، تصدر  قريبا “جوريات في حقول الخشخاش   شاعرات منفيّات “

  • أنخيدوانا : إنخيدوانا2285-2250 ق م) اسمها إنخيدوانا أو إن-هيدو-انا)

اعتبرها علماء الأدب والتاريخ أقدم امرأة كاتبة وشاعرة حب.