سينما

فيلم "الجميلة والوحش" للمخرج العالمي جان كوكتو شعرية سينمائية وتعمقات ميتافيزيقية

حميد عقبي*

لم تظن الفتاة الطيبية (الجميلة) التي تحب أبوها وتقبل بقدرها أن وردة حمراء قد تغيير مصيرها، لو علمت بذلك فربما لن تطلب من أبوها الذي خسر تجارته وأثقلته الديون ثم هنالك بوابة أمل قد تخرجه من المحنة بسفر تجاري، الطيبة حد السذاجة أو هي طفلة لم تدنسها المادية لذلك تستحق أن تكون بطلة أسطورية خالدة، الحلم هو المحرك الأساسي صاحب البطولة في جميع أفلام الشاعر الفرنسي جان كوكتو، الحلم هو القائد والبوابة نحو العالم الميتافيزيقي غير المرئي والمرآة منفذ الدخول ودونها يصعب أن يُفتح الباب، سنجد المرآة في فيلم “دم شاعر” لا يمكن أن يخترقها الشاعر وهو يفكر بالمنطق والقياسات المادية وعندما يتخلى عن حسابات الواقع تجذبه المرآة إلى عالم مختلف، الدهشة والخوف وفقدان جاذبية الجسد، هي الروح وحدها تتجول وتلامس الغيب، “لست سينمائي وليست مهنتي أنا مجرد شاعر” عبارة كان يرددها جان كوكتو وتمسك بها طول حياته، إذن تعالوا نبحر في عالم شعري بحت وننسى القواعد والنظريات السينمائية ونتذوق الفيلم كتجربة شعرية حالمة ومفجعة.

نعلم جيداً أن جان كوكتو، عاش حياة عبثية مع الأفيون والجنس والفن والشعر وجميع أنواع الإبداع يحاور الموت ويصور جنونه وأحلامه ويتقلب في الميتافيزيقي ويصوره لنا كشاعر ولم يهتم بالمراجع الدينية فنحن مع شاعر ملحد وتصويره للملائكة مرجعها الأساسي شعري وليس ديني، مفاتيح فهم سينما كوكتو هي بكل بساطة الحلم، الغرابة، اللأمعقول، المرآة والحب.

[highlight][/highlight]
الجميلة هنا هي الروح الصافية، تحلم بالحب وترفض الإغراء من صديق أخوها ذلك الشاب الجميل والوسيم العابث المستهتر والمادي أي يحمل كل المتناقضات، الوحش ذلك الكائن الغامض والبشع، قبح الوجه وبشاعة الجسد تحتاج إلى زمن لنكتشف أن ما وراء هذا الوحش هي روح إنسانية معذبة تحلم بالحب لتصبح مرئية وجميلة وحية، لم يكن لحياة الوحش أي معنى قبل وصول الجميلة الملاك المنقذ ورغم ما يمتلكه الوحش من قوة ومال وقصر وحدائق وسحر إلا إنه محتاج لهذه الضعيفة الإنسانة، ومع المعايشة تكتشف الجميلة أن الوحش ليس القبح والوحشية وإنما القبح هو الواقع بما يحويه من جشع وعنف ومادية وجهل بالميتافيزيقي وعدم القدرة على الحلم.

الوحش يحمل صورة الرعب الشيطاني، هذا الشكل نتيجة مسخ سحري شيطاني شرير وهو أيضا الإنسان المعذب السجين في هذا الشكل والباحث المنتظر للمنقذ ولا يمكن كسر قيود القبح دون حب صادق، الوحش يعكس صورة الواقع الذي يراه كوكتو والفيلم يظل طرياً فعالمنا تعصف به الحروب التي تمسخ الحياة وتحيلها لجحيم وهذا الفيلم من الأفلام الخالدة والتي ت حوي جماليات شعرية خاصة وليس فقط حكاية شعبية ممتعة.
نحن ننتقل في هذا الفيلم من مكان واقعي نرى فيه شخصيات تعيش حياتها العادية بما فيها من تعب وأماني ومكان ساحر يصعب الوصول إليه إلا بوسائل خاصة (الحصان الأبيض، القفزان، المرآة)، الشخصيات العادية يصعب أن تصدق بعالم الوحش وزيارة الجميلة لأهلها كانت تحمل بعض من ذلك العالم الغرائبي، الناس العادية يساورها الشك وتهتم فقط بالمادي أي الذهب والمجوهرات والكنوز، الجميلة كبرت قناعتها لتؤمن أن ذلك العالم هو الوحش وهو الكنز الحقيقي والروح الصادقة لذا عادت لتنقذه وتقبل به زوجاً وتقبله.

