كتابات

القصيدة المغايرة في وعي الحساسية الجديدة

 

عبد اللطيف الوراري

 

(1)

      بموازاة مع هذا القلب الكتابي، لم تعد القصيدة مجرد شكل أو أسلوب، وإنما كانت تحمل محتوىً يعكس فلسفة ما، وفهماً خاصّاً للذات والكتابة واللغة والعالم، إذ يطبعه روح المفارقة، ويقف ساخراً، أو لوذعيّاً، أو غير مُبالٍ من حياتنا المعاصرة في شكل ومضات وتشذُّرات تُفكّك وهم الواقعي وترصد “منطق الخلل” الذي يهيمن على تلك الحياة ويطبعها؛ فظهرت مثل هذه الكتابات نافرةً من ذهنيّة النسق وأقل رزانة وأقرب الى التأمل الداخلي والمرح الديونيزوسي.      أخذ وعي الشعراء المغاربة بشرط نصوصهم الكتابيّ والجمالي يتقوّى ويبرز بشكل مُطّرد حتى وجدنا لديهم ضروباً من الكتابة التي لا تخضع لقواعد، أو على الأقلّ تفرض قواعد خاصة بها تُفجّرها من داخلها، وقد مالت أكثر إلى القصر والاقتصاد في اللغة والتكثيف، وإلى تشظية وعي الأنا بنفسها وبالعالم، مثلما عملت على تشذير البناء النصي وأولت الدالّ الأسبقية في تشييد مُتخيَّلها وتفجيره في آن. ففي مقابل تجانس الانسجام الذي تشدُّ أجزاءه رقابُ بعضها ببعض، تصنع الشذرات “نصّاً” متشظّياً، كثيفاً، مُفارقاً، شفّافاً، مُتعدّداً ومفتوحاً. وهو ما دشن، في حقيقة الأمر، أسلوباً جديداً في الكتابة وحياتها نكتشفه، على فترات دالّة، عبر الأعمال الشعرية التي ظهرت ابتداءً من عقد الثمانينيات.

    كما أصغى الشعراء إلى اليوميّ ونثروا

جماليّات دمامته شذراً، وجعلوا مما يكتبونه

نوعاً من “سيميولوجيا للحياة اليومية” التي يزخر بالصور والقيم والعلامات، إذ لا أخطر من تستمدّ الشذرات فعاليّة معناها من بلاغة الشعر الذي يُفارق ويُواجه ما هو معطى فيما هو لا يتحدّث عن الأشياء التي توجد في الخارج إلّا لتسميتها أو إعادة خلقها من جديد، حسب بنيته المفتوحة التي تقوم على استراتيجيات الانزياح والاستبدال  واللعب باللغة ونظمها الاستعارية، وذلك ما  يجعل الغياب في اللغة هو الأصل، وليس الحضور. النسيان وليس الذاكرة.

     ولعلَّ أهمّ من نعثر لديهم هذا الوعي الجديد في تمثُّل الكتابة الشذرية أو المقطعية بأضربها التي تطول وتقصر، فيما تعبرها صيغٌ من فنون الومضة والهايكو والأمثولة والنبذة وحكمة الخسارات.

(2)

    إذا قصرنا اهتمامنا على الشعراء الجدد الذين توزّع نتاجهم بين الألفيّتين، فإنه يستعصي أن نجمع أفرادها داخل جيلٍ أو نحجرهم على تصنيف عقدي كما كان جارياً من قبل، كأن نقول جيل التسعينات أو جيل الألفية الجديدة؛ فقد تفجّر ما بات يُصطلح عليه بـ(الحساسية الجديدة) بالنظر إلى ما خلقته من جماليّاتٍ كتابيّة مغايرة عكست فهماً جديداً لآليّات تدبُّر الكيان الشعري، مما يمكن للمُهتمّ أن يتتبّعه في دواوين شعرائها، التي شرعت في الظهور خلال عقد التسعينات. وهذه التجربة لم تكن لتجبُّ ما سبقها، بل هي تراكم لتجارب متتالية في سيرورة تحديث القصيدة المغربية الحديثة

   وتظهر لنا قصيدة الحساسية الجديدة مغايرةً وحبلى بالانعطافات التي تحفز شعراءها على التحرّك الدائم في جسد التجربة وأخاديدها، لا يرهنون ذواتهم لإيديولوجيا أو ينضوون تحت يافطة بارزة، وهو ما يعني صعود رؤى واجتراحات جمالية جديدة بالفعل. إنّها تكشف عن كونها كنايةً عن اختلاف في تشكُّلات الرؤية الإبداعية، أو في تصوُّرها لأفق الكتابة الشعرية بسبب اقتراحات شعرائها النصية والجمالية، وما صارت إليه رؤاهم المختلفة إلى الذوات والأشياء؛ من الرؤيا التي تُعنى باكتشاف العالم ومواجهته، إلى الموقف المباشر الصادم من السياسة والأخلاق والقيم.وتطوُّر إواليات بنائها المعماري، بقدر ما هي تعزيز لمشروع قصيدة النثر بالمغرب.

   وهذه الحساسية تظهر ممتدّةً بصمت، وأوسع من أن تتأطّر داخل مفهوم مغلق ونهائي مثل مفهوم الجيل، أو تحجبها المعاصرة، فما فتئت تكشف عن أثر التغيُّر الذي يحدث باستمرار. ومن ثمَّ، علينا أن نلتقطها ونسائلها بصيغة الجمع لا المفرد بشكل يسمح لنا باكتشاف الزمن الكثيف للشعر المغربي. إنّ الارتباط بعامل الزمن لا يعني لنا من قيمة إلّا بمدى قيمة الأشخاص المتحرّكين داخله، ودرجة حضورهم فيه.

