دراسات

السردي في قصيدة النّثر البوليفونية وتعدّد الأصوات فتحي النصري الذي لم يفوت موعدا

ليلى عطاء الله

شاعرة وباحثه

*مثل من فوّت موعدا
ولا يريد أن ييأس”  فتحي النصري

  1. البوليفونيّة والشعر

الإيقاع ابن الحياة، الخطى المتعثّرة فجرا، المشية الواثقة َظهرا، الأقدام المتردّدة مساء، كلّها توقّع.الورد إذ يبسم مقبّلا ظلّ الصّباح، خرير الجعافر وهدير الأنهار، انحناء الشّمس نحو الشّفق، كلّها توقيع. بياض زهر اللوز وحياء حبّة الكرز الأولى، النّور الذي أثمله ظلّه… كلّ ذلك إيقاع وتوقيع وتوقّع.
كل ما في الكون ينشد. وحدهم من لا يملكون آذانا يسمعون، إنّه يشي ولا يفصح والشّعر أكثر أجناس الكتابة تجميعا للأصوات، وأقدرها سبكا لها في ذات الشّاعر المفردة بصيغة “الجمع” على حدّ عبارة أدونيس. لذلك فإنّ مفهوم “البوليفونيّة” الذي نشأ رديفا للرّواية مع الناقد “ميخائيل باختين” يجوز له أن يتسرّب بحياء إلى قصيدة التفعيلة وأن يقتحم اقتحاما قصيدة النّثر، لما فيها من سرديّة كثيفة ومن أصوات عديدة تتشابك داخل نسيجها. هذا الخطاب الذي اتخذ من السّرد سِداه ومن التعبيريّة شعريّته.

  • في تعريف المصطلح

“البوليفونيّة” لُغةَ “تعدّد الأصوات” وهي في الواقع ترتبط بالموسيقى “polyphony” مصطلح مشتق من اللغة اليونانية  ويعني “أصواتا كثيرة” نغما أو أكثر في نفس “الوقت خلافا للمونوفونيّة “monophony” أي الصّوت الواحد مثلما في الترتيل “يقول د. جميل الحمداوي عن شبكة الألوكة 15/10/2015″ يقصد بالبوليفونيّة poly phonie لغة تعدّد الأصوات وقد أخذ هذا المصطلح من عالم الموسيقى على أساس أنّ البوليفونية عبارة عن انسجام أو أنساق بين مجموعة من أصوات العزف المختلفة وتأليفها فنيا وجمالها ضمن وحدة هارمونيّة نسقيّة” وقد كان لهذا المصطلح تأثيره المنهجي الإجرائي في التحليل والفهم والتطبيق خاصة في مجال الرّواية ونحن نزعم أن قصيدة النثر اليوم لم تعد قائمة  على اللاّغرضية” وإنّما صارت تفي بالغرض المقصود إلى جانب تمرّدها على الصّوت الواحد الذي يكون في الغالب صوت الشاعر المتحكّم بنصّه إذ أن النصّ أوسع من الإيقاع القائم على التفعيلة ومن ناحية الدلالة  هو نسيج متعدّد لا تكفي الدراسات اللسانية وحدها لفكّ ألغازه.
يقول الناقد أنور علي الموسوي “السردية التعبيريّة تفتح الباب واسعا أمام البوليفونية الشعريّة أكثر من الشّعر الصوري المونولوجي عادة” 18 يناير 2016. “السّرديّة التّعبيريّة وأسلوبيّاتها”.
وقد ارتأينا نموذجا لذلك كتاب الشاعر فتحي النّصري “مثل من فوّت موعدا” صادر عن دار زينب الطبعة الأولى 2015.

