ملفات

الشعر التركي المعاصر: نوارس زرقاء تمخر عباب الشعر

 أسماء الجلاصي

تحميل الملف PDF اضغط على الرابط

التركي

لم يُولِ الكتّاب العرب اهتماما كبيرا  بالشعر التركي مقارنة بالشعر الغربي (الفرنسي والانجليزي واللاتيني) فليس هناك أية دراسة مسهبة ومعمّقة عنه غير بعض ترجمات  قليلة لا تسمن ولا تغني من جوع ولعّل هذه المختارات القليلة من القصائد لا تسمح للقارئ العربي أن يكتسب فكرة شاملة عن الشعر التركي الثري والمهم.

  فالمطلّع على تاريخ هذا الشعر باختلاف مراحله سيلاحظ تعدد تجاربه وثرائه بتياراته الحداثية وما بعد حداثية، بجمالياته وأساليبه والقضايا التي يطرحها والتي تترواح عادة بين التاريخ والانتماء والسياسة والالتزام والحب والهموم اليومية وغيرها… كما أن معظم الترجمات العربية اقتصرت على بعض الأسماء وأهمها ناظم حكمت هذه الشجرة العظيمة التي أخفت غابة ممتدة الأطراف، هذا العملاق ذو العينين الزرقاوين الذي نجح في تأسيس شعر تركي حديث جاء ليقطع مع ما كان يكتب خلال فترة الدولة العثمانية بما يسمى “شعر الديوان” الذي كان شعرا مقيدا بالوزن والقافية واستطاع أن يكسر القواعد العروضية وأن يتخطى الموضوعات الثابتة والجماليات اللغوية والشكلية التي رسخها الشعراء الذين سبقوه على حدّ قول الناقدة “غوزين دينو” التي أودعت مخطوط كتابه “مشاهد إنسانية” إلى مركز توثيق في فرنسا. كما أنه أثّر في جيل كامل من الشعراء  حيث أجمع النقاد من تركيا ومن مختلف أنحاء العالم على أن ناظم حكمت نجح في توسيع آفاق الشعر التركي وفي تجديده وتثويره.

لكن بداية التجديد الأولى كانت منذ بداية القرن العشرين وكان أساسها التحولات التي كانت تشهدها الدولة العثمانية، من خلال اسمين كبيرين هما “يحيى كمال” و”أحمد هاشم” اللذان أسسا لشعر ثقافي جديد كان امتدادا لشعر الديوان لغويا وجماليا لكنه كان في نفس الوقت قائما على حداثة الشعر الغربي وحركة الشعر الرمزي آنذاك وخاصة منه الفرنسي حيث سافرا إلى فرنسا لتعلم اللغة  الفرنسية وللاطلاع على ما كان يُكتب هناك من شعر وأدب.

أما في الأربعينات من القرن الماضي ظهر تيار آخر في الشعر التركي وهي حركة “غريب” التي أسست لشعر مستمد من الواقع اليومي يعكس النظرة البسيطة وغير المنمقة للشارع التركي و يتعارض خاصة مع كليشيهات الشعر القديم.

أصدرت هذه الحركة التي ضمّت كلاًّ من “أورخان ولي” و”أوكتاي رفعت” و”مليح جودت أنداي”  كتابا مشتركا بعنوان ”غريب” مع مانيفستو يشرح طبيعة الحركة وغايتها.

 شهد مطلع الخمسينات بروز أسماء جديدة مثل “بهجت نيكاتيغيل” و”صلاح بيرسِل” و”جاهيت قوليبي” وكذلك الشاعر الكبير “أتيلا الهان” الذي أسس تيارا جديدا أطلق عليه “ماوي” أو الأزرق الداعي إلى الواقعية الاجتماعية في الشعر، هذه المحاولة وجدت صدًى لها بين فئة من الجيل الشاب، مثل “أحمد أوكتاي” و”ييلماز غرودا” وغيرهم من الذين أظهروا سابقاً ميولاً اجتماعية، إلا أنها لم تصمد طويلاً أمام النقد الذي وُجّه إلى “أتيللا إيلهان”.