(3)

    لو طالعنا نصوص التجربة الشعرية ابتداءً منذ مطالع التسعينات وإلى اليوم، لوجدنا أن الشعراء لا يكتبون بسويّةٍ واحدة، ولا يجمع بينهم فهْمٌ محدّدٌ للعمل الشعري، لكن ثمة سمات معينة، لعل أبرزها عزوفهم عن المعضلات الكبرى والهواجس التاريخية والسياسية، والانهمام بالذات في صوتها الخافت، وهي تواجه بهشاشتها وتصدُّعها العالم والمجهول. هناك الذات فقط. الذات المتصدِّعة التي تشي بعزلتها وبالولاء لحزنها الدقيق، وقد ولّتْ ظهرها لتلك المعضلات التي بدت بلا جدوى، وعكفت بدلاً عن ذلك، على ما يعجّ به اليومي والعابر والهامشيّ والخاص من تباريح وتناقضات وتفاصيل وإيحاءات، مرتفعةً بانفعالاتها واستيهاماتها وعلاقاتها وحيواتها إلى مستوى شخصنة مُتخيّلها الشعري.

     وثمة من ارتفع بسؤال الذات وانفعالاتها وهواجسها إلى مستوى أسْطَـرتها. ومنهم من يلهج بالحبّ والأمل في إعادة صياغة الحياة والتحرُّر من القيود، أو التّوْق لتحقيق التوحُّد مع المطلق، إذ تتنقّل الأنا الشعري عبر تحوُّلاتها الحسّية أو الميتافيزيقية في الزمان والمكان، وعبر غنائيّة تطفح بالحبّ والحكمة والحلم، تعيد إنتاج مدلولاتها. وفي صميم هذا السؤال الجارف، ثمة انشغالٌ بالبعد الصوفي أو الروحي في الشعر من خلال التناصّ مع الآيات القرآنية وأقوال المتصوفة.

   وثمّة من يلوذ بذاكرة الطفولة والمكان الآبد في مواجهة الزمن المتفلّت وعذابات الحاضر، ما يطبع الأنا الشعري بدلالات تجد متنفّسها الرمزي في فضاء الموت والصمت والغياب.

    وفي شعر البعض تتكشّف استقالة الذات من الواقع، ونفض اليد عن إلزاماته الضاغطة. وهناك من نذر شعره لفضح الحضارة المادية المعاصرة، إذ لا يكفّ عن نقدها والسخرية منها داخل مفردات هذه الحضارة نفسها، ولاسيما التقنيّة التي أغرقت الجوهريّ والإنساني في شبكات عصر الأتمتة.

   مثلما نقف عند آخرين على شعريّة الاقتراب من اليومي والعابر والتفاصيل والأشياء العادية، البسيطة لكن العميقة، بشكلٍ يشفُّ عن علم جمال اليومي، عبر تصويره وشخصنته والهزء منه على نحوٍ لَوْذعيّ. ونجد عند بعضهم معرفة لافتة بطرائق شعرنة اللغة داخل النثر، في استخدام اللغة الشعرية بشفافية عالية وتكثيف مجازي لافت.

    ونجد عند آخرين انفتاحاً على أسلوب السرد في بناء معمارهم الشعري بشكل يدير شبكات سردية تمنح القصيدة حركةً شرنقيّة ونموّاً عضوياً هادئاً، ويقيم حوارات بين ضمائر الثلاثة بصيغة المفرد والجمع. وهو ما يطلق طاقات اللغة التعبيرية في أناشيد حبّ أو قصائد- توقيعات تقترب من القصيدة الرومانسية، أو قصيدة الومضة، أو الهايكو، أو الحكاية الرمزية.

   وثمّة كتابة أشبه بالهمس داخل أسلوب الفقرات الشذرية بطابعها الإبيجرامي، يُصاحبه نزوعٌ إلى اقتصاد اللغة وتبئير أبعادها الدلالية. ونجد لدى الشاعرات اهتماماً بالجسد وافتتاناً بالأنثوي والهشّ بلا ابتذالٍ أو إسفاف، داخل صيغ أسلوبية تتأرجح بين الإشراقي والرومانسي والرمزي.

(4)

     لكن من يمثّل من الشعراء هذه الحساسية الجديدة؟

  يمكن أن نسمي من داخل هذه الحساسية عددًا من هؤلاء الشعراء ممن يزيد إبداعهم أو يقلّ، لكن الآكد أن عددهم يزداد اطّرادًا، وحضورهم يتقوى في منحنى الشعرية المغربية، كأنّهم اتخذوا من هذه الحساسية نداءهم البليغ عن الحقبة التي يجتازونها، وعن المحنة الروحية التي يعانون آثارها في النفس والجسد.

     وإجمالًا، فإني لما أتحدّث عن حساسية جديدة في الشعر، فإنّما أريد التوكيد على قيمة التحديث والمغايرة والاختلاف التي صاحبتها وتبنّتْها بدلاً من حساسية قديمة كانت ترهن الشعري بالإيديولوجي والرسالي في زمنٍ ما وحقبةٍ ولّتْ. أمّا هذه الحساسية الجديدة فهي ليس حساسية واحدة ومنسجمة، بل هي بالفعل حساسيّاتٌ متعددة وغير منسجمة؛ وذلك قياساً إلى أنّ رؤاها ومرجعياتها وروافدها وطرائق تدبُّرها للكون الشعري وبنائه مختلفة إلى حدّ التعارض، وأنّ شعراءها لا ينضوون في جيل، ومدرسة وتيار ما. إنّهم منذورون لذوات لا تُحلّق إلا لتُخفق، وأيادٍ لا تكتب إلا لتمحو.