سينما

السينما بمذاق حريف

تأملات في فيلم (في مزاج للحب In the mood for love)
رياض حمَّادي

المقادير

أن تسأل ما الذي يحدث, أو ما الذي سيحدث؟ حتى آخر مشهد, أسئلة تشير إلى ولوجك النص. هذا ما يسمونه (التشويق), والتشويق أهم عنصر في التسويق, وصفته ليست سرية, وهي ضرورية لضمان نجاح أي فيلم, شريطة أن تضيف إليها السؤال (كيف). و (كيف) في هذه الوصفة ليس نوعاً من أنواع البهارات, إنه الطبخة كلها.

الطبخة والطباخ

الطبخة هي الطباخ, ولكل شيف نجوم تحدد المستوى الذي بلغه في مهنته. طبقنا لهذا المقال يسمى (في مزاج للحب In the mood for love) طبخه, عام 2000, (كار واي وونج) بمذاق صيني وبمعايير عالمية لم يختلف عليها اثنان: موقع قواعد السينما العالمية IMDB  و (الطماطم الفاسدة Rotten Tomatoes). تأكيداً على أن السينما “ملهاش كبير”, وأن التنين الاقتصادي المخيف يستطيع أن يكون ناعماً أيضاً.

سر المذاق

ولأن الصفات التي يمكن أن تقال في نص سينمائي كثيرة تصبح لغة الأرقام عملية أكثر وعن نفسي أختزل كل ما قلته وما سأقوله في رقمين 9 من 10, وأترك الواحد لصانع السينما الأعظم, أحسن المخرجين, الذي عندما وجهنا لاكتشاف سر الخلق قال: “ثم انظروا كيف بدأ الخلق”. المقادير معروفة, والسر, إن كان ثمة سر, يكمن في النَّفَسْ, والجميل في نَفَس السينما أنه قابل للتعلم مثل الطبخ بشرط توفر الموهبة, والسبب الأهم في فشل السينما العربية ليس ندرة المواهب ولكن عدم نضجها, وغياب نصوص ناضجة, ولأن المستهلك العربي يتناول أي شيء؛ فهدفه أن يشبع لا أن يستمتع.
أن تشبع ليس هو المغزى من سؤال الطعام, أن تفهم ليس هو المراد من وجود النص (الصورة اللوحة الموسيقى الفيلم إلخ), الجامع بين كل ما سبق كلمة واحدة هي (التذوق) أو (المتعة) أو (الأثر) الذي  يُخَلِّفه النص فيك, لا معناه. ما كتبته هنا أثر أول يمكن اختزاله في كلمة (لذيذ) أو (ممتع) أو (مذهل), لكن الاختزال أحيانا مضر, يؤدي إلى النحافة, مثل قلة الأكل أو سوء التغذية.
طبق البيض بنفس المقادر يختلف مذاقه من شيف لآخر, و”كثرة الطباخين (قد) تفسد اللحم”. قد يصدق هذا على طبخة السينما, ويصدق أكثر على أغلب طباخيّ بوليوود الذين يعدون الطبق نفسه وبنفس المذاق منذ عقود, والنتيجة طعم تافل رغم كثرة البهارات! أما قلة مهارة الطباخين العرب فتحرق الطبخة, ويكفي ثلاثة طباخين محترفين من إيران (عباس كيارستمي وعلى أصغر فرهدي ومجيد مجيدي) كي يضعوا الفارسية في صدارة المحافل الدولية.
فارق آخر بين السينما والطعام هو أن الطبق له مذاق واحد حتى تنتهي منه, ما لم يتألف من عدة طبقات مختلفة, أما طبق السينما فيختلف مذاقه مع كل مشهد أو لقطة, والشيف الماهر هو من يقدم لك مشهد الختام كحلوى مدهشة!