  • في العلاقة بقصيدة النثر

خلافا للمعهود، اضطلع  “فتحي النّصري” بالتّقديم يقول في مقدمة الكتاب ” تضمّ هذه المجموعة إذن ما كتبت من “قصائد نثريّة” بعضها ينشر لأوّل مرّة  وبعضها الآخر سبق أن نشر في مجموعتي” “سيرة الهباء” 1999 و”جِرَار اللّيل” 2006 إلى جانب قصائد الشعر الحرّ. ولعلّي كنت آنذاك أريد بالجمع بين هذين الشكلين  أن أثبت لنفسي في ذلك الطور من ممارستي الشعريّة قبل أن أثبت لغيري أن الشعر أخطر وأفسح من أن يحدّ بالنظم المتقيد بالأوزان الخليلية”.
ص 6/ الديوان.” مثل من فوّت موعدا”
وهو إذ يقرّ بهذا الرّأي لا ينفي خصوصيّة كل نوع من أنواع الشعر الحديث إذ يقول “ولكن إثباتي هذا الأمر لا ينفي وعي أن مآتي الشعريّة في قصيدة النّثر “غير مآتيها في القصيدة المنظومة رغم ما قد يكون بينهما من اشتراك في بعض الخصائص الفنية العامة” ص6 (نفس المصدر) .

  • في العلاقة بين النقد وقصيدة النثر

“… ولكنني أتهيب كتابتها…..” فتحي النصري. الدّيوان ص7.
… إنّ النّقد – كلام على الكلام – وليس أجلّ من هذه المغامرة فالنّاقد الذي يمارس فعلا تقليديا ينهض على الثوابت والتقعيد تكون مهمته “حراسة الأفكار”. أمّا الذي يُطلّ على “قصيدة النثر” فإنّه يُغامر شأنه شأن شاعرها الذي يقول عنه فتحي النصري “من يكتب قصيدة النثر” يفترض أنه يغامر وحيدا في العراء وقد تحرّر من كلّ قانون أو قيد فنّي إلا ما يتيسّر له بجهده ومعاناته لحظة ابتداع النصّ وإنشاء الجمال فلا وسط في “قصيدة النّثر” فإمّا شعر وإمّا إسفاف”.
من هنا كانت مهمتنا شاقّة في مقاربة هذا المنهج أوّلا وفي الإيغال في هذا النصّ الذي لم “يفوّت صاحبه موعدا له مع “قصيدة النثر” ثانيا.
 

  • البوليفونية الأدبية:

ليست البوليفونية تناصّا ولا تضمينا للغائب ولكنّها الأصوات المتعدّدة من خلال الأساليب، واللّغة، وتعدّد الرؤى الإيديولوجية.
“ترسم البوليفونيّة صورة الإنسان المأساوي أو الفجائعي وتجسّد الشخصيّة غير المنجزة أو غير المكتملة، وتعبّر عن تنوّع الحياة وبالتالي فهي “ضدّ تشيُّؤ الإنسان وضدّ تشيُّؤِ العلاقات الإنسانية وكلّ القيم الإنسانية في ظل النظام الرأسمالي” *ميخائيل باختين ص 88 شعرية دويستفسكي.

  • وليست البوليفونية polyphonie كذلك الحواريةdialogisme

رغم أنّ باختين استعمل هذين المفهومين بالمعنى نفسه إذ يقول شاناي (h. dechanay ) “أنّ البوليفونية تعني تعدّد وجهات النظر على مستوى وحدات المضمون. في حين تعني الحواريّة تعدّد الخطابات التّخييليّة أو غير التخييليّة على مستوى الشّكل”
Jaques bres et autre : dialogisme et polyphonie
Approche luiguistiques de boeck 2005.
 
II–  تتعدد الأصوات/ أو جهات النظر داخل الديوان

  • الصّوت 1 :الموروث الجاهلي:

اللّغة هي الشكل البارز الذي يتخلل كل النّصوص مهما اختلفت أجناسيّتها “ولمّا كانت حدود البحث في مجال اللّسانيات هي الجملة: فلنبدأ من ما بعد الجملة ولكن ما بعد الجملة ليس إلا جملا تنتهي مجتمعة إلى جملة كبيرة فظهر ما يعرف بلسانيات النص أو لسانيات الخطاب”.
في نظرية السرد وتحليل الخطاب د.عز الدين بوبيش 
هكذا يصرّح الناقد د.عز الدّين بوبيش غير أنّنا في قصيدة النثر لا نكتفي بالنصّ وحدة معزولة وإنّما ننزّله ضمن (الفضاء) الزمان والمكان. فنصافح مباشرة لغة عربية فصيحة تنهل من المعين الجاهلي يقول فتحي النّصري
“آه كم وددت لو خلعت ظلّي
وغسلت منه يدي
بالصابون والأشنان” ص 87 الديوان.
أوّلها “الأُشنان نبتة صحراوية” تنمو في التربة الرملية القاحلة والأراضي الصخريّة”
“تحط طيور سود
في ظهور الخراف
تلك الخراف وديعة
لكنها جرباء
وهي تدرك ذلك جيدا
ففي لحظة صدقها
تمضي إلى المعبّد”
(كوابيس طائرة) الدّيوان
هذا الثالوث “ظهور، جرباء، المعبّد” ثانيا هو صوت طرفة بن العبد الذي كان صادقا حد الرفض والتمرّد على نظام القبيلة حتى”أُفرد إفرادَ البعير المعبّد”
صوت بعيد بعيد لكنه حاضر بكثافة رغبة الشاعر فتحي النصري خوض تمرّد يتجاوز انقياد الخرفان.
“ويكفي لنتأكد من ذلك
أن نرصد من عل” – تاريخ السلالة ص 31 الدّيوان
الثالثة “من عل” هذه عبارة امرؤ القيس وهذا صوت الملك الضّليل الذي يُعْلِنُ
(مكرٍّ مفرٍّ مقبل مدبر معا/ كجلمود صخر حطّه السّيل من عل)
غير أنّ الملفوظ الجاهلي يوظّف لمعنى جديد وهو انحسار مهمّة المثقف الذي صار يكتفي برصد القطيع إنه أفول دور الشاعر وضياع الشعر في مجتمع فقد سلالته فصار تاريخه جعجعة لا تخلّف إلا “طحينا”
“ليس هذا نشيدي
فلم يك ثمّة من ملحمة ” تاريخ السلالة ص31″
إنّ اللّغة حمّالة الأصوات عن جدارة. فاللّسان كالإبهام له بصمة خاصّة لكنّه ينتمي إلى كف. ويجاور بقية الأصابع: هذه السلالة التي فقدت نقاءها وكأنما الأمر شبيه بسوق يعود زوّارها وتظلّ هي واقفة في مواجهة الغياب
“قرن آخر/
يمضي
ولا يلتفت إلى غباره
كأن سوقا قام وانفض على عجل” حديث العدد” ص 33
 

  • الصوت 2: المقدّس الدّيني

يتخلّل هذا الصوت كل الدّيوان ونزعم منذ البدء أنّه يكاد يتحوّل إلى إنجيل لما يتوشّح به من إحالات على المقدّس.
وأوّل ذلك النصّ الفاتحة الذي وسمه الشاعر بعنوان “الفاتحة”
“لا جدوى من الذهاب هناك
لا عزاء في البقاء هنا

إن الموجة التي لم ترتق أسباب السماء
ولم تغرها الهاوية
ظلت وعودها زبدا يتطاير من رغاء بعير كظيم”.
فاتحة ص 9
“نحن في حاجة إلى معجزة
لنستعيد الإيمان بأي شيء”
معجزة ص 13                              
لا يكتفي النصّ الشعري بالبعدين البنائي والأسلوبي فحسب بل ينهض على البعد اللغوي الدلالي.
ومن خلال نصوص الشاعر فتحي النّصري نلاحظ هدا التقاطع بين الأبعاد
“… بل إنّ النصّ كيان ثلاثي الأبعاد بعد كتابيّ نصّي وبعد لغوي دلالي وبعد أسلوبي إبداعي”.
د. أنور علي الموسوي   19/2/2017
 
ينهل الشّاعر من لغة صفويّة. توظّف المعجم الديني القرآني “أسباب السّماء،  زبدا، كظيم” غير أنّ الدلالة تتّخذ بعدا رمزيا مفارقا للّحظة الناشئة في المقدس . إنّ الشاعر لا يرتّل حكاية بقدر ما يُوحي بالخيبة متجلية في الموجة التي لم تكن جديرة لا بالسماء ولا بالأرض. وإنّما هي لحظة وعي زائف سرعان ما يتبدّد كالزبد و يذهب جفاء.
وهذا ما يصنع سردية النصّ التعبيرية المفارقة للنص النثري القصصي
يقول فتحي النصري
“قرن آخر
يمضي
ولا يلتفت إلى غباره

