كتابات

  شعرية الفقد وسؤال الوجود

   شعرية الفقد وسؤال الوجود

في قصيدة الموت “بملابسه البيضاء الأنيقة”

د. عزوز علي إسماعيل

الغياب والرحيل واللاعودة في نصٍّ شعريٍّ مغرٍ ومستفزٍ، قصيدة نثرية عبر مقاطع يحكمها الخيال الوقاد لتبيان فلسفة الموت عند الشاعر إبراهيم موسى النحاس“بملابسه البيضاء الأنيقة” باعتبار أنَّ الموت حقيقةٌ وجوديةٌ مطلقة، تبدوتيمة مهمة من تيمات هذا النص، أقل ما يمكن أن يقال إنه نصٌ كافكاوي بامتياز، ملامحه الغياب والقبر والموت والكفن، يتعانق مع “الأرض الخراب” لـ “ت. س إليوت ” في عزلته المميتة وفي شوق للتنفس، وهنا تبدوالكلماتُ أكثر ألماً، لأنَّها تتنأو ل الغياب الذي يعتبر بمثابة الذهب المنسي، كما صدَّر الكاتب هذا النَّص حين قال: “إذا كان الكلامُ من فضة فالسُكوت من ذهب” والغياب أيضاً، يحأو ل الكاتب أن يسرد حياته شعراً منثوراً من خلال قصيدة الموت وقراءة الحياة من هناك من عالم البرزخ الذي يرنومنه إلينا، حيث الأبدية المطلقة، إنه الغياب ذلك الألم الذي يفجع الحاضر بغياب الأب أو الأم أو الحبيب أو القريب أو الزوج أو الزوجة، وأصبح هناك بوحٌ داخلي يرتبط بالغياب، وهذا الغياب أصبح يمثل شعرية فارقة تجلت في التعبير بقصيدة نثرية فارقة، وكان الإهداء داعياً للتفكير؛ ذلك أنَّ الإهداءَ من عتبات النص المهمة، فهوهنا يهدي العمل إليها، ويشير بعبارة “الحياة” فلا نعرف هذا الضمير يعود على من هل الحياة أم الأنثى؟ ويتلاعب كثيراً الشاعر بالألفاظ والضمائر، وإذا كان الضمير يعود إليها أي للحياة، فالحياة فيما يتعلق به تبدوبعيدة عنه بغيابها الطويل، أي أنَّ الحياة لم تُقبل عليه وعاش يكابدها طوال عمره، وأصبح غيابُها طويلاً، وهي ذكرى له والحياة عند الشاعر تتناص مع الحياة عند فؤاد حداد حين قال “كأن الحياة ذكرى” فمهما عاش الإنسانُ، فإنه يحيا فيها عن طريق التذكر أي تذكر الماضي، وحين أهدى الشاعر هذا النصَّ إلى الحياة، فهويؤرخ لصعوبتها وعذاباتها، وقد يكون المقصود من الحياة هنا الأم التي هي بالفعل الحياة بل ومدرسة للتعليم، ويذهب بنا التفسير إلى ذكر الضد من الحياة وهوالموت؛ ذلك الموت الذي انطلق منه الشاعر في قصيدته الطويلة عبر ديوانه الذي يحمل قصيدة واحدة معجمها الكفن الأبيض، الغياب، والموت والحساب. إن إهداء النص الشعري له دلالاته، فالحياة بغيابها المتعمد عن الشاعر وما عاناه فيها من شظف العيش والآلام المتعددة تجعله بلا شك يهدي هذا النص إليها يقول:”إليها.. الحياة، بغيابها… المتعمد…الطويل” فالغياب المتعمد من تلك الحياة ظل مهيمناً عليه عبر مراحل حياته المختلفة ورغم القهر الذي يحياه في ظل زمان لا يرحم خاصة بعد أن أصبح هذا الغياب طويلاً، ولم يدر متى ينتهي ومتى تعود إليه الحياة، ويعيش فيها مثل أو لئك المنعمين، الذين لا يعلمون شيئاً عن تلك الآهات والمرارات التي يتكبدها كما يتكبدها الملايين من أمثاله، فالكتَّابُ والشعراءُ في كل زمان ومكان لا يلقى لهم بالاً من قبل الحكام، بل وإذا كان هناك عطاءٌ من أو لئك الحكام، فإنَّ العطاء يذهب لمن يمدحهم، أما من يقف في وجه الظلم والطغاة فلا يجد نفسه إلا خلف القضبان يقاسي مرارات السجون، وبالفعل كان الإهداء في محله، ونتذكر ما كان يقوله نزار قباني في حق المقهورين والمعذبين من الكتاب” في عصر  زمن الكاز  يطلب شاعرٌ خبزاً وترفل في الحريق قحاب” وكما ذكر توفيق الحكيم من قبل حين علم أن ما يتقاضاه لاعب كرة القدم يعادل ما يتقاضاه كاتب في سنوات عمره بأكملها فقال “ذهب عصر الأقلام وجاء عصر الأقدام” نعم أكد الشاعر في إهدائه على ذلك الإجحاف والظلم والقهر، فالحياة لن تُقبِلَ عليه وسيظل في قهر ومرار ما دام يدافع بقلمه عن كلمة الحق، وما أدراكم إذا كانت كلمة الحق تخالف الزعامة الزائفة، والعنجهيات الكذابة، فلا تقابل إلا بالسجن والاعتقال، لقد كان الشاعر ذكياً في هذا الإهداء الذي يحمل دلالات بعيدة منها ما جاء في طيات النص الشعري نفسه من قسوة تلك الحياة وما عبَّر عنه بالموت والفقد ومنها ما يمكن أن يستشف من كلماته ذات الدلالات البعيدة، لذلك نؤكد على ما قاله بأن الغياب أصبح هوالآخر من ذهبٍ أي أنَّ السكوت نفسه إذا كان من ذهب، فإن الغياب والرحيل والموت والفقد هوالآخر أصبح الطريق النهائي كي نرتاح من عناء الحياة التي لم تُقبل بل كانت مدبرةً دائماً، فلم تُقبل يوماً إلا على الفاسدين والطامعين وعلية القوم الذين يظنون أن الأو طان تخصهم وحدهم، وملك لهم.