النافذة المغلقة خارج الحقل

حكاية لها وجهين -مثل الحياة- في وجهها الظاهر حكاية عن جارين هما السيد تسو والسيدة تشو, يدفعهما الشك للقاء, واللقاءات إلى حب. بهذا الحب يفهمان ما يدور في الجانب الآخر المظلم من حياة شريكيهما. الشك هو وجه الحياة الآخر الذي يدور في الظل غير المرئي. وعليك أن تقلب وجهي الحياة لا لتعرف ولكن لتكتشف. الكشف حالة صوفية خاصة جداً, لكنها في هذا السياق قابلة للتعميم بفضل أدوات التحري التي تتتبع الخيوط مثلما يتتبع الكلب الرائحة.
نحن لا نعلم عن العلاقة (الغرامية) بين السيد تشان والسيدة تشو إلا من خلال تلميحات تشو وتسو. يلتقيان فيسألها تشو: “من أين اشتريت حقيبتك؟”, تخبره أنها من زوجها, فيعرف أن زوجته تقيم علاقة معه؛ فلديها الحقيبة نفسها. وتعلم تسو أن زوجها يقيم علاقة مع زوجته من خلال ربطة عنقه التي تشبه ربطة عنق زوجها. والمعنى المضمر في هذا التلميح أن السيد تشان اشترى حقيبتين, والسيدة تشو اشترت ربطتيّ عنق.
المرئي بين تسو و تشو يدور داخل الحقل, بينما العلاقة بين زوجها (السيد تشان) وزوجته (السيدة تشو) غير مرئية أو (خارج الحقل). هناك استخدامات متعدد لهذه التقنية ولها نتائج تعبيرية متنوعة مرتبطة بسياق الفيلم أو المشهد. وهي تقنية سردية تتمثل في إخفاء درامي لحدث أو لشخصية. من طرق إخفاء الشخصيات أن تُقدم الشخصية من ظهرها, وهنا إخفاء تام لشخصية الزوج مع لقطة وحيدة لشخصية الزوجة من الخلف.
تجعل هذه التقنية المتفرج مشاركاً أكبر وتدفعه لاستعمال خياله وذكائه وتَصوُّر ما لا يراه مقارنة بما يراه. تتطلب هذه التقنية من المتفرج “مستوى من الفعالية العقلية مماثلة للمستخدمة في الأدب. تصنع خارج الحقل متفرجين أذكياء, لا يحتاجون أن يأخذوا كل شيء على طبق من ذهب”. (فران فينتورا: الخطاب السينمائي, لغة الصورة, ترجمة: علاء شنانة, منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما – دمشق 2012, ص 202)
من دواعي حجب الشخصيات عن الظهور: “عندما نريد منح شخصية هالة من الغموض, فإن تصويرها بشكل مستمر خارج الحقل يمكن أن يساعدنا على الحصول عليها. تتحد فيه نفس هذه النقطة الأخيرة بالأولى: تفعيل آليات التخيل. عندما لا نرى شخصية, عادة نتخيلها. هذه الصورة العقلية التي نصنعها للشخصية, عادة تكون أكثر إيحائية من الإمعان فيها” (السابق 210)