وإذ يمعن الباعة في إحصاء غنائمهم
يقف الشّراة حيارى
وقد تبدّى المعدود
ركاما
غير قابل للعدّ
كتلة معزولة
عجينة عصف مأكول
……
لم يروا كتلة الطين
وهي تلتمّ
وتلتمّ
وتلتمّ
حتّى أنّها
وهي حجارة السّجّيل
لم تعد شيئا مذكورا”
“مثل من فوّت موعدا”
ص 33/34 حديث العدد
من البائع ومن الشُّراة؟ يتحدّد الأول من خلال إحصاء الغنائم ويتجلّى الثاني ركاما إنّه “المعدود” المفعول به حد العجينة والعصف “المأكول”.
هو الشعب الذي رفع الحجارة ليقاوم ولكنه لم يدرك أن عصر المعجزات قد ولّى وأنّ الطيور لم تعد “أبابيل” وأنّ الحجارة صارت قالبا من الطين الذي فقد روح الفاعلية.
هو السّردي يتعالق من البدء حتى المنتهى يحكي قصدا. إنّه السّرد الممانع للسّرد، القاصد إلى عمق المعنى وبلاغة التأويل.
“إنّ الميزة الأهم للشعر السّردي التي تميزه عن النثر وإن كان شعريا هي التعبيرية في السّرد”
أنور الموسوي
(نفس المصدر)
ومأتى الإبداع هو اللّغة “المتموّجة التي توفرها السرديّة التعبيريّة” بل إننا نزعم أن لا أحد من الشعراء المعاصرين ينافس فتحي النصري في القدرة على تطويع  اللغة الموغلة في قدم المعنى.. من عمق التّاريخ يطلّ وفي صميم الواقع يغرس حرفا صفويّا قد يكون غريبا ولكنّه ليس عجائبيّا. يقول
“الإنسان كله لحظة صدق
فلينظر إلى الطيور السود
كيف علقت بالحشف البالي
وبكل شوك زنيم
إنها الآن تنوش خراف كوابيسها
راجفة في الرّيح
يا للأكياس السوداء
طيور كوابيسي”
الدّيوان
هي اللّغة إذ تتعالى في المجاز وتتموّج على إيقاع المقدّس شوك “زنيم” وتنفذ في الآن نفسه إلى عمق الذات البشريّة.. إنها جمع حرّ بين الألفة واللاّ ألفة، إنّها تجعل الشيء غير الأليف أليفا  وهذا ما يتبدّى في الصّوت المُوالي.

  • الصّوت الثالث: الإيديولوجي

هل اللّغة مجرّد لسان؟ هل الذكاء عيون وأياد؟
إنّ النصّ الشعري ومنذ وجد بدءا من الملاحم ووصولا إلى قصيدة النّثر اليوم كان ومازال حاملا لمحمول يتجاوز “البَنْيَنَة” و”الأسْلَبَة” إلى التواصل في إطار الحياة اليوميّة ليتّخذ بعدا إيديولوجيا لا يتناقض مع الإبهار والإدهاش الشعري إذ “يشكل الفصل بين اللّسان ومحتواه الإيديولوجي أحد أفحش الأخطاء التي اقترفتها الموضوعانيّة المجرّدة” الماركسية وفلسفة اللّغة ص 94
ميخائيل باختين 
ترجمة محمد البكري و يمنى العيد                                                                                                                                                             
دار توبقال للنشر/المغرب                       
“في شارع بورقيبة
رأيت ثوريّين كثيرين
ثوريّين حقيقيين
كانوا
كمن ضيّع شيئا ما
يذرعون الشارع الطويل
ذهابا و إيابا
إيّابا وذهابا
من نصب ابن خلدون
إلى ساعة 7 نوفمبر
ومن ساعة 7 نوفمبر
إلى نصب ابن خلدون
رأيتهم بسراويل الدّجين
والشّعور الفاحمة المتهدّلة

