نصوص

(أنا الوجه الآخر لأجدادي هكذا قرأتُ السِنديان..و بكيت !)

عائشة بريكات
..جدتي لم تكن إلهة..
لكنّ كان لديها شوق أبيض و خُفّان مجنّحان تخرجهما من صندوقها الخشبيّ ليلة اكتمال القمر، تذرع طرقات القرية الرّطبة علّها تلتقط رائحة تبغه ، أو تنتشي مؤقتاً بصدى سعاله المتقطع فوق حقول الذرة ،
إلاّ أنها تعود محملّة برسائل متعفنة لمْ تصلها يوماً مذْ غادرها متذرعاً بحب الأرض…و حبها..!!
كم بِصَمتها راقبت رذاذ الكذب وهو يتقاطر من حاجبيه الكثّين ،وشفتيه المرتجفتين..
و كم كان يرغب ببيع عَشى عينيه الوراثيّ لأسياده على سياج راحتهم..
و جلّ حلمه لا يتعدى بضع قطعٍ نحاسيّةٍ يكتري بها دابّة من جاره المُرابي ويصبح من المُلاك المزيفين..
لعله أضمر في خَلَده أن يعالج تقرّح كتفيه من أراجيح دِلاء السِقاية..
جدي..الذي قضى أيامه بعد عودته يلعن مذاق (الكافور) والبطاطا الحلوة..
جدي ..الذي مات حينما تقيأ شهوته في فم الغربة و أجبرها على ابتلاعها..
جدي ..الذي منحني اسم زوجته..و هي أوصت لي بأحد خُفيّها..
مازال يزور قيلولتي و يطمئن على تقرح الأصابع..
جدتي الأخرى
لم تكنْ عرّافة ربّانية مقدّسة ،
كانت مجرد عاشقة غبيّة (كما هنّ الجميلات غالباً ) وقتما تركت له يدها الصغيرة ليجرّها و يُسارع في هروبهما عبر حواكير الصبّار و مساكب عبّاد الشمس.
لم تكن مهتمة للأشواك التي علقت بأصابع قدميها الصغيرتين ،و لا لتلك الخدوش على جبهتها و خدّيها ،و لا لذاك العرس الذي سيتحول إلى جُنّاز بعد قليل ،جلّ ما يثير مشاعرها كان شيئاً غامضاً في داخلها يدغدغ أنوثتها البريّة و يخصه وحده دون سواه ممن لمحت من رجال القرية.
جدتي الساذجة..
ظنت أنه فارسها المنتظر و لو استبدل حصانه بدابّة هرمة لم تنظف منذ زمن ،و ارتدى بدل بذلته الناصعة قفطاناً و شروالاً و سُترة مهترئة بجيوبٍ عديدةٍ و طاقية تخفي لمعان صلعته ، أظنها اعتقدت سيعود أميراً إذ قَبّلها !
جدتي ..
التي لطالما سمعتُها تلعن الحُب ، و تبصق في الهواء في وجه اللاأحد ،تُتَمتم بشتائمٍ بذيئةٍ و هي تضعني في حِجرها ،تستلّ من شعرها مشط أمها الفضّيّ (و هو كل ما بقي لها من مقتنيات ذاكرتها الباهتة) ،تُسّرح لي شعري و تضفر لي جدائلاً ذهبية.
كم كانت تسرد لي قصص حياتها كما اعتادت يومياً ، كم عذبها..و أهانها..و كم و كم ضربها على رأسها حتى أفقدها بَصرها و ثقتها بالحب و الأمراء
حفظِتُ قهرها..و معاناتها.. و عدد نقاط دموعها المالحة المتساقطة على كتفي.
جدتي ..
التي أصبحت أنا بَصرها نهاراً ،أُمسك بيدها إلى حيث قناة الماء وسط الدار لتتوضأ للصلاة ،
كانت تُخرِج من صداريتها مِروَداً في الليل ،تكحّل به عينيها العسليتيّن ،و تلتفت لقضاء حوائجها..تعجن الطحين ..تشعل التّنور و تخبز أرغفة اليانسون و حبة البركة ،ترتدي فستانها الدانتيل الزيتيّ ،ثم تنادي قريناتها،
تتغير ملامحها و يعود صوتها شاباً فتيّاً و كأنها طفلة و هنّ يرقصن..و يقرأن لها كفها ..و يتبادلن الأحاديث بلغة لم أفهمها حينما استيقظتُ ذات ليلة لأشرب.
و حين ذهول و صراخ
هرعت إليها ..
فسمعت كبيرتهن تشير إلى عينها
و تقول لجدتي
فوزيّة..
…..كحليهااا !