حجب هذه العلاقة وعدم ظهور طرفيها ينتمي أيضاً إلى ما يسمى بتقنية, أو نظرية (النافذة المغلقة), التي تترك للخيال حرية ملئ الفراغات الإبداعية, وللتلميح مهمة تفعيل الرؤية بدلا عن النظرة المباشرة للعين. كما أن لهذا الإخفاء علاقة بالثغرة الإبداعية التي يتعمد الروائيون إحداثها في قصصهم لكي يستحثوا خيال القارئ لملئها بفرضياتهم وتخميناتهم. يطلق ماريو بارجاس يوسا على هذه الثغرة (المعلومة المخبأة). (انظر كتابه :رسائل إلى روائي شاب, ص 107)
الفضول والرغبة في فهم هذه التجربة يدفع تشو وتسو إلى تبادل الأدوار, يقوم هو بتمثيل دور زوجها وتقوم هي بدور الزوجة المقهورة إلى أن تتوطد علاقتهما فيعيدان النظر في علاقة زوجيهما. تقول تسو: “لم أعتقد أنك ستقع في حبي”, ويرد تشو: “وأنا أيضاً. كنت فضوليا فقط لمعرفة كيف بدأ الأمر بينهما. الآن أعرف أن المشاعر يمكنها أن تزحف”. وفي محاولة لكبح مشاعرها تجاه تشو تقول تسو: “نحن لن نكون مثلهم”, ويقول تشو: “اعتقدت أننا لن نكون مثلهم لكنني كنت مخطئ, أنت لن تتركي زوجك, لذا فأنا أُفضل السفر”.
هناك علاقة (غرامية) ثانوية تدور خارج الحقل بين السيد هاو, رئيس السيدة تشان (تسو) في العمل, والآنسة (يا), ويبدو من خلال المكالمات بين تسو وزوجته من جهة والآنسة (يا) من جهة أخرى أن السيدة تشان تتستر عليها وتقوم بتسهيلها. ولهذا التواطؤ دلالة تعاطف, وعدم إدانة العلاقة, ربما لأن علاقتها (العذرية) مع السيد تشو جعلتها أكثر فهماً وتقديراً.
والقصة في مجملها تناقش نوعين من العلاقات الغرامية: العلاقات الجسدية والحب الأفلاطوني, وحدود كل علاقة. فبسبب افتقارهما إلى الشجاعة, لا يجرؤ تشو وتسو على المضي في علاقتهما إلى أبعد من حدود القلب, كما لا تجرؤ على مواجهة زوجها بعلاقته مع امرأة أخرى, وهنا يظهر الفرق بين من يجرؤ على إقامة علاقة (جسدية) وبين من لا يجرؤ على مجرد المواجهة. ويبقى السؤال: هل هناك فرق بين العلاقتين؟ وهل اللقاء الجسدي هو الذي يصم العلاقة بالخيانة؟ وهذا سؤال نجد له إجابة في فيلم آخر هو (من الخامسة إلى السابعة 5 to 7).

