فضاء المجلة

قصص لعدد من القاصات اليمنيات

 
قصص لعدد من القاصات اليمنيات

1-القاصة ابتسام القاسمي

راهبة .. أم راقصة ؟!

 
في طريقها إلى الكنيسة …
حينما مرَّت من أمام المرقص، توقفت .. تأملت جمال أحجاره …
إنه أجمل من الكنيسة بناءً … راودتها فكرة الدخول إليه مراراً لترى ما وراء هذا الجمال ..
وفي طريقها إلى الكنيسة تسللت إليه وقدماها تترددان في حال مد وجزر…
بهرتها أضواؤه، خنقتها أجواؤه …
هربتْ …
أرادت الارتماء في أحضان الكنيسة ..
وقفت .. أمام تقطيب الكنيسة ..
قالت لها الكنيسة: رائحتك مقززة ..
هي: لم أشرب شئياً.
الكنيسة: في عينيك فتيات من هناك..
–     لعلهما التقطتا لهن صورة…
–     أُعجبتِ !!
–     لا .. مجرد ذهول..
–     لقد ذهبتِ لتستبدلي بي ( … )
–     لا .. مجرد حب استطلاع ..
–     لا …. لقد تغيرتِ..
صفعتها الكنيسة بمصراعيها…
ظلت تترنح ما بين طريق المرقص والعودة إلى طريق الكنيسة..
في المرقص .. أيادٍ ناعمة … لكنها شوهاء..
في الكنيسة … أيادٍ خشنة .. لكنها بيضاء..
أي يدٍ ستسرع بالامتداد إليها …
صارت خطواتها تتقدم إلى الوراء .. إنها تذهب وترجع كعقرب ساعة أوشكت على التوقف …
فأي يدٍ ستسرع في الامتداد إليها ؟!!!

