كتابات

نشوة الروح أم انتشاء القصيدة تأملات في ديوان (بعين واحدة وبصيرتين) للشاعر فارس خضر

ناظم ناصر القريشي

(وأنا القريب البعيد بلا مسافة) النفري
(ليس يرى مَجْدَ الحكمة، إلاّ من كان بَصَرُ عينيهِ في قلبه، لا بصر قلبه في عينيه) أبو حيان التوحيدي

ليس من السهل أن يجعل الشاعر من كلماته عيون تبصر في سراب اللغة وفي أسرار النفس البشرية، وان يجعل روح العرفان تسري في قصائده فترفعها إلى حالة من التوهج الشعري النادر وتمنحها النفس الملحمي المهيب، متحدة مع الشعر ومتجاوزة تواتر الصور وتعدد بؤر الرؤيا، فتدعونا إلى التجرد من كل شيء. وهي تعلن أن هاجسها وهاجس الشاعر الأكبر ليس في رغبتها في أظهر الحقيقة كما هي، بل بكوامنها الداخلية وما تثيره من مشاعر حال التواصل معها، فالكتابة هي غواية الذات والشعر يعد النظير لذات الشاعر الخلاقة؛ والشاعر فارس خضر في ديوانه (بعين واحدة وببصيرتين) الصادر عن دار الأدهم، جسد هذه الفكرة وجعلها تتجه للتأمل وأن تسمو، تتمرد، تنفلت، بينما الأفكار التي تطل علينا من لوحات القصيدة تنثال من أعلاها لتفر ثانية الى الأعلى حين تستبيحها الدهشة والإيقاعات السرية للكلمات.


فالعنوان في حد ذاته ليس عتبة فحسب بل هو دليل إلى ما بعده ودعوه للتأمل في هذا المابعد؛ والإهداء الذي قال فيه الشاعر كل شيء بكلماته القليلة، وترك القصيدة لجمال تكوينها، وهذا هو سر جمال اللغة التكوينية لديه.
فالعصفور هو الروح الهائمة وهاجسها البحث المستمر عن إجابة لأسئلتها الوجودية والروحية هذه الأسئلة التي مثلها الشاعر بالمنقار الذي جرح به وجه الماء الذي هو أصل الحياة وعنصرها السامي فنزف البئر كثير من الدماء والدماء هنا هي المشاعر والمعاناة والألم، فصار هذا العصفور/ الروح درويشا لا يدور حول نفسه بل يرف بجناحيه كلما تذكر لمسة العطش/ الشوق، الاشتياق، التوق، اللوعة؛ و العطش فكرة واسعة كالصوت و صداه، هي فكرة الوصول ولا وصول لذا هي تجعلك تتمرد على أيّ فكرة حتى فكرة الارتواء ذاتها، ولمسة الارتواء/ المعرفة، والوصول إلى شفراتها السرية المتوحدة مع ذاتها بإصرار فيقول الشاعر في إهدائه:
عصفور طائر جرح الماء بمنقاره
فنزف البئر كثيرا من الدماء
صار درويشا يرف جناحه
كلما تذكر ..
لمسة العطش ولمسة الارتواء
والمسافة بين لمسة العطش ولمسة الارتواء هي القصيدة
وثيمة العطش التي سترد كثيرا في هذا الديوان وهذا هو مدار القول في أغلب قصائد الشاعر فارس خضر، باعتبارها أماكن انسكاب المعرفة المتعلقة بالرؤيا والتي يظن الشاعر أنها ستتحقق ويجعلنا نشعر أنها كذلك؛ لكن هاجس التحول وقلق البحث والاكتشاف وعبور الفكرة ذاتها سنجد الشاعر ودليله الكسيح في صحراء شاسعة لايجد منها إلا الهاوية ولا يدل عليه سوى ألمه فهو
دليل كسيح

لا يعرف من صحرائه سوى الهاوية
الألم دالة المعاناة وعنفوان النهوض في دم الشاعر الذي يستبصر الرؤيا بكلماته ويتبع الفكرة اثر الفكرة، كأنه يريد الوصول قبل الوصول حتى لو كان دليله كسيح، وعانى من قسوة هذه الفكرة، والفكرة هي أن جعل الشاعر من كلماته صرخة لإعادة الحياة:
لو أورثْتَني القسوةَ
ما عبرتُ هذه الغابةَ حافياً
ولكنتُ خلعتُ الأشواكَ من حلقي
وحرّرتُ صرختي

أن تحول لحظة الرؤيا التي لا يحدها شيء الى زمن مستمر، تجتمع فيه الكلمات كمتواليات شعرية تدور حولها كواكب المعنى كأفكار عائمة بالخيال تقيم حورا متواصلا مع اللامرئي الأكثر حضورا والذي سيأخذنا في رحلة وعي طويلة، لزمن داخل زمن، زمن أخر موازي لزمن آخر، زمن يتناسل في زمن ويستنسخ نفسه شعرا، بل هو حركة دائمة النبض في الوجود، وللتعبير عن هذه اللحظة لا يحتاج الشاعر أن يمتلك اللغة بنواصيها، بل إلى نضجها أيضا.
فالشعر وأظنه هكذا عند فارس خضر لا ينحاز إلى قضية محقة، ولا يضحي بشيء في سبيل شيء، لأنه بذاته قضية يسعى إلى تحقيقها، إنه ما يغري الكثيرين بأن يكونوه أو هم لا يستطيعوا أن يكونوا بدونه، لذا هو لا يشبه إلا نفسه، هذا الساحر الذي يستبطن الدهشة يأخذنا بعيداً، بكيفية آسرة الى أفق وسع للتأمل والتأويل وتوليد الدلالات, التي تلائم التخيل الذي يطاله وهذه هي حقيقته وهي ما تقوله الكلمات في صمتها المطلق، فسنجد عبر حركات النص وانتقالاته أن عبارته المدهشة والساحرة بقدر ما تبعث على الانتباه إلى الحياة ومزيجها الغامض، هي أيضا تنبه الى ما ستؤول إليه فنصوصه قريبة من الحياة التي هي مادتها وكينونتها الأولى التي يستنبط منها الفكرة فيقول الشاعر:
بأصابع تتلمس الحياة
وهي تجري إلي جحورها
بفم ذبابة
توزع قذائفها بعدالة
يعدو في المرمي
يتحسر علي الذخيرة المهدرة
بخطوة لا تعبر الطريق
إلا إلى هاوية..
بدمي المحروق ورائحة أطرافي علي الجمر٬
آكل جسدي.. وأموت جائعا.
ولهذا المقطع من قصيدة دليل كسيح له مابعده فنراه متصل بقصيدة يا صاحبة القداسة بحبل سري، لتكتمل بها سيمفونية الألم، بتوزيعها الأوركسترالي البوليفوني الحر بأصوات متعددة للقسوة وللقهر، لتكتمل أيضا مشهديتها الصورية التي تشهق بدلالتها المتسعة والموازية لإيقاعاتها بحركاتها وسكونها، والذي ارتأى الشاعر أن يضعنا في مركز أحداثها، فجعلنا نشعر كأننا في فراغ وانتظار غليظ بين موتين لا إقامة فيه ولا حلول، وأقصى أحلامنا أن نتلمس الحياة التي تهرب منا، ورائحة الدم المحترق تطاردنا، نتتبع خطواته والتي لا تعبر الطريق، حيث لا طريق ولا تقود إلى مكان سوى الهاوية

هذه المقطوعاتُ الموسيقيةُ
كانت في الأصلِ
فوارغَ طلقاتٍ.
الأشجار التي كبرتْ في غيبةِ الساسةِ
كانت عصيّاً كهربائيةٍ.
العطورُ النسائيةُ التي تتمشّى في الشوارعِ
محلولةَ الشَّعرِ وعاريةَ الأكتاف
كانت قنابلَ مسيلةً للدموع.
الورودُ خوذاتُ عساكر.
وكؤوس الشرباتِ دمٌ.
هذهِ الجنّةُ
كانت مجنزراتٍ ودبّاباتٍ
وجباهاً مقطِّبةً
لوطنٍ قديم..

وفي قصيدة الرائي يجعلنا الشاعر نتساءل من هو الرائي…؟ هل هو الذي ينظر عبر الزمن أم هو الذي يتأمل الحياة من خلال أفكاره وهي تنمو بين الكلمات، لتعبر عن رغبتها التي لا تهدأ حتى تكون حاضره في مستقبلها، فيرى ما لا يراه الآخرون، لذا نجد أن لغة الشعر لدى فارس خضر لغة تأويلية إيحائية لها حضور ذاتي حيوي متوهج بوعي جمعي، فهي تنفتح على نوافذ كثيرة وأسئلة متعددة حيث تحتدم الأفكار؛ فهي لا تأتي من حيث لا ندري لتبدو أكثر شاعرية، لكنها تنبثق من الواقع لتذهب الى رؤية المستقبل، فيجعلنا نتسأل هل من الممكن لهذه الكلمات أن تحدث فرقا كأنها تولد لأول مرة، فهذا الرائي الكسيح الذي يخطو بأفكاره التي لا تتحقق، فبهذه الكلمات البسيطة التي لا ينتهي إيحاؤها؛ تنبئنا أنه لا أحد يستطيع الذهاب بعيدا هكذا سوى الشاعر، فقد اختفى كليا ليعرفنا أن كلماته تسري فيها قدرة جمالية من الممكن تصويرها كتناغم بين الفكرة والمعنى، كالتناغم بين الروح والجسد، وأن هذه التناغم لا يأتي إلا وفق شرط الآخر؛ فهذه الكلمات نشوة الروح وانتشاء القصيدة، هي التي ستبقى؛ وهذه هي الكتابة في درجة الصفر كما يخبرنا رولان بارت، وهو حضور الشاعر في الشعر، فنراه من خلال كلماته في قصيدة الرائي:
“لا أريد
أن أُطْـفِئَ شمعتَك
فقط
كيلا أتركك وحدك
في الظلام”
لم يَلتفِتُوا إلى وُجُودِي
رأيتُهُمْ يَـجْهَشُـونَ بالبكاءِ؛
يُغَطُّـونَهُ بِصُحُفٍ مُتَجَهِّمَـةٍ
يُعَلِّقُـونَهُ على أعمدةِ الإنارةِ
ويَـخْنُقُـونَهُ بِـالحنين.
رَقَّ صوتُـهُمْ فجأةً
رأسُ عاشقةٍ
مالَ بِضْعَةَ سنتيمتراتٍ
على كتفٍ
مُثَبَّتٍة على الْـمـقصلة.

الشاعر هنا هو الشيء الوحيد المعلوم وكلماته تدل عليه أماالآخرون وان تواجدوا في القصيدة فهم أشباح، قد نكون نحن أو هم، أو ربما أفكاره التي تنضج عبر الصور تصاحبها إيقاعات حزينة وبطيئة يشعر المتلقي معها بوحدة الشاعر رغم كثافة الحضور، فالشاعر هو السارد العليم، يلتقط كل صغيرة وكبير لتكتمل لوحة القصيدة لديه والدليل على ذلك رأس العاشقة الذي مال بضعة سنتمترات على كتف مثبتة على المقصلة، فهذه الحركة البطيئة والقصيرة لا يلاحظها أو يرصدها إلا الشاعر الرائي والذي سيقول في نهاية قصيدته:
أحبَبْتُهُمْ
وكنتُ طَيِّـبًا
لدرجةِ أنَّ أحدًا منهم
لن يَذْكُرَني
مطلقًا.
أن الناظر الى تجربة الشاعر الدكتور فارس أخضر في ديوانه (بعين واحدة وببصيرتين) يجد أنه يمرر عبر الإيجاز في التعبير والتكثيف نسق أفكاره معتمدا على سعة الخيال بين الفكرة ومداها، فيمنحنا فرضية الرؤيا التي لها القدرة على ابتكار وإنتاج الواقع من جديد، وان القصيدة لديه تمر بتحوّلات مهمّة نستطيع أن نقول أنه ابتكر خطاب شعريا رمزيا ورؤيا يمنح المتلقي شعورا بالروحانية والقداسة وجلالة الكلمات تجاوز فيه الخطاب الصوفي المعتاد وهذا ابتكار يحسب له.