لم تمضِ أعوام حتى شهد الشعر التركي حركة جديدة جاءت لتقطع مع الآثار التي تركها “ناظم حكمت” وحركة “غريب” وكذلك مع ما رسَّخه الشعراء السابقون، ألا وهي حركة “الجيل الثاني” ونذكر من أهم روادها “جمال ثريا”، “ايجي أيهان”، “إيلهان بيرك”، “تورغوت أويار…” كان ما يجمع بين هؤلاء الشعراء هو تغيير شكل القصيدة، وتطوير المضامين من خلال إعادة النظر في بعض المفاهيم مثل الواقع والحقيقة والمعنى والفكر.. والتطرق إلى مواضيع غفل عنها الشعراء السابقون مثل الحرية والحبّ والجسد.. كما  كان لهذه الحركة رؤية مغايرة تماما تجاه اللغة و التعبير وكانوا يدعون إلى التخلص من القيود التي تقف حاجزا أمام العملية الفنية . ورغم أن مؤسسي هذه الحركة لم ينشروا بيانا يحدد الخطوط العريضة لها إلا أنّ المُطَّلِع على أهم ما كُتب تحت رايتها يمكنه أن يحدد سماتها المشتركة.

وإضافة إلى هذه الحركات التي رسخت مشاريعها الشعرية الخاصة بها كان هناك عدة شعراء نحتوا أسماءَهم في تاريخ الشعر التركي منذ تأسيس الجمهورية نذكر منهم : “نجيب فاضل” الشاعر الذي  سخّر نصوصه الشعرية لنقد السلطة وسياسة أتاتورك العلمانية مما تسبب في سجنه أكثر من مرة، إضافة الى تميزه في الشعر الصوفي.

  الشاعرة “غولتين أكين” التي كانت ملتزمة بقضايا شعبها و التي تعرّف نفسها بأنها “شاعرة الواقعية” وتؤمن بضرورة توحّد الشعراء بالشعب و التعبير عن همومه.

الشاعرة “نيلغون مارمارا” التي تأثرت كثيرا بالشاعرة الأمريكية “سيلفيا بلاث” و التي تركت قصائد يهتز لها الوجدان رغم انتحارها في سن مبكرة.

وفي العقود الأخيرة ازدهر الشعر الحداثي وما بعد الحداثي، وبرزت أصوات مهمة أكثر إِقدَاما على القطع مع الأشكال القديمة وشعرها وأكثر التصاقا بزمنها وشاهداً لتحوّلاته كما صدرت عدة مجلّات شعرية فاتحة المجال والمساحات أمام المحاولات التجريبية الجديدة التي تواكب حركة الشعر العالمي وتستفيد من التحوُّلات التي يشهدها هذا الشعر فظهر عديد الشعراء الذين يكتبون اليوم شعرا خالصا كلٌّ حسب تجربته الخاصة، ويشقون طريقهم الخاص المنفتح على آفاق الشعر العالمي الحديث انطلاقاً من انتمائهم التركي الوجودي العميق.

أمّا اليوم فيشهد الشعر التركي حركة شعرية يسودها التنوع والتشتت حيث عاد بعض الشعراء إلى القصائد الكلاسيكية الموزونة وبعضهم الآخر أعطى التفعيلة والإيقاع أهمية كبرى، هناك من يكتب النصوص النثرية استنادا على لغة شعرية متنوعة وهناك من يعتمد على الصور الشعرية المركبة وعمق الفكرة وهناك من يبحث بالمفردات والتراكيب لإيجاد بنية نصية جديدة.. هذا المخاض الشعري و المرحلة البحثية اعتبرهما البعض ظاهرة ايجابية ستفرز قريبا تيارا شعريا جديدا فيما اعتبرها البعض حالة من تردي و تدهور المشهد الشعري والأدبي في تركيا.

 نذكر من بين الأسماء الشعرية المتميزة في الوقت الراهن على سبيل الذكر لا الحصر “كوتشوك إسكندر” و”انيس باتور” و “حيدر ارغولان” و”لالي مولدور” و”بيرهان كسكين” و” ميسر يينيي”  ….

فيما يلي بعض القصائد التي قمنا بترجمتها من اللغة التركية إلى اللغة العربية لبعض الأسماء التي نعتبرها مهمة في تاريخ الشعر التركي المعاصر منذ تأسيس تركيا الحديثة وإلى يومنا هذا.