يحمل هذا النصُّ السرديُّ الفارق شعرية متميزة، نراها جلية في التعبير عن الغياب والموت، وكان معجمه دالاً في طرحه، والذي يكمن فيه قوة الشعرية التي تبين الإبداع الحقيقي عند الشاعر، وهوما بدا واضحاً في معجمه الدال من خلال اللباس الأبيض الذي يمثل الكفن، والموت، والقبر، والدود والتراب، والألم،والفقد، كلها كلمات قاسية على النفس. يتحدث بلسان الموت أحياناً وهويمثل حالة الفقد والوعي في الوقت نفسه، الوعي بالذات والوعي بالآخر في غيابه القاسي، ويماهي الشاعر بين ما لدينا من معارف وحقائق عن الموت وبين ما يراه شخصياً لدى الناس في الحقيقة المدهشة، سارداً وشارحاً تنهيدات مميته، بدءاً من المكان “القبر” الذي عبَّر عنه بـ “هنا” فهويشير إلى الموضع والحيز، حيث اللاعودة، الموت ومن سيرحل بأنه سيعتاد التأخير خارج البيت. يقول: “هنا سأعتاد التأخير خارج البيت. أدربهم- كثيراً- أن يذوقوا. حلأو ة الحضور. في مقدماتِ غيابه الطويل.. فإذا كان الموت هوالفجيعة الكبرى فهويقابلها بنص ساخر يرتد من خلاله إلى نفسه، يموت الأب وتصاب الأم بالزهايمر المفاجئ نظراً لذلك الفقد ولوعة الفراق، وتصبح هناك أكذوبة الأثر، كيف يكون الابن أثراً لأبيه وهويعاني من فقده للنفس. والقبر هوالمأو ى المنتظر، وهوالسكن الأبدي للإنسان، وتبدوالمفارقات في لحظات التشفي وكأن الذي يتكلم شخص آخر غير الابن، التشفي في رؤية الدود ينهش ذلك الجسد الذي أتعبه كثيراً، ويبرهن على ثنائية الضد في شعرية فارقة، فأو لئك هم الناس الذين ودعوا موتاهم يأتوا ويتنأو لوه بالغيبة والنميمة بعد أن توردت خدودهم من البكاء عليه، والمفارقات العجيبة، وكأنَّه يريد أن يقول إنَّ هناك تصنعاً يبدوبين الحقيقة والنفاق. فيبدوللعيان تصنعاً مقيتاً حين تراهم يبكون عليك حين تغيب “ويصابون بتضخم المحبة وتتورد خدودهم. بقطرات الندى الذي تبعثها أعينهم” وأكثر العبارات تجدها في”ربنا يسامحه” ليسخر من كلامهم، وكأنه يعرف أنهم ينافقون حتى بعد الغياب، وبروز عين اليقين. ويسخر منهم جميعاً ومن نفاقهم حتى في ذلك الموت، فمدهش جداً أن تراهم ولأو ل مرة يجتمعون من أجل والده ولكن أين؟ في مكان الدفن والسير وراء الجنازة، ولم تكفهم الحالة المحزنة كي يصمتوا عما يقولونه ولكنهم تمادوا في أحاديثهم عنه وهم يحملونه على أعناقهم ولكن في النهاية تجدهم يقولون: “اذكروا محاسن …..” بمعنى أن أحاديثهم السابقة لم تكن في المحاسن بل كانت فيما يسيء إلى المحمول على الأعناق، فيلاحظ البعض ذلك أي أنَّ المشيعين في حالة متفأو تة بين ذكر العيوب التي كانت فيه فينههم أحدهم بأنه يجب أن يذكروا محاسن الأموات فينتبهوا ويعودوا إلى الرشد بعد أن حادوا عن الصواب. هؤلاء هم أعداء النجاح يقول الشاعر:

يغربلون كلامهم

يتوارى خجلاً الحاقدون

وأعداء نجاحك المتواضع

أو سيهبط العسلُ على ألسنتهم

كما تَهبط القصيدةُ

وإن حاد أحدهم

ربما تكفي عبارة “اذكروا محاسن …”

شعرية الكلمة في القصيدة تبدوفي البعد الذي يرمي إليه الشاعر، فهويحأو ل وصف حالة فقد وموت ولوعة وأسى وهناك أناس يأتون للتعازي، ولكنهم لم يكفُّوا عن القيل والقال، قبل الوفاة وبعد رحيل ذلك المتوفَى، ويبدوموقف النحاس الوجودي من الموت وهويحيا يتنأو له بالسؤال عن العدم طالما أنه مازال يحيا ويتنفس، ويماهي بين كونه موجوداً ليتحدث عن الموت وبين الموت نفسه الذي يتحدث معه وكيف أن الحقيقة المطلقة إذا ما بدت للعيان تلغي من أمامها كل المعارف التي تعلمها وتبدوجميعها مجموعة من الأكاذيب، وضع النحاس نفسه في حالة الموت وفي الوقت نفسه يتنأو له بكل جرأة تحسب له وكأنه يتحدى ذلك الغائب البعيد، ويؤكد أن الناس جميعهم قد ينسوا تلك الحقيقة المطلقة ولكنهم في الوقت نفسه يعلمونها، ويحأو ر الموت أو يحأو ر الذي رحل يقول الشاعر: ” لن تفاجأ. بنسيانهم زيارتك. أو سؤالَهم عنك على فترات متباعدة. وكما كانوا. لن يهاتفوك. ويكتفون. بحنين متقطع. يسرقونه. من ثنايا الغفلة. أعرف… قد يُنحِّي مشاغله على أحد الأرفف. يُحضر ملائكته. قاطعاً المسافة مُهرولاً. قلبه يلهث. حيث بعض الدمعات الخانقة/ المريحة. يزاحم الحشود[الموت]. متناسياً. لعنة الإصابة بالسكر. وهويسندُ. جانباً من النعش. على كتف مستفزٍّ” فالموت لا يفرق بين مريض السُّكر والمعافى من أي مرض آخر، إنه يحصد دون رحمة أو مواربة فيقطع المسافات كي يلتقط من أتى دوره. يحأو ل الشاعر ربط الأحداث بأماكن التلاقي المعروفة عند الأدباء خاصة في مصر وهو”أتيليه القاهرة للأدباء والفنانين” وذكر المكان بمفرده له دلاته، فهويتذكر حين الموت أن هناك أصدقاء حقيقيين له وهناك خونة وكيف أن هذا الجسد الذي سلموه للأرض قد ملَّ البقاء على تلك الأرض، وكان ذلك أو ل اختبار لهم، فسلموه للأرض وهنا تبدوشاعرية فارقة يظهر منها إبداع حقيقي في حديث الموت وذكر الأماكن التي كان يتردد عليها والأماكن التي كان يحبها مثل وسط البلد، فضلاً عن ذكر الأصدقاء داخل القصيدة النثرية مثل صديقه المقرب منه”الشاعر أسامة بدر” وذكر قصيدته “اليوم يصلح لقبول الهدايا” وهنا يحدد الشاعر تفريعاته من الأصدقاء والأماكن التي انطلقت من الأرض تلك الأرض التي لم تتحمل أو راقها من البشر عوامل التعرية والحروف لا تصمد طويلاً أمام المطر.. يتوغل الشاعر، في عمق الموت بعد الرحيل حيث يرسمه الفنان بورتريها جميلاً بريشته الرقيقة، وتبدوخلفية اللوحة سوداء قاتمة تعبيراً عن الرحيل، وهي خلفية موحشة تعبيراً عن النهاية التي ينتهي إليها كل إنسان إنها الأرض وظلمة القبر، يماهي بين الحقيقة والخيال أو بين الحياة التي نحياها والعالم الآخر الذي سنرحل إليه إنه الدار الآخرة:

لراسم “البورتريه

خلفيةٌ سوداءٌ

مُوحشةٌ

الحجرةُ

مُظلمةٌ بشكلٍ كاملٍ

 وفي ركن

يَشغَلُ زأو ية كبيرة في المشهد

ثعبان ضخم

وهوكعادته

وحده

في الوسط تماماً

نافذةٌ

تطل على نارٍ لا يعرفها

بورتريه الموت المعبر عن الرحيل الماضي، في حد ذاته ذكرى ملصقة على الحائط. عبَّـر الرسام بتلك الريشة عن ذلك الرحيل بكل ما يحتمله من سعادة وشقاء، وأمل كان يحيا من أجله وشقاء بسبب التعثر في الحصول على الأمل الذي ظل طوال حياته يسعى من أجله. لا ينسى الشاعر التذكير بما آل إليه الموت، حيث الثعبان وذكر النار والآلام التي في انتظار العاق والخارج على طريق الحق، لم يجد نفسه إلا وحيداً في وسط القبر ينظر بعين فيجد النار من نافذته، كل ذلك من رائحة الموت التي تناثرت في كل مكان.

ويوصم قصيدة له بالغباء فهي قصيدة سابقة يحأو ل أن يتحأو ر مع نفسه على ألا يزعجهم فيكفي ما كتبه في تلك القصيدة التي يتحأو ر معهم ومع نفسه التي مضت، وهوهناك في رحلة الموت؛ حيث يحزن على نفسه داخل النعش ويخرج من شقته كي يشاركهم مراسم الوداع والعزاء، يجعل من نفسه اثنين يحاور أحدهما الآخر ويرسم بريشته ألم الفراق ويماهي بين الموت المحقق والمحتمل، ويتعجب لماذا هذا اليوم فحسب يبدوفيه الحزن على الجميع؟ فيتأكد له أنه مات، وتُنصب له مراسم العزاء، هنا تبدوالمفارقات المرة والمؤلمة في قصيدة النحاس، ففضلاً عن أنه يحأو ر نفسه ومع نفسه ومع الآخرين، فهويحأو ل بقدر المستطاع تبيان النتيجة المرتقبة عن تلك الأحزان فالنساء يؤكدن لأبنائهم الأخلاق والقيم في الراحل بينما الجارات المقربات فكانت الزوجة تؤكد لهن على صفات الرجولة التي كانت فيه، وتسعد الأرواح بتلك الأحاديث ولكن الشاعر لا ينسى أن يذكرنا بذلك الموت ورائحة الموت المنتشرة في ربوع العمل، وكيف أننا نحيا مع الموت ونموت مع الموت أيضاً فهويشاركهم حَمْلَ نفسه إلى القبر، بل والسير خلف النعش في الوقت نفسه، يقول:

” كلما مرت جنازة أمامي

 أحزن عليَّ

وأنا داخل النعشِ

أخرج من الشقةِ

أشاركهم حملي

والسير خلفي

والدعاء لي

ما أحزنني أكثر

سرعتنا الغريبة في السير

كأنني

جريمةٌ

أو ذنب اقترفوه.

لماذا اليوم

واليوم فقط

يلوح كل هذا الحب لي؟

كلُّ هذا الحزن عليَّ؟!

وأعود معهم

ننصبُ مراسم العزاء

ومثله..

تأخذني الحياة

وأنسى”

التناص مع محمود درويش في ذكر الموت

يتناص الشاعر في هذه القصيدة النثرية الطويلة المبكية مع محمود درويش، ويأتي هنا في هذا المقطع بقول له من ” الجداريةلم أو لد لأعرف انني سأموت” بالفعل الشَّاعر ينفعل مع قضايا وطنه وما ألجأه إلى حديث الموت بل إلى الموت نفسه إلا ما رآه من آلام منتشرة في ربوع وطنه، وهويعلم أن هناك من يستكثر عليه نعمة الموت، لذلك لجأ بذكاء إلى من سبقه وسأل الوجود وسأل الموت أن ينتظره حتى يكمل تدابير الجنازة، فيحأو ر نفسه في قصيدته المُرَّةِ ولن يكون غبياً ولن يهتم كثيراً بتلك الحياة حتى ولوارتدت له قميصاً مثيراً وتزينت بمكياج مختلف ووضعت بارفانات ملفتة، أو حتى زيادة في راتبه الغبي يقول محمود درويش أو لاً:

وأَنا المُسَافِرُ داخلي

وأَنا المُحَاصَرُ بالثنائياتِ،

لكنَّ الحياة جديرَةٌ بغموضها

وبطائرِ الدوريِّ…

لم أو لَدْ لأَعرفَ أَنني سأموتُ، بل لأُحبَّ محتوياتِ ظلِّ

اللّهِ

يأخُذُني الجمالُ إلى الجميلِ

وأُحبُّ حُبَّك، هكذا متحرراً من ذاتِهِ وصفاتِهِ

وأَنا بديلي…

أَنا من يُحَدِّثُ نَفْسَهُ:

مِنْ أَصغر الأشياءِ تُولَدُ أكبرُ الأفكار

والإيقاعُ لا يأتي من الكلمات،

بل مِنْ وحدة الجَسَدَيْنِ

في ليلٍ طويلِ…

أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض،

انتظرني في بلادِكَ، ريثما أُنهي             

حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي

قرب خيمتكَ، انتظِرْني ريثما أُنهي

قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد. يُغْريني

الوجوديّون باستنزاف كُلِّ هُنَيْهَةٍ

حريةً، وعدالةً، ونبيذَ آلهةٍ…

فيا مَوْتُ! انتظرني ريثما أُنهي

تدابيرَ الجنازة في الربيع الهَشّ،

 

ويقول إبراهيم النحاس

أنا أيضاً” لم أو لد لأعرف أنني سأموتُ”

لكن بكثير من الأسف

وقسوة

لا تقِلُّ عن قسوتها

لحظة رفضها مضاجعتي

عرفت…

لن أكون غبياً فأجلس في القطار وحيداً

أقلب عينيَ في الوجوه المتحجرة

واضعاً إحدى يديَّ على خدي المصفَرِّ هكذا

أو بتلقائيةٍ غير مقصودةٍ

أشبك الأصابع في بعضها البعض

وآخذ رأسي بعيداً

خارج النافذةِ

لذكريات تلوَّنتْ

بالأسود والأبيض، والرمادي والأحمر

منتظراً في بلادة

المحطة القادمة.

لن أكون غبياً

وأشغل نفسي

بتفاهات تتعاظمُ

لن أهتم

بلون القميص الذي سترتديه لي هذه الليلة

أو نوع الماكياج والبارفان

أو حتى

الزيادة الغبية في الراتب الغبي

سأكون أكثر ذكاء

وأخرج ورقة فارغةً

من جيب بنطالي الخلفي.

سوف يكون شاعرنا أكثر ذكاء ولم يتأثر بكل ما فات لأنه يكتب نفسه وسيرته الذاتية من عمق المعاناة، فلم يبق له إلا الورقة والقلم كي يدون ويكتب، وبدأ يدون ذكرياته الماضية المرتبطة بالألم والموت سواء أكان مع الطاحونة، أم أماكن القاهرة العامرة “الأمريكيين” “الأتيليه” و” شارع المعز” و” مطعم أو ندين” حتى ماكينة الحلاقة وذكرياته مع أشيائه الخاصة، ولوحة الموناليزا والسخرية المتعمدة التي ستنتظر راسمها وواضع شخصيات “ألف ليلة وليلة” و” طبيب الأسنان” … أما شارع المعز فيأتي ليؤكد ارتباطه بهذا المكان فالطفل ما زال عالقاً في صدره، الطفل الذي أراد البحث في التاريخ وفي الوقت نفسه الخلاص من المستعمر الداخلي الذي أذل البلاد والعباد.


في ” شارع المعز”

يتجول بين الوجوه

يسحبُهُ المماليكُ على وجهه


وأو امرُ “الحاكم بأمر الله” أو ل الشارع

توقفُهُ

وحيداً

تائهاً.

الجنة المحرمة

لم تمهلْه الوقتَ

كي يضمها

كيف للحكاية أن تكتملَ

وهي

تمسكُ الحياة من يديها

كطفلة مشاغبة

بينما

يمشي متناسياً

القبر الذي ينموكل يوم

فوق ظله

“هههههههههههه”

تسخر الكراسيُّ منهما

ميّتٌ وميتة


يوزعان عجزهما

على طأو لةٍ بين موتى

في…

“شارع المعز”