نصوص

لم تتغير ملامحي

نيران الطرابلسي
لم تتغيّر ملامحي كثيرا، استدارة الوجه، العينان، فمي الصغير، شفتاي المحترقتان، أذكر جيّدا ذلك اليوم الصيفي البعيد، عاد أبي من العمل باكرا جدا، وقد أحضر البطيخ والعنب، وزجاجة نبيذ فرنسي لا أذكر نوعه، أهداها له صديقه المقرّب الوسيم جدا، كنت أظلّ أنا وأختي لساعات ننظر إليه من ثقب الباب، نقيس طوله، نحدد تفاصيل وجهه ونتشاجر أحيانا من تستطيع إغواءه، إلى أن نرسى في النهاية على أنّي لا أملك الجرأة و لا الجسد الذي يغوي رجلا في وسامته و نضجه، كنت أتنازل مرغمة، أو ربما لأني حقا لا أستطيع أن أتقدم نحوه خطوة واحدة، جلس أبي في الصالون بعد أن نزع حذاءه وثياب العمل، تناول الغذاء على مهل، وعلى مهل أشعل سيجارة وناداني:
– “شتري لي علبة سجائر وتعالي بسرعة”.
ركضت إلى أقرب بائع وعدت أسابق الريح، قدّمت له علبة السجائر، ثم وضعت الباقي في يده، وفي حركة مفاجئة ومزعجة جدا انفجر ضاحكا، كأنه لم يضحك يوما، وأنا أمامه مندهشة.
_أعيدي ما فعلته الآن.
_ماذا فعلت؟
بذلك الجسد النحيل وقفت أمامه بعينين دامعتين وهو يضحك بطريقة مستفزة لمشاعر طفلة لم تتجاوز السادسة عشر بعد، كنت أعتقد حينها أن الله سيهبط من سقف الغرفة ليلتقطني بيديه الكبيرتين وينتشلني من هذا الوضع، لا أعرف كيف انفجرت أمامه باكية، لم ينظر إليّ، استمرّ في الضحك،
-“قلت أعيدي ما فعلت الآن”.
وبصوت متقطع يكاد لا يسمع
– “ماذا فعلت، لم أفعل شيئا، أقسم بأمي”.
رفع إصبعه الأوسط أمام عيني تماما، وصرخ:
– ” هذا ما فعلته”
كنت لا أعرف حقا ماذا تعني تلك الحركة، وكنت أحدث نفسي بأنه مجنون ما العيب أن يرفع أحدهم أي إصبع من أصابع يده؟ ما العيب في أن يرفع أحدهم أصابع قدميه حتى؟، أو أن يرفع قدميه أو جسده، مالعيب في ذلك؟. تأكدت أنه مجنون حقا ليضحك بتلك الطريقة الهستيرية، البشعة، المستفزة، فقط لأني رفعت إصبعي، لكنّي لست أقل منه جنونا.. لم أستطع أن أكفّ عن البكاء، حاولت أمي تهدئتي بعد أن شرحت لي تلك الحركة، حاولت بكل الطرق أن تخبرني أن أبي كان يمزح معي فحسب، و أنّه يمكنني أن أرفع الوسطى في وجه أي أحد، لكن لا جدوى.. كنت كرضيع خرجت أمه ونسيت أن ترضعه، حاولت كثيرا أن أكفّ عن الصراخ والبكاء، لكنّي حقا لم أكن أستطيع، جلست فوق الخزانة أحاول ألا أفكر في عدد المرات التي أهانني فيها أبي بلا سبب، وبينما أنا كذلك سمعته :
-“انزلي”.
كدت أن أسقط من فوق الخزانة لأنّي أعرف جيّدا صوته حين يكون غاضبا، مسكني من يدي بقوة وقادني إلى المطبخ، لم أكن أستطيع أن أخمن ماذا سيفعل بي، الأكيد أنه لن يطعمني “آيس كريم” أو حلوى، تناول ملعقة قهوة بعد أن أشعل الموقد ووضعها فوقه إلى أن صار لونها أحمر، لا يمكن لأحد في هذا الكون أن يخمّن بماذا شعرت حينها، حدقت إلى سقف المطبخ وكلّي يقول: “أرجوك يا اللّه اخطفني الآن، احملني إليك، هات يدك” .. فيما الملعقة تقترب من شفتيّ وأبي يضحك كالمجنون، والصور البشعة تتتابع في مخيلتي، لقد أحرق شفتيّ الصغيرتين لكي لا أبكِ مجدّدا، هددني بذلك مرارا، مذ كنت صغيرة جدا، لأنّ بكائي كان يزعجه من أول يوم ولدت فيه، أخبرني مرارا أنّي في نظره ولدّت كي أبكي وأتشبث بثوب أمي، فيما الأطفال يولدون ليدخلوا البهجة على آبائهم..
لم تتغير ملامحي كثيرا، صار شعري طويلا بعض الشيء، منذ زمن بعيد لم أقصه، و لم أهتم به جيّدا، أبي أحرق جسدي، شفتيّ، بطني، لكنّه لم يسطتع يوما أن يحرق قلبي، وأنا سعيدة جدّا لذلك.. الأن وأنا أدخل عامي الرابع بعد العشرين بخيبات لا تحصى، بجسد محترق، بتشوهات كثيرة في روحي،
وبحروق بليغة في قلبي، وسعادتي كبيرة لأنّ من أحرق قلبي ليس أبي..!
__________
نيران الطرابسلي