الناس لا يميّزونهم
لكنّ النّادل يعرفهم
وكذلك الشرطي “الديوان” ص53
ينهض النصّ على سرد واقعي يتجلّى من خلال الفضاء “شارع بورقيبة” ونصب “ابن خلدون” ومن خلال الهيأة “ثوريّين” يتميزون بسراويل الدّجين وبالشّعور المتهدّلة في فوضى إضافة إلى الفضاء الحاضن “المقهى” وإلى الشخصيات الأساسية بين مساعد “النادل” ومعارض “الشرطي”
يعزف المقطع على إيقاع حزين يتواتر ويتكرر كحركة “الثوريين” في الشارع. الذهاب والمجيء والمجيء للذّهاب إنها لحظة العقم الإيديولوجي فهؤلاء شباب اليسار الذين أضاعوا بوصلة العقيدة “العقل والنضال” واكتفوا باجترار المفاهيم التي فقدت بريقها. ليس نشيدا أمميّا بل هو شبيه بالجنائزيّ وبصلاة الغائب.
ولعلّ المقطع الثاني كفيل بإنارة الغاية التي يسعى إليها الشاعر رغم شعوره بالأسى والإحباط
“الزمن غير أشياء كثيرة
ثمة مقاهٍ بدّلت أسماءها
وأخرى لم تعد موجودة
الأشجار غادرت منابتها
والطيور التي ألفتها ذهبت
هم أيضا تغيّروا قليلا
أو كثيرا
لكنّهم ظلّوا كما كانوا
يذهبون ويجيئون
يجيئون ويذهبون …
يحدث أحيانا
أن يختفي بعضهم
أو يتغرّبوا في أصقاع بعيدة
لكنهم مثل طيور مهاجرة
يعودون دائما
إلى المكان نفسه”.
                             “مثل من فوّت موعدا” ص53/54
يتشكّل المقطع الثاني رديفا للأوّل وإن بدا مُطابقا له في الظّاهر، فالفضاء يتغيّر إن قليلا أو كثيرا ولكنّ الفعل البشري يظلّ ثابتا وفي ذلك موت الفكر “الموت في التماثل والاختلاف حياة الزمان” مهدي عامل
والشاعر يصوغ الأحداث  بواقعية مدهشة لا تخلو من جمالية الأسلوب والعبارة رغم إيقاعها الرتيب رتابة الحياة التي لم تعد مأهولة وقد فقدت عنصر الحماس والرغبات الثوريّة وباتت حنينا إلى شارع مثّل في الثمانينات فضاء للتحرّكات الطلابيّة وملتقى للمثقّفين حين كانت المقاهي تعجّ بحركة فكريّة سرعان ما انقلبت إلى جدل عقيم.
إنّها الخيبة النضاليّة وأزمة الفكر الديالكتيكي الذي بات اجترارا لما لم يحدث وانتظارا حزينا للآتي.
وهنا نصل إلى الخاتمة مكمن الدهشة في قصيدة النّثر، إنها الحاملة للثيمة الايديولوجية أي غرض الدّليل، يجنّد الشاعر كل طاقاته التعبيريّة فيحقق أعلى درجات الصّعود إلى الشّعريّ.
وسط هذا اللاّمحدود من السّرود لا مجال للختام وإنّما هو اختراق للمسرود له.
“يعودون دائما
إلى المكان نفسه
كأنّ خيوطا خفيّة
تشدّهم إليه
خيوطا حريرية
أثبتتهم هناك
وإلى الأبد
مثل من فوّت موعدا
ولا يريد أن ييأس” نفس المصدر ص 54
في هذه المرحلة يرتقي الشاعر بنصّه إلي درجة عالية من الشعريّة وتصير الكتابة فعلا إبداعيا حرّا عابرا للأجناس.
الأسلوب تشبيه من البلاغة القديمة ولكنّ المدلول شاسع إنه بوّابة الأمل “ولا يريد أن ييأس” ثمّة إذن إرادة تواجه الواقع المتردي، إنها خيوط حريرية، والخيطان حروف والنصّ مساحة للفعل المبتور في شارع بورقيبة الممكن على الصّفحات والشاعر صاحب الرؤيا لا يني يحلم ولا يريد أن ييأس.
يصبح الايديولوجي معبّرا لا مجرّد شعارات وتحزّب، إنّه في الشّعر إمكان خلاص وتحرّر للشاعر وللمتلقي على حدّ السّواء.
“إنّ النصّ الحرّ يحرّر المؤلّف والقارئ و يحرّر نفسه”.
د.أنور علي الموسوي
“السردية التعبيرية وأسلوبياتها”
 24 أوت 2015
من عتبة النصّ إلى أخراه، مغلق في ظاهره منفتح  كالأمل قي الواقع. إنّ الشّاعر الرّاوي ليس مجرّد شاهد على الحدث وإنّما هو مزروع فيه، إنّه الشجرة الوحيدة التي لم تُقتلع والعصفور الوحيد الذي لم يغادر.
خلافا لبعض روّاد الحداثة لا يتنازل فتحي النصري عن بهاء الشّعر وزخم المجاز حين يدخل عالم قصيدة النثر بل إنه يخذل مقولة روبرت شولتز الذي يرى فيها “أنّ الشّعر كلّما تحرّك صوب السّرد قلّت أهمية لغته الخاصّة”.
روبرت شولتز/ نقلا عن جعفر العلاّق مجلة فصول ص 236
يهدأ الإيقاع العجول ويستسلم النصّ إلى السّرد التّعبيري الذي يجمّع أصواتا عديدة تتعالق ولا تتنافر.