القلب والجسد

حين يكون الحب والزواج والعلاقات خارج إطار الزواج موضوعات للتمرين يمكن التخفيف من وقع الكارثة أو المفاجأة كي لا تقول, بعد فوات الأوان: لو….
الحب تمرين للقلب, والزواج تمرين للحب وللجسد, والخيانة, في شكلها المتعارف عليه, نوعان: خيانة القلب وخيانة الجسد, وهي اختبار لقوة الحب والزواج معاً. وثمة مقولة تذهب إلى أن: “الحب ينتهي بالكآبة, والعلاقات العاطفية مؤقتة, أما الجنس فيدوم إلى الأبد“, وقصة الفيلمين تتفق مع هذه المقولة على نحو ما.
بقي زواج فاليري و آرييل متماسكاً بفضل تسوية بينهما تقوم على تطبيع خيانة الجسد. يسمح فاليري لآرييل بأن تقيم علاقة مع برايان؛ فهو يفعل المثل, وحين تتجاوز علاقتهما حدود الجسد لتصل إلى القلب, فهو أمر لا يستطيع منعه, لكن حين لا يكتفي برايان بساعتين ويطمع في علاقة بدوام كامل قائمة على الزواج, هنا يتدخل فاليري ليضع حداً لهذه العلاقة التي تهدد كيان أسرته المكونة من طفلين, ولد وبنت.
فيلم (من الخامسة إلى السابعة) يعالج موضوع الحب الحر والاستحواذ, ويَخْلُصُ إلى مفهوم مختلف للخيانة. فالخيانة لا تسمى كذلك إلا عندما تكون في السر, أما حين تتم بعلم الزوجين تكف عن أن تكون خيانة فيشعر الطرفان بالراحة من عذاب الضمير. أن يحب الزوج أو الزوجة شخصاً آخر ويقيم علاقة جسدية فهذه ليست خيانة. الخيانة أن يتطور الحب إلى زواج يبني أسرة على حساب تدمير أخرى.
نجد هذا المعنى حاضراً في مقولة لأوشو:
“إذا ما أراد (زوجك) أن يصبح ناسكاً, فذلك قراره وعليك أن تحترميه. لكن ستكون هناك مشكلة جنسية – ستعانين جنسياً- وعليك أن تكوني واضحة معه. قولي له: “أنا لا أتدخل في تنسكك, بإمكانك أن تكون ناسكاً –أنا أحبك وسأستمر في حبك- لكن ماذا بشأن حاجتي الجنسية؟” حينها يمكن إيجاد مخرج. بإمكانكما أن تظلا معاً وتحصلان على صديقين, أي أن تقيمي علاقة (جنسية) مع شخص آخر. إذا كان يحبك حقيقةً فسيدرك المشكلة. أو عليه أن يخفف من نسكه قليلاً. لكن عليك أن تكوني واضحة معه –إما أن يرضيك جنسياً أو أن يعطيك الحرية لتقيمي علاقات مع آخرين. هذا من شأنه أن يجعل الأمور واضحة بينكما ويفضي إلى نتيجة. إما أن يحدث شيء وتبقيان معاً أو أن يصبح من المستحيل عليكما البقاء معاً وتفترقان.”
علاقة الحب الأفلاطونية واستمراراها هو ما يجمع بين الفيلمين. فبعد مرور أربع سنوات على علاقتهما تظهر تسو بصحبة طفلها, ويعود تشو وحيداً إلى هونك كونج, المكان الذي ضمهما. لكن تشو وتسو لا يلتقيان, وعدم لقائهما لا يحول دون استمرار الحب. والأمر نفسه مع آرييل وبرايان, فبعد مرور سنوات يظهر برايان بصحبة زوجته وطفلهما, ويلتقي صدفة بآرييل وزوجها وابنيهما. يعرفهما على زوجته ويتبادل برايان وآرييل نظرات ذات مغزى. تخلع آرييل قفازها كي يرى برايان خاتم الزواج الذي كان قد اشتراه لها عندما طلب يدها. ولسان حال المشهد والنظرات المتبادلة بينهما تقول: ثمة زواج روحي أكثر قدسية ويدوم أطول من زواج تقليدي بين جسدين.

دلالات خاصة

فكرة ظهور السيد تشان والسيدة تشو بصوتيهما فقط وإخفاء تجسدهما شكلاً هو ما يميز هذا الفيلم. ولهذا الإخفاء دلالات عامة ذكرتها آنفاً ودلالات خاصة بهذا الفيلم.
ظهور الشخصيتين صوتياً, أو خارج الحقل, على نحو هامشي أو ثانوي وفي مشهد وحيد, له دلالة تفيد أن العلاقة الجسدية جردتهما من التجسد في صورة. يقول فيلليني في مذكراته (أنا فيلليني, ص 236) “أنت لا  تستطيع أن ترى وجه الطفل في فيلم (المهرجون) لأن الطفل في داخلي”. وإذا جاز لنا استعارة مقولة فيلليني وتطبيقها على هذا الفيلم لقلت أن تجسيد السيد تشان والسيدة تسو على الشاشة قد يجلب تعاطف المتفرج معهما ويقلل من المعاناة الظاهرة على ملامح تسو.
معرفة العلاقة من خلال تسو وتشو يمثل إدانة للفاعلين. والأهم أن الإدانة هنا موجهة للفعل أكثر مما هي موجهة للفاعلين. واللافت أن المعاناة لا تظهر على ملامح تشو, وكأن أمر خيانة زوجته لا يهمه, أو أن حبه لتسو قد أنساه زوجته. في المقابل ترتسم المعاناة على وجه تسو فتقضي الوقت مع تشو وهي تتمرن على سؤال “هل لديك عشيقة؟” لتطرحه على زوجها. وهذا السؤال يشكك في وقوع الخيانة, ويفتح باب التأويل لاحتمال اتخاذها ذريعة للقاء تسو و تشو, فحين تكون في مزاج للحب قد تخلق من أجله أي ذريعة!