2- القاصة انتصار السري

زهايمر

بُعدكَ ناراً تلتهمني.. بهذه الجملة بدأت كتابة رسالتها إليه، خيالها يأخذها إلى لحظتهما مع بعض، أنفاسه تشعل حواسها، تلهب خلايا عقلها فتوقفها عن عملها. يعجز قلمها عن نسج باقي السطور، تضعه جانبا على الطاولة، تحاول شغل نفسها بعمل فنجان قهوة، تزيد من مسحوق البن الحرازي المشهور بجودته، الكثير من السكر يجعلها تشعر براحة أعصاب، قبل غليانها تضع الحليب عليها، تصبّ منها في الفنجان، تتلذذ بشربها، رائحة القهوة تعيدها إلى مقهى مدينتها العتيقة وشربهما قهوتهما بالحليب معاً ومن ذات الفنجان، يومها دخلا صنعاء القديمة من باب اليمن، تجوّلا في أزقتها، كل بائع يروّج لبضاعته، ثياب نسائية تحاكي التراث، فضيّات، أدوات التجميل، الكل يدعو لزيارة محله وعرض بضاعته، يسيران بين تلك الزحمة، عيناه تحرسانها من عيون المارة، يقطّب حاجبيه عندما اقترب أحد المارة منها، يصلان إلى سمسرة النحاس، يدخلانها، يسحرهما جمال تصميم بنائها الذي يعود إلى عصر الممالك بأعمدتها الحجرية المقوّسة، ونوافذها المرتفعة، مشربيّاتها التي ينفذ منها ضوء الشمس. يلجآن إلى أحد محلات بيع الفضة المنتشرة بداخلها، تختار أحد الخواتم، يشرح لهما البائع اسم ذلك النقش المسمى «البديحي» نسبة إلى ناحتها اليهودي البديحي. صعدا إلى آخر طابق في السمسرة، تطل صنعاء ببهاء عمرانها عليهما، تتجلى صوامع المساجد القريبة، رهبة المكان، قدسيته تنسيهما وجودهما، في أحد الأركان تحكي له عن تاريخ صنعاء، عيناه تطوقانها، يطبع قبلة خاطفة على شفتيها، يعانقها، صوت أقدام تصعد درج السمسرة فتخرجهما من سكرتهما، يغادرانها لكنها تسكنهما.
يصلان إلى سوق الملح الذي يحتوي على العديد من الأسواق الفرعية: سوق الفضة القديم، الفتلة، الحبوب، الجنابي، المكسرات، البز، وغيرها. في سوق اللقمة تشدهما رائحة الكباب، العديد من شولات الغاز منتشرة تقبع فوقها أباريق الشاي والبن، ومقالي الكباب، أيضا مواقد الفحم وأسياخ من الكباب تتقلب فوق نارها، ورجال ينسكب عرقهم وهم يعملون بجد، عربة بائع الكدم المتجولة، شخص يدعوهما للصعود إلى قسم العائلات في أحد المطاعم.
طلب عدداً من أسياخ الكباب، وكوبين من البن بالحليب. تأكله الكباب بيدها، يشربها البن بيده، صوت دقات قلبيهما يطغي على الأصوات القادمة من السوق. يستمر سيرهما كسائحين، يلتقطان الصور لمعالم صنعاء، يصلان إلى بائع النحاس، هناك يسألان عن الأباريق والمزهريات وغيرها من المنحوتات النحاسية، يستمر تجوالهما مأخوذين بدهشة المكان وعراقة عمارة بيوتها التاريخية. من أحد بيوتها تطل طفلة من نافذة مشرعة لها ضلفتان خشبيتان، وتعلوها قمرية ذات زجاج ملون. يمران بمسجد طلحة وقبته الكبيرة، وببابه المقوس يستظلان فوق دكته.
في نهاية طوافهما يأخذان صوراً لهما بداخل بستانها المسمى المقشامة، يستمران بالمشي، هي تقفز أمامه كطفلة، ومن حين إلى آخر تعانق ذراعه، امرأة عجوز تبتسم وتدعو لهما، يضع بجوف يدها عملة معدنية.
عند «السائلة» يصعدان فوق جسرها الحجري المعلق، السيارات تمر من تحتهما، بيوت مدينتها القديمة تودّعهما وتدعوهما إليها من جديد.
«سأعود قريبا».. هذه هي جملته التي تعوّد كتابتها لها عند سؤالها عن قرب عودته، تخاطب نفسها «ترى متى سيكون ذلك القريب؟»!
تفتح جهاز التلفاز تشاهد تقريراً إخبارياً عن عملية الإنزال الأمريكي في محافظة البيضاء والذي راح ضحيته عدد من الأطفال وهدم سبع منازل. تغلق التلفزيون وتفتح صفحتها على الفيس، تتصفح صفحات بعض أصدقائها، لا زالت تلك الحادثة تتصدر منشوراتهم، وصور ضحاياها، تشعر بغثيان، وألم يعتصر قلبها، تغلقها، تحتضن قلمها لكنه يعاندها.
تتحسس رقبتها بأناملها، تشعر ببقايا ندبة عليها، فيحتويها قلق مما حدث لها في صباح يومها، هي المرة الأولى التي تحس فيها بخوف من فقدانها الجزئي لذاكرتها، حقاّ لقد كانت في حالة من التوتر والألم الذي شق رأسها كان يدك خلايا دماغها دكا.
لم تدرك ماذا حدث لها عند نزولها من الحافلة، غير أنها عند وصولها المقهى أسرعت إلى الحمام لتغسل وجهها من آثار الحر، وتفرغ حمولة مثانتها التي أرهقتها.
 
في المرآة شاهدت انعكاس صورتها، وكساها رعب عندما نظرت إلى أسفل رقبتها، حيث تبدو آثار عضة خفيفة دون وجود ألم، وتنميل في شفتها السفلى تدغدغها دغدغة لذيذة، خافت من تلك المرأة المنعكسة ملامحها على المرآة فلم تصدق أنها هي، ترى من هي صاحب العضة؟!
تعود إلى الطاولة، تبحث في حقيبتها عن نقودها، تجدها كاملة فتصدم، تحاول استرجاع ما حدث لها في الحافلة، تخونها ذاكرتها، لا ترى غير صورة عارية من الأحداث، تسأل نفسها هل أعطيت سائق الحافلة أجرته؟! وإذا لم أسلمه أجرته فكيف تركني أمشي دون أن يطلبها مني؟
تبدو ذاكرتها كورقة خالية من أيّ معلومة، قلبها يخفق لمجرد التفكير أن الزهايمر قد يغزو عقلها مبكرا.
رائحة عطر تعبق بها طرحتها فتشعر بالقرف والنفور. تستدعي كل جزئيات مخيلتها أين شمت ذلك العطر؟ بغتة أغمضت عينيها كأن شيئاً ولج فيهما، عندما برق في ذاكرتها خيال ظل الذي جلس إلى جوارها على الحافلة.
2/2/2017م
 
 
 

3- القاصة ريا أحمد

قطرات من فضة…

إلى (…)وهل للــــدموع كـــبرياء ..؟
“الحياةٌ لوحةً بديعة ..نشوهها بألواننا المقيتة ” . رمت كلماتها المقتضبة على لوحاتها الصامتة و المكتنزة في أركان غرفة رثة .
جالت عيناها بتثاقل عليها “سيظلون يحقدون عليكِ ؛فقد صرتِ مرآة لنفوسهم القذرة..”
لوحتها الأولى تبدو مبتهجة ،إنها اللوحة الأولى ،الحلم الأول ،الحب الأول ،البهجة لبستها وهي ترسم وروداً حمراء، صفراء ،بيضاء ،عندما صبغتها كانت لا تزال تحتفظ بألوان السعادة والأمل .
-يا لك من لوحة تافهة ،اللعنة على الريشة التي خلقتكِ ،سأحرقك غداً .
تبتسم اللوحة بسخرية :
-فاشلة ،ستظلين تكررين وعدك حتى تهجرك الروح ؛فعاشق الماضي يحترف الفشل.
يقع نظرها على لوحة أخرى يسكنها راعٍ يعزف لخرفانه معزوفة الذئب والنعجة . بتهكم :
-ذئب يحرس نعاج ،وحوش كاسرة ترتدي آدمية مزيفة .
باستخفاف تنظر اللوحة إليها ،وتعود لسماع معزوفة البشرية الأولى .
وأخيراً لوحتها المفضلة ،لقد أبدعتها عندما التصقت أناملها بريشة أجادت التحدث بصمتٍ مفجع، لوحة الأرض وقد تقيأت الموتى المخبئين في باطنها ..
-نعم ،فأجسادنا النتنة تثير تقزز الأرض ،مادة سامة لا بد من تقيؤها كي لا تموت .
تتلفت اللوحة يميناً ويساراً لتستشف نظرات الحقد والغيرة من اللوحات الأخرى .
جلست على كرسي صبغته بكل ألوان الحزن والألم ،أشعلت سجارتها وأكملت عيناها الجولة اليومية ،لوحة أخرى تغوص فيها ،لوحة لا زالت مدينتها نائمة .
-ستظلين كذلك إلى أن يأتي فارسك الأمير لتقبيلك ..حمقاء
تتضرج اللوحة بحمرة الخجل :
-لا يهم حمقاء أو قلي ما شئتِ؛ فسأنتظر فارسي الأمير ليخرجني من تابوتك الحقير.
تذهب بعينيها إلى اللوحة العذراء ،فتاة لا ملامح لها تمشي بثوبها الطويل ،تجتاز بحيرة تسكنها التماسيح ،ترنو إلى الأعلى بشموخٍ وكبرياء..ماذا تٌراها ترنو إليه ؟بجهدٍ كبير تجرجر صوت يأتي من قعر عميق ،فيأتي منهكاً حزين :
-سيظلون ينتظرون تعثرك كي يلتهم الأوغاد عفتك .
ظلت اللوحة شامخة ،ولا زال الألم يمزق صمتها .
أما اللوحة الظل فهي ألم لا وجع له ،لوحة تسكنها امرأتان ورجل ،ظلٌّ الرجلِ ذئب وظلٌّ المرأةِ الأولى بجناحين والثانية بقرنين :
-أتقنت وضعكما فيما كنتما عليه أيها الـ(..).
تنظر إليها اللوحة بلومٍ وعتاب .
فجأة توقف تجوالها وتعود لفرشاتها وتبدأ في تمزيق سكون ليل لوحة اقتحمها الظلام ،ترسم القمر ، سناؤه يجرح كبرياء ليل لا فضاء له،تجهش بالبكاء تهطل دموع تسكر وسادةً خالية ،تٌثملها ، دموع صبغها القمر بلونه فتناثرت قطرات فضية لتكمل معزوفةً يتيمةَ الأنغام ،وتلتهم عذرية لوحة صارت جاهزة لتنضم إلى قافلةٍ تعانق الذكرى والألم كل ليلة .
ديسمبر2000م
 

4-القاصة سهير السمان

في الصور
 
في محاولة جديدة لأمتلئ من جديد، فكل مساحة من حولي أصبحت فارغة، حتى  من يجتمعون ببعض هنا، لا حياة بينهم، يأكلون ويشربون، ويتحدثون، ولكنهم بألوان قاتمة، لا أحس ببهجة  بينهم. أتجه للصور المخبأة من زمن، حين تتحرر عندها الرؤية. أعود إليها دائما وأتأمل ما كان فيها من حياة. كثيرة هي تلك الصور، حين خلدت لحظات وعيي الأولى. تذكرت رواية كنت قد قرأتها بعنوان الخلود، فما الذي تعنيه هذه المفردة؟ هل هي هذه الصور التي أخرجها بين فترة وأخرى من حقيبة قديمة تضم العديد من الألبومات. لأعيد الناس التي فيها إلى الحياة، ليس هم الذين غادروا الحياة بل نحن من غادرناها،   فما جدوى الخلود؟
الكثير منهم قد رحلوا، وفي هذه الصور كان هو من يعشق التقاطها    ليسجل الوقت الذي يتبعثر من حياته، يبدو أنه لا يأبه إلا باللحظة التي قد تنتهي. أو أنه كان يحس بقتامة ما يلحقها.  هي الألوان التي تتبدل في كل صورة يلتقطها. يقتني ( الألبومات ) ويرتب فيها صوره مع الآخرين، حسب زمن التقاطها، أقدم صورة له كانت في السبعينيات، مظهر سائد في ذلك الوقت موضة ( الهيبز)، قدرا من الحرية فقدناها الآن، وحياة بسيطة، ألفة وصحبة، النظرات  المتألقة،، حتى الفتيات كن مع الشباب في الصور، وهن بمنتهى الحرية والبراءة، ويفاجئنا  بصورنا العديدة المأخوذة معه. وها هي ذي خمسة وعشرين سنة تمر منذ غادر البلاد، حين تحطم الحلم الجميل في حياته. افتقدنا الصور بعده،   فاخترت صورة معه بعد تكبيرها كنا الخمسة  أنا وإخوتي جلوس بالتوالي كل حسب عمره، وأختي الصغرى في حضنه لا تستطيع الجلوس بعد، أحب هذه الصورة كثيرا، لم نكن مبتسمين فيها وخصوصا أنا لا أعلم لماذا؟  وكأننا نؤدي مهمة رسمية. أعتقد أن مصور الاستديو لم يكن يأبه حينها بضرورة الابتسامة. أضع أمامي جميع تلك الذكريات، وكل صورة تبدأ بسرد الماضي، حين كان الناس جميعا في الصور الأهل والجيران والأصدقاء بملابسهم الملونة، في البيت والشارع والحديقة. في إحداها كنا تحت ظلال النخيل في رحلة ما،  وجارتنا تحدِّث والدي، أمي تمسك في يدها صحنا مليئا بالأرز، وخالي يحمل ابن جارتنا وهو يبكي، كنت مع ولد في نفس عمري  يحاول سحب الحبل مني.ما أزال أستعرض الصور العديدة التي تحكي تاريخنا. تتقدم بي الصور بعدها لصور قريبة.. ووحيدة، تنحصر فقط على أفراد أسرتنا الواحدة. لقد اختفى الجيران والأصدقاء منها، لم تعد جارتنا الأرملة بالقرب من أمي. ولا الولد الذي يسحب الحبل من يدي. صور جديدة مأسورة بين الجدران. لاوجود للبحر ولا النخيل، ولا والدي. صورة أخيرة وقعت في يدي، وهو في ثياب الإحرام مغادرا  لأرض غريبة، لم يعد منها.  وبعد خمسة وعشرين سنة من الغياب، عادت إلينا صوره في حقيبة دبلوماسية، مع أوراق خاصة به، وبطائق، وجواز سفر. عاد جوازه وحيدا. اسم بلا وطن. وتبقى هنا صوره سجينة الزمن.