  • 4 صوت الأساطير:

الدّهشة أصل الفلسفة، والأسطورة يقظة العقل وهو يغادر حجارته الصوّان.
ها هو صوت آخر يأتي من الأساطير ومن شطحات الصوفية وينزع أحيانا نحو المقدّس إنّه “الظل”.
يفرد الشاعر فتحي النصري القسم الأخير من ديوانه للحديث عن الظلّ ويسمه بعنوان “تخطيط لكتابة الظل” يوزعه على مقاطع مرقّمة من واحد إلى عشرين فما دلالة الظلّ؟ وما علاقته بالشّاعر وبالنصّ؟
لم تخل مدونة كلامية ولا فقهية ولا دينية من الحديث عن الظل قال تعالى “ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا” السورة: الفرقان/ الآية 45-46
ويقول ابن عربي “ظلك لا يلحقك إن أدبرت عنه متوجها إلى الشمس، وأنت لا تلحقه إن أقبلت عليه أعرضت عن الشمس”.
في البدء خلق الله الظلّ ومنه تشكّل الإنسان.
“أول شيء خلقه الله هو الظلّ مثال صورته ثم قسمه أظلّة فنظرت الأظلّة بعضها إلى بعض فرأت نفسها وعرفت أنّها كانت بعد أن لم تكن”.
المفضل بن عمر الجعفي
“كتاب الهفت والأظلّة”
*الهفت مأخوذة من الفارسيّة حيث هفت تعني سبعة وهذا يتواءم مع موضوع الكتاب الذي يتحدّث عن الظلال السبعة.
*المصدر: “الظل أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية” د.فاطمة عبد الله الوهيبي.. الموقع: جسد الثقافة.

