نصوص

أنا والنّافذة -سرد

بقلم: د. كلارا سروجي-شجراوي

 

أحَبُّ زاويةٍ لي في البيت هي قُربَ هذه النافذة التي تطلّ على جانب من جوانب الشّارع، تجعلني أرى الأشياء دون أن يراني أحد، فهذه النافذة تتستَّر خلف تلّة ترابيّة تعلوها شجرة كبيرة.

أطلّ على العالم الخارجيّ من النّافذة بملابسي البيتيّة الخفيفة المتحرّرة صيفًا، ونسمات خفيفة تلاعب وجهي وشعري وتُشعرني بالانتعاش. صرت أعرف الأشخاص بأشكالهم المتميّزة. لا تهمّني أسماؤهم أو هويّاتهم، فقد أطلقتُ عليهم الأسماء التي تناسبهم من خلال طريقة لباسهم وسيرهم. أشعر بالقلق حين لا يظهر أشخاص بأوقاتهم المعهودة، مثل صاحبة الكعب العالي، بكامل مكياجها، كأنّها ذاهبة إلى سهرة ليليّة بفستانها المشدود على جسمها، تسير وسط الشارع لا على الرّصيف، تتمايل في مشيتها عند التاسعة صباحًا. أو ذاك الشاب الطويل بشاربه الرّفيع المعروف، برغم وسامته، بأنّه درويش الحارة، يضحك منه الصّغار قبل الكبار. ها هي سيّارة ابنتي الزّرقاء تطلّ من رأس الشّارع وهي ذاهبة إلى عملها. أعرف نغمة “زامور” السيّارة حتى لو لم أكن أجلس قرب النافذة. ترفع يدها بالسّلام، وتتجاوزني سريعًا. بعد قليل سيطلّ حفيدي ذاهبًا إلى مدرسته. ها هو، صار شابا وسيمًا في الثانويّة، يرفع هو أيضا يده بالسّلام من بعيد. هذا هو احتفالي اليوميّ كلّ صباح، وتنتهي علاقاتي الاجتماعيّة عند هذا الحدّ، فأنا في الثمانين من عمري. يطلّ عليّ أولادي وبناتي من خلال الهاتف، يتكلّمون معي يوميّا للاطمئنان على صحّتي، لكنّ زياراتهم باتت شحيحة، في المناسبات. لم أعد قادرة على الاهتمام بأحفادي وإعداد الطعام لهم عند عودتهم من المدرسة. أنا أحبّهم جدّا، لكنّني لا أعرف مقدار حبّهم لي.

أحرِّك قدميّ لأقوم، تتيبّس أصابع قدمي وتتجمّد، وأبقى دقائق على هذه الحال إلى أن تعود الحياة والمرونة لأصابعي من جديد، فأعدّ لي شيئا آكله لأنّ الحياة تتطلّب منّا أن نأكل، فلم يعد الطعام يجذبني.

ما هذه الأصوات؟ ما هذا الضجيج؟ عُدتُ إلى نافذتي. لقد حانَ وقتُ تنفيذ ما كنت أخافه منذ مدّة. لقد بدأت الجرّافات بقتل التلّة، وها هي شجرتي تتمايل على الأرض ميّتة. أعرف أنّ ذلك سيحدث، لكنّني كنتُ أتمنى أن يتأخّر تنفيذ مشروع ذلك الثريّ الذي استطاع أن يشتري بقعة الأرض أمام منزلي كي يبني مجمَّعا عاليا يدرّ عليه الأموال. الضّجة كبيرة والغبار آخذٌ بالدخول إلى بيتي. لم أعد أحتمل سماع هذه الأصوات الحادّة القويّة. أخرجتُ السمّاعات من أذنيّ وألقيتها بعيدًا عنّي، وأقفلت النافذة التي انكمشت إلى الداخل فغاب عني العالم الخارجيّ، وصرتُ لا أملك سوى عالمي الداخلي، ذكرياتي القديمة، ماضيّ المليء بالحركة، أطفالي يلعبون ويتشاجرون حولي، زوجي الذي اشتقتُ إليه لكنّه تركني ورحل بعيدا، منذ زمن، إلى عالم آخر. أرى ضوء الهاتف يرتجف لكنّني لا أسمع صوتًا. يدي المرتجفة تحاول أن تمسك قطعة الخبز فتسقط منّي. أشخَصُ بسقف البيت الذي امتلأ بخيوط العنكبوت فأستأنس بها. ليتها تستطيع أن تحتضنني وتمدّني بالدفء.

لم يمضِ وقت طويل حتى ارتفع المبنى عاليًا بحيطانه البيضاء التي باتت عالمي الوحيد.

(من مجموعة القصص بعنوان: طواف – خربشات قصصيّة بحجم راحة اليد).