مؤمن سمير
لتحميل ملف الشعر المصري اضغط على الرابط
ترتبط تجارب المجموعة الأخيرة من شعراء قصيدة النثر المصرية بسماتٍ عدة، إجرائية أو جمالية، فتتميز مثلاً هذه المشاريع الإبداعية بالأفق المفتوح الذي يرابط أمام نوافذها ولا يتوقف أبداً عن رفدها بالحياة والتنوع الخلاق وكذا بعدم الخضوع لصرامة التصنيف الذي وَسَمَ الموجات الثلاث الكبيرة وأعني بهم جيل السبعينات وجيل الثمانينات وجيل التسعينات (سنضطر كما اضطر غيرنا أن نغض الطرف عن زيف وعدم دقة المفهوم الجيلي العَشْري وجاهزيته كلما كنا بإزاء محاولة للنظر أو إعادة النظر في تجارب شعراء قصيدة النثر المصرية) حيث ترتبط التجارب الأخيرة في فترة ما بعد هذه الموجات المتميزة، بالسيولة من حيث إمكان انضمام أسماء وتجارب جديدة كل يومٍ وكل ساعة، و بتفلُّت انتماءاتهم الفنية من التأطير والقولبة في جماعات شعرية أو تحت أي علامة رمزية تكون مؤشراً على تَوَجُّهٍ فني بعينه، وبعدم الحماس إزاء فكرة التراتبية المرتبطة بالمناطق الشعرية المطروقة قبلاً حيث يُلَمِّح ويُصرِّح العديد والعديد من أصحاب هذه التجارب – في تحقيقات أدبية أو حوارات أو شهادات الخ – بعدم الاعتداد بفكرتَيْ البناء على المنجز الشعري السابق وكذا مسألة النَسَب الفني لهذه التجارب وهل تعد امتداداً ورافداً لهذه الشعرية أو لتلك من عدمه … حتى أن تَوَهُج معنى ومبنى ارتباط اسم الشاعر بمشروع خاص ومتميز في الشعرية المصرية أو العربية قد لا يصمد كثيراً كغاية أو مبتغى فالمهم: (أنني كتبت وأن العديدين تفاعلوا مع نصي وبملحوظاتهم يتطور النص الذي هو بهذا التوجه ،كائنٌ لا شك في حياته وتفرده حتى وإن كان يشبهني بالضرورة) ..هم أبناءٌ إذن لتجاربهم فقط ولا يدينون إلا لاتساع مفهوم ونطاق وآفاق الشعرية التي تتيحها قصيدة النثر ولا ينتمون بالضرورة لفكرة أن يطور اللاحق السابق بالمغايرة والاختلاف الواجب والضروري … إن كلاً منهم يطور مسارات شعريته دون أدنى اعتبار لأي تشابه وتقاطع أو تنافر بالأحرى، مع المنجز السابق …وبهذا فهم لا يقصدون إلا رحلة جلودهم وأرواحهم وأبصارهم إلى “إيثاكا ” المراوغة التي تتحول وتتحور كل يومٍ باختلاف ملامح الأشعار وأرواحها، هذه الرحلة التي تقترب طرقها وشوارعها من الألفة مع الروح والتجربة أو تبتعد، حتى مع صور وأصوات وروائح الآخرين.. ولكي لا تُحَمَّل هذه المحاولة المبدئية والعفوية للرصد، بنتائج لم تقصدها أو تتغياها، يصح أن أؤكد على احترام أصحاب التجارب الأحدث للشعريات التي سبقت نصوصهم،وعلى أنهم لا يعتبرون أن تجاربهم رمية نرد في هواء بلا جذور كما أنهم هم مَنْ يؤكد دائماً على عدم دقة جملة ومعنى (الشعريات السابقة) حيث لا تقاس الأمور الفنية قطعاً بهذه الحسابات الخطية والجامدة وإنما بمقدار امتلاك النص أياً كانت فترته الزمنية أو حتى جغرافيته، للأصالة والقدرة على اجتراح الأسئلة الإنسانية الخالدة وكذا بنيته الخاصة وتشكيلاته المتميزة وفرادة اقتراحه الشعري الخ …وبهذا فهم يحرصون على التعاطي مع الكثير من تجارب الأجيال السابقة، المستمرة في مساراتها أو تلك التي تخرج على منجزها كل مرحلةٍ وتثور … لكن ما أقصده أو أحاول رصده أن العديد من أصحاب التجارب الجديدة قد لا يحملون ( جميلاً شعرياً ) لأي شعريةٍ ما حتى ولو تبلورت ملامحها وتم تقديرها واعتمادها، بطريقةٍ تدعوهم للانتماء إليها أو حتى نقضها، لأنهم يوقنون بأن مثل هذه المفاهيم الأقرب لرومانسية واستحواذ البطريركية وتعاليها على الزمان والواقع- والتي قد تنتمي للثقافة أكتر من انتماءها للفن- كان لها مشروعية في فترة ما قبل الثورة الاتصالاتية وليس الآن بالتأكيد .. لكن في الحقيقة ،قد لا تعد هذه المقولات موقفاً راديكالياً أو مبدئياً مفترضاً وإنما يمكن رد بعضها للحماس الوقتي والفوران الإبداعي ثم للمرحلة السائلة التي نحيا في دواماتها وهكذا يمكن بهدوءٍ وأريحية الاستمتاع بوصول الكثير من التجارب الجديدة للتمايز الفعلي وإعلان القطيعة الفنية مع المجاني والمتاح والإمساك بملامح واضحة تخص المبدع ورؤاه وتنجح في اقتراح شعرية جديدة واكتشاف أراضٍ بكر، طازجة وغير مستهلكة.. عند هذه النقطة يصح لنا أن نبتعد عن التعميم الذي اضطررنا إليه بغية الوصول لنتائج تخص مجموعة فنية مترامية الأطراف – ونعود للفكرة المنطقية التي تعتبر الشعر مشروعاً فردياً بالضرورة وتظهر ملامحه وسماته بجلاء عند تمايز مشروع الشاعر عن تجارب جيله وليس بالتشابه والتماهي معهم وفيهم…..