  • العنوان:عتبة النص

يتشكّل العنوان ملغزا في علاقة الإسناد أهو مبتدأ وخبره “تخطيط + لكتابة الظل” وإن كان ذلك كذلك فلم لم يتقدّم الخبر المركّب بالجرّ ويتأخّر المبتدأ النكرة؟
أيكون التنكير نكرانا وحيرة لتخطيط الحياة أم يكون لبيان التّعميم، إذ ليس هناك تخطيط واحد ليسم به الشاعر عنوان نصّه الطّويل “التخطيط” أهو مفعول لأجله غاب فعله وفاعله وناب المصدر في مركّب شبه إسنادي عنهما.
فالغاية هي كتابة الظل، والظلّ هو الإنسان.
يقول بن الأعرابي “يقال للرّجل إذا مات ضحا ظلّه لأنه إذا مات صار لا ظلّ له”
أيكون الظل عندئذ فسحة حياة بين نورين: ضوء الشّمس ونور اليقين؟ إذ أنّ الظلّ يظهر في فضاء بصري يقتضي مصدر ضوء ليتحقّق وجوده.
“الظل ضوء غاف
غفوته تلك
موتته الصّغرى
وحياة الظلّ الممكنة”                                                                          
“مثل من فوّت موعدا”
إنّ الظلّ شديد الارتباط بعالم النّور والرّوح في حين أنّ الصّورة تنشدّ إلى المرْئي المشهود ولا إمكان للحياة خارج ممكن الظلال.
ليس لأنها قاتمة
تكره الظلال الشمس
الظّلال ربيبتها
يحييها الضوء
وتفنيها العتمة”    الديوان
ثمة هذا الاتصال بين الظلال والنّور، والقتامة تحدد الوجود والإمكان الذي تقتله العتمة ولا يستمر إلا من خلال الفيض النوراني، بعض هذا الإلهي الذي منه تنبثق ظلالنا.
يقول ابن عربي “كل منفصل عن شيء فقد كان عامرا لما عنه انفصل وقد قلنا إنّه لا خلاء في العالم فعمر الشيء المنفصل موضع انفصاله بظله إذا كان انفصاله إلى النور وهو الظهور”.
إنّ الظل هو المحدّد للوجود والإنسان في الواقع ليس سوى ظل انفصل إلى النّور ليتجلّى بعد أن كان منسيّا في العتمة.
“نحن ظلالنا
لا يخلص المرء من ظله
نتوهم أنّها تتبعنا
ونحن منذ البدء أسراها
آه كم وددت لو خلعت ظلّي
وغسلت منه يدي
بالصّابون والأشنان”  ص 87 / نفس المصدر.
هو المقطع السابع في تخطيط الشاعر فتحي النصري حيث يتجاوز الخطاب الفرد إلى الخطاب الجمع من خلال صيغة “نحن” ومن خلال الإطلاق الذي يحيل على الأسلوب الحكمي في نفي واثق لعدم الخلاص من الظل “لا يخلص المرء من ظله” لأنّ الخلاص هو الموت والعدم.
غير أنّ الشّاعر يستمرّ في بسالة النبيل راغبا في خلع ظلّه الذي لا يخلع حينئذ يورد صورة طريفة هي غسل اليد ويستعير لذلك مواد موغّلة في القدم “الصابون والأشنان”.
*الأشنان جمع شن اسم شجر من الفصيلة الرّمراميّة ينبت في الأرض الرمليّة
يستعمل هو أو رماده في غسل الثياب والأيادي واللّفظة تتكرّر في كتب الفقه وفي علاقة بالطهارة إذ جوّز الفقهاء التطهّر بماء قد خالطه الأشنان.
إنّ هذه النبتة شبيهة بالإنسان إذ ورقتها “لحمية” ولا ترتفع طويلا، تنمو في التّربة الرّمليّة الضحلة والأراض الصّخريّة”. دلالة الظلّ مرتبطة بوجود أصله. والرّغبة في الاغتسال ليست سوى إعلان عن حالة الاغتراب التي يعيشها الشّاعر.
“…….
هكذا تعدّدت ظلالي
حتّى أنّي كلّما تملّيتها
بحثا عن ملامحي
بدت ملامحي أشبه بالظّلال” – نفس المصدر
حين تتعدّد الظّلال تتشظّى حياة صاحبها. تمارس حياته حيوات، انكسار وسقوط حدّ التلاشي.
“كنت كائنا بلا ظلّ
كان ذلك في البدء
قبل أن ينجم لي ظلّ يشبهني
سمّيته قريني
واتخذته مرآتي
ثمّ نجم لظلّي ظلّ باهت
يشبهه
وللظلّ الآخر شبه ظلّ”   ص 88/ نفس المصدر.
هكذا يمارس الظلّ حياة صاحبه بكلّ مراحلها من الألق إلى شبه الظلّ: في الهجير وحده الظلّ يأتي ليثبّت الذّات المقهورة التي صهرتها الشّمس، الظلّ، رديف الحياة في البراري والصّحاري. وفي الشتاءات الباردة حين تحتجب الشّمس إنّه دوما هنا أو هناك.