المرآة هي المدخل لكل ما هو حقيقي وروحي وهنا نجد الضباب وغياب الرؤية تفصل العالم الظاهر عن العالم الخفي، الضباب يعوض المرآة وهكذا ساق القدر الأب إلى هذا المكان المعزول عن العالم ولولا امنية ابنته الجميلة وطلبها وردة حمراء لما حدث كل هذا.
العالم الرائع هو عالم الوحش وقصره وحديقته حيث اللأوقع واللأمنطق، عالم الدهشة وحرص كوكتو أن تكون هناك عتمة في بعض أركان المكان أي صور لنا جزء وأخفى عمداً بعض الأجزاء كأنه هو الوحيد الذي يعرف كل شيء عن هذا العالم وهي دعوة تأمل فالشاعر يقدم صوره وعالمه الخاص ورؤيته للعالم الظاهر والخفي وعلينا أن نخوض تجربة جمالية لنحسّ ونفهم ونتذوق ونحلم ولسنا مع فيلم إستهلاكي ولذة مؤقتة، أسئلة كثيرة يطرحها كوكتو في أفلامه ولا يرد عليها، هو يفتح شهيتنا لتجربة روحية ونافدة حالمة.

عندما يصل الأب إلى الغابة. في هذه اللحظة من الفيلم ، نحنلا نزال في عالم واقعي ، على الرغم من العناصر التي تتزايد لتفقد الشصية ونحن كذلك الرؤية.
الموسيقى مذهلة سرعان ما تنضم إليها المؤثرات الصوتية للعاصفة. يزداد الدخان أو الضباب إلى الحد الذي تصبح الشخصية وحيدة ثم نساق معها إلى عالم المكفوفين.
ننتقل إلى عالم آخر ، رائع ، حيث الأشياء السحرية التي لا يصدقها أحد، نلاحظ على الفور هذا التغيير، تلك الحركة من الأشجار كأننا أمام ستارة تفتح لنكون في مواجهة وجهاً لوجه مع العالم الميتافيزيقي، نشعر على الفور أن الوضع يتغيرتشير إلى ذلك
لم نعد في الواقع (قبل دخول القصر)تحدث متغيرات على مستوى الصورة والصوت والصمت و الموسيقى، نلاحظ تفاعل الشخصية، بين الدهشة والإستغراب ثم يقبل هذا الحلم كونه المنقذ من الضياع والجوع والبرد، في الصباح عند مغادرته وقطف الورد تكون الصدمة.
عندما تقبل الجميلة التضحية لم تكن تعلم أو تتصور بشاعة الوحش لدرجة يُغمى عليها من أول مشاهدة له، ينصحها ألا تنظر إلى عينيه ثم يطلب منها الزواج منه، ترفض، لم تغرها الماديات والفخامة وهي لم تفكر بها، تتطور المشاعر مع الإستكشافات وكون الجميلة إنسانة نظيفة القلب ثم تتألف مع المكان وهي لم تكرهه أو ترفضه بل عايشت الروحة والسحر وهكذا تحول الوحش إلى صديق ومنحها المرآة وقفازه وحصانه لتزور والدها، هنا حياته تتوقف على الوعد وهو لم يهددها فصارت تملك مصيره ولو خانت وعدها كان سينتهي وينتهي ذلك العالم كله.

المرآة ، انعكاس للشخصية ، للتطور الداخلي ، لمعرفة الذات ولكن هنا للولوج لعالم الحقيقة والروعة، مرآة الوحش السحرية تعرض للجميلة ما تفكر فيه، في المرة الأولى ترى والدها المريض وفي الثانية ترى الوحش لحظات سكرات الموت ولو أنها لم تحبه ما قدرت أن تراه، إذن هي تترجم الرغبة والمشاعر وليست أداة مادية بحتة وهنا الجانب الأخلاقي يظهر واضحاً ومهماً في العلاقة بين الجميلة والوحش، فهو ليس السجان الشرير وهي ليست السجينة الهاربة.
فيلم “الجميلة والوحش” يفيض بالشعرية كونه تجاوز الحكاية ونجد مثلاً صورة الجميلة ذات مرجع فني تشكيلي لو تأملنا لوحة (الفتاة ذات القرط اللؤلؤي) وهي لوحة زيتية رسمت في القرن السابع عشر على يد الرسام الهولندي يوهانس فيرمير. يظهر فيه وجه لفتاة ترتدي وشاحاً وقرطاً لؤلؤياً، حرص كوكتو أن ينقل النظرات ويعيد الحياة لهذه اللوحة في قالب سينمائي شعري مدهش.
لعب جان كوكتو على الضوء والظل والظلمة ليخلق عالماً ساحراً تتفجر من خلاله شعرية خاصة تعمق المعاني الفلسفية وهلوسات كوكتو وتهدم وضوح التدفق الحكائي لتزج بنا إلى دواخل كوكتو وقلقه ويحضر الموت بموت ذلك الشاب الذي جاء ليقتل الوحش ويستولي على قصره فالسهم يرتد ليقتل