إن تجارب هذا الملف تدعو حقاً للفرح نتيجةً للتنوع في الموضوعات وفي الأداءات الشعرية ونظراً للجسارة الفنية التي يمكن اعتبارها أساساً عند كافة المبدعين حيث تعد الحرية سمة لا حياد ولا تنازل عنها وباعثاً رئيساً لتحفيز الخيال واصطياد الشعر من كهوفه وغاباته القريبة والبعيدة ليظهر للوجود ذلك البناء الباذخ والمدهش على الدوام الذي يُسمى الشعر..لا يضع الشعراء مطلقاً ثمة اعتبار للقيم السابقة على التجربة، كالقوانين الاجتماعية أو الدينية أو الأخلاقية فالجميع يتبنى و يدرك أن الشعر لا يتنفس إلا والنوافذ كلها مفتوحة وبالتالي لا يخضع الشعر إلا لقوانين الشعر لهذا تتميز أصوات كثيرة في هذا الملف بالانطلاق والبساطة العميقة التي تَعْبُر كل المناطق الشائكة بعفوية وبغير صدمة ولا اندهاش بينما تفتح العديد من التجارب الأقواس على آخرها وتجرب بكل جرأة في شتى المناطق الرؤيوية والفنية ويحمل الجميع صليبه فوق ظهره ولكن بعيون مفتوحة على اتساعها…
ونظرا لانفتاح وسيولة هذه الموجة الشعرية وعدم انضوائها في بوتقة واحدة، انضغَمَت مع هذه التجارب مشاريع وتجارب مختلفة التوجهات والأعمار – كانت قد غابت عن تصنيفات الأجيال السابقة نظراً للغياب الجسدي لبعضهم بالسفر أو عزوف البعض الآخر عن المشاركة في المشهد نتيجةً للإحباط الشخصي أو للوقوع تحت مطرقة التجاهل المتعمد الحاصل كأثر لتفشي الداء المصري والعربي الخالد وهو الشللية والشخصنة… مثل أولئك المرتبطين، قُرباً وبُعْداً، مع شعراء مرحلة الثمانينات : سامي سعد ومحمد حربي وإبراهيم المصري وحسونة فتحي، أو هؤلاء الذين يدورون مع دوائر التسعينات وحلقاتها رغم الأعمار المتفاوتة: إبراهيم البجلاتي وخالد أبوبكر وعبد الله راغب وأسامة بدر ومحمد سالم وأشرف الجمَّال وعطية معبد وعمرو الشيخ وكمال أبو النور وإبراهيم محمد إبراهيم وخالد السنديوني ونصر الكاشف وعادل العدوي وهشام محمود ومنال محمد علي وفردوس عبد الرحمن وإبراهيم جمال الدين التوني…وهم الذين ساهمت مواقع التواصل في تحفيزهم وانطلاق مشاريعهم أو إعادة اكتشافها وتوصيلها للقدر الأكبر من المتلقين، وهي نفس المواقع التي ساهمت في تشكيل سمات ومنطلقات وعي الجيل الأصغر والأحدث وقننت استفادته من فكرة موت الرقابة التي ترسخها فلسفة هذه المواقع، ليُقْدِم على مساءلة التواريخ الشخصية وهتك ملامحها بأريحية مرتبطة بفكرة البوح مع صديق افتراضي غير محدد الملامح وإن كان مُعَيَّناً في (الزمان والمكان): تلك الأبعاد التي أُعيد تفكيكها وصياغتها وفق وعيٍ جديد …انضمت إذن تجارب الشعراء الأصغر سناً مع التجارب التي أشرنا إليها ليتكون المشهد الأحدث في شعرية قصيدة النثر المصرية والتي تأمل هذه المختارات أن تكون مؤشراً على تنوعه وامتداد خيوطه وإشعاعاته وهكذا لم تضم إليها كل من تم تصنيفه وتقديمه وإخضاعه للدرس النقدي وفقا للتقسيم الجيلي المصري الشهير بالرغم من أن المشهد المصري في قصيدة النثر يضم كل هذه الموجات والدورات والتيارات معاً في ساحة مَوَّارة وثرية ولاهثة – ولكن يظل هدف توجيه الأبصار والبصائر لأسماء ومشاريع طازجة سواء أكانت جديدة تماماً أو حتى انطلقت من جديد ،هو الأكثر أَلَقاً وتوهجاً وتوافقاً مع طموح تقليب التربة الإبداعية المفترض ومساءلة القيم الفنية التي استقرت كيقينيات كما أنه يقدم في النهاية دليلاً واضحاً وصريحاً على ديمومة تجدد الروح في هذا الجسد الفَتِيِّ الماكر المسمى بقصيدة النثر المصرية..
1 Comment
Comments are closed.
كل الشكر والتقدير لكم