الظلّ هو الرّجل، الكائن الموجود بالانفصال منذ خروج آدم الجدّ الأوّل من جنّته، وحوّاء ظلّ منه “حوّاء في وجودها الانفصالي الانبعاثي من آدم. جاءت عبر مفهوم ظلّي أثناء نوم آدم. وبذلك تبدو حوّاء كأنّها حلم”. من هذه المعاني يشيد الشّاعر عالمه.
“الرجال                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                    الرّجال الذين
الرّجال الرّجال
كيف صاروا ظلالا؟
كيف صاروا ظلال لأنفسهم؟
كيف صاروا ظلال الظّلال؟”  ص90/ نفس المصدر
هكذا عبر آليّة الأسلوب الإنشائي القائم على الاستفهام يطلق الشاعر حيرته الصّاخبة. لكأنّ الكون اغترب مع الذّات وكأنّ جميع “الرّجال” فقدوا قامات النّخيل وصاروا ظلال الظّلال.
أن يكون الرّجل ظلّا فهذا وجود وواقع. أمّا أن يصير ظلّ الظلّ فهذا رمز مشحون بغياب الرّؤيا وسقوطها بين مخالب الرّؤية.
إنّه الاستسلام للواقع الكئيب والغرق في التلاشي. في لحظة المرارة يتبدّى الإنسان يرى المكان رؤية بصريّة تكثّف العزلة والاغتراب، فأزمة الإنسانيّة هي أزمة الشّاعر. الجميع يتداول في سوداوية مقيتة.
لكنّ عبر آليّة تراسل الحواسّ يتدارك الشاعر الواقع ليتمرّد عليه ليتجلّى الشّعر ساحرا ممكنا في إمكان لا تصله إلاّ النّجوم.
“حيث يقيم الشّيطان
يقيم الشّاعر
بعضه في الشّمس
وبعضه في الظلّ”   ص 97 / نفس المصدر
أساس الصّورة في هذا المقطع هو الشّيطان/ الشاعر هو الخارج عن المألوف الذي يمارس الغواية ويتّخذها عصاه حين تعمى الطّريق وهذا التبعيض شكل من أشكال الحضور الربّاني النقيّ نصفه إله/ نصفه بشر.هي حالة الوجود الحقّ.
يقول التّوحيدي “الرّؤيا ظلّ اليقظة وهي واسطة بين اليقظة والنّوم، أعني بين ظهور الحسّ بالحركة وبين خفائها بالسّكون”.
إنّ الظلّ وجود انبعاثي والشيطان كان المحرّض الأوّل على الانفصال عن النور من أجل الوجود.
“إنّ لحظة الانفصال هي لحظة إيجاد وحدوث ”
شيطان الشّاعر روح تمرّده أو ليس هو الملاك المغضوب عليه. ليس له سوى أن يمضي دون أن يخبر بوجهته
“لم يقل ظلّي إلى أين مضى
ورئيي لم يساعفني بشيء
ربّما أوغل في ظلّ  الفضا
والرّباعيّة لم تسد إليّ
غير هذا
فليكن” ص 102/ الدّيوان “(مثل من فوّت موعدا).
لماذا ختم الدّيوان الحامل لقصيدة النُّثر بإيقاع تفعيله في القطعة العشرين أن يكون حنينا أم مراوغة صوتيّة تحيل على رباعيات الخيّام أهو صوت هاتف في السّحر يعلن عن غربة صوتنا الوحيد؟ أم هو “غير هذا؟” “فليكن”.

  • ولا يريد أن ييأس:

خاتمة:
قصيدة النّثر عصيّة، والكبير الذي تهيّبها في البدء. لم يفوّت موعدا مع الإيقاع المتآلف من أصوات عديدة “بوليفونيّة” منتشرة بين هنا وهناك بين الأمس والغد لكنّها تتناغم. وتتآلف نوتاتها.
جرس الكنائس وآذان الجوامع وخطى الملك الضليل يحاور صاحبه الوحيد.
“فقلت لا تبك عينك إنّما
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا”
 
فتحي النّصري حاول محاولة الكبار ونحن مثله حاولنا القراءة ويبقى العزف منفردا متفرّدا مهما تعدّدت الأصوات. ذلك أنّ الشّاعر يختفي في مقاطع النصّ وهو ما يجنّبه المباشرة ويحقّق التكثيف عبر الرّؤى المتجذّرة في الماضي الممتدّة في الحاضر ولكنّها لا تني تستشرف الآتي فالظلال التي توزّعت على فسحة المكان تشي بالقلق وبالخيبات الحارقة غير أنّها تمنح شعورا انسيابيا بالفجر وهي تعبر إلى نقطة ضوء هناك…