نصوص

حدائق راعشة

مليكة فهيم

الليلة، حلمت حلما جميلا، غمرني فرح قوي، استبد بي، كأنني ولدت من جديد، أصبحت أصغر وأجمل، وكنت هناك، تمد لي يديك، وتعيد لي نظراتك إشراقة اللون في قوس قزح. لكنك أغلقت الباب فجأة، رجعت إلى الكرسي البارد، هطل الصمت على جسدي، كأنني أسقط في العدم العميق، أحاول أن أصعد، لكن العدم يتمسك بي.

وأراهم هناك خِفافا يمرون، يعزفون لغة الجرح، وقلبي يتموج في صدري كغيمة في السحاب، تغني قدرنا وتحضن العالم، وكل مياه التعب تصب في شراييني. وانت المسافر في دمي كريح تركت لي كنزا من حنين.
أركض على حافة الحلم، أتلمس طراوة يديك في يدي. وسهوا ينسكب أنيني، وكل الأماني تحفر طريقها إليك. وأسألك: كيف أعبر هذا الفراغ ؟ دون أن أختفي في طياته، وأنت حلم كنت أربيه في حقلِنا، وتحت سماء بيتنا. أغزل رذاذ الخريف على كتفي، وأعرف بالبداهة أن الحب هو تلك الثواني والدقائق التي انتظرت فيها طعم كلماتك ولون صوتك. العالم وهو يأتيني على موجة زلِقة، مع أول حرف ونظرة منك، هي اللحظات التي تخيلنا فيها أنفسنا متعانقين قرب الجسر، ووراء النافذة، وأمام الموقد في جو بارد، هو ذلك الشعور الأخرس الذي يعوي بداخلي.

وأصحو وأتذكر تلك الحقيقة، ( ما الحقيقة ؟ ) .. شفافة، زجاجية وصادمة.. وأنا الآن تكتُبني الكلمات دفعة واحدة، أحس برقصها وهي تتحول إلى رموز و نوتات. ولأن قصيدتي أضاعت لغتها، كان علي أن أنطقك بدون لغة، وهذا الحزن العتيق الساكن في مغارة الروح يستيقظ، ونبضاتي على مسار خطوك قطارات تتهاوى.

وينمو التراب على جسدي، وأنا أتلو اسمك في كل صلاة، في كل خشوع، مع كل ابتهال، في ثنايا قواعد العشق الأربعين لجلال الدين الرومي. وأتذكر رحلة دانتي الشاقة من مدخل الجحيم إلى أعالي الفردوس، وأتذكر أيضا اختبار أورفيوس لاستعادة حبيبته وهو يفاوض الموت .. وأنا يا حبيبي لا أتقن التفاوض مع الله. لكنني كنت أهفو لأستعيد عزف أورفيوس، لتلين قسوة الآلهة، تلين.. تلين.

و أرتجف، أرتجف .. لأرتق تجاويف القلب وآتيك. سأجمع من أجلك حبيبي، أكياس الهواء، كطفل عائد من البراري.. لأسمعك صوت الغابة في الديار، أرسم لك نافذة وأرجوحة تقفز بي إليك، وحدائق راعشة أدخرها لك، ومعطفا من غيم. ولكي أوثق اللحظة، أحلم أن آخذ معك سيلفي، لنقهر الزمن، ونحظى بعدد لا يُحصى من الليكات ..

كم يكفيني من عمر لكيلا أشتاق إليك حبيبي؟ وكم يكفيني من جَلَد لكيلا أخاف عليك ؟. هل تعلم بأني
قرأت في كتاب لا أتذكر اسمه، بأنه ليس هناك موت، فقط تبديل أكوان. أحببت الفكرة كثيرا، كفقاعة في الهواء، تتقافز على أوتار شراييني، تحاول عدم السقوط .. ولا غريب سواي، أضمني إلي، أعانقني، وموسيقى حواسي لها رنين أساور أمي، وصهيل اللهفة يحملني إلى لونك القمحي. وأتذكر حلمنا حبيبي، أن نسافر معا، أن أضع رأسي على كتفك ونحن نستمع ونستمتع بكل الأغاني التي أدمنتها معك، والتي تقذف بنا إلى الأقاصي، إلى البعيد الأبعد من بعيد. حلمت أيضا أن أشاهد معك فيلم “التايتنيك”، لكي يكتمل احتراقنا، ويكنس رمادنا الهوى، وأن نشاهد سويا فيلم فيتوريو دي سيكا “سارق الدراجة”، وأن نرى روما 1948، روما بعد الحرب العالمية الثانية، لكي نحضن الحزن الأزرق، وتضيق المسافة بيني وبينك. ونحس بالقلوب عندما تصبح بثقل الجبال وهي تشتاق.

وأنا السريعة العطب، كيف أسرج شراييني جسرا وآتيك؟ علمني من أي الطرق المختصرة أمشي إليك؟ والكوابيس تطاردني، تتركني على مفترق الطرق مع خوفي وارتباكي. لذلك سأستدعي الفرح القديم، أشذبه، أمشط شعره بحنو، ليغدو وسيما، لينهمر العطر الفرنسي على جسدي، لكن يدركني الخلاء ويكتظ فِي .. فراغ ممتد في الدواخل، تلك الدواخل المفرغة من قاطنيها .. منْ سِوَى عزلتي تُقلم أظافر الغمام .. ومناطق الماضي تحتفظ بأسرارها وتصرخ.
إلى أين تأخذني أيها المستحيل؟ كيف أضبط نبضاتي على مسار خطوك، أمشي كأني أحمل عبئ الأيام، أمشي وتنقص في طريقي الخطوات، وحدها موسيقى الكمنجات، تعيد ترتيل وجعي، ليسيل على مقاس مقلتيك نقيا كقديس.

قَبلك حبيبي، كنت أحدق في الطريق، أحدق فقط. معك أجدني أسلكها.. رغم أنني لم ألتق الرجل صاحب اللباس الأسود، ولم أسأل نفسي كما فعل بيسوا: إلى أي حد؟ وكيف أسلكها؟ كان الجواب حاسما.. حاسما جدا. أسلكها كما لم أسلكها من قبل، إذ للحالمين نوارس تشذب طريقهم، وأجدني أتعقبك نغما في الدواخل، نغما غاويا، مغريا، لذيذا وعاصفا .. هوالحب يا حبيبي”كذبتنا الصادقة”.

وأنا أجرب ممكنات جديدة للحياة، علمتني التسلل إلى التخوم القصوى، والبحث عن شموس أخرى، كما علمك أصدقاؤك: برغسون، نيتشه، ودولوز.. لذلك أحسك تدفقا، ديمومة وذاكرة، حركة خفقان وحلم مستمرين ..” الحب ذاكرة يا حبيبي، بالذاكرة نعيش. وحين نموت، ففي الذاكرة نخلد”. وأنا الآن حلم فقط، حلم أخضر .. حلم من زهر وعشب .. حلم من ماء وغيم .. كيف أشذب صورتك الهاربة؟ كيف أحول اسمك إلى نشيد؟ وكيف أجعل الغيوم، حبيبي، تغزل كلمات الغيب فوق رؤوس العشاق، لكي يستقيم العناق .. يستقيم .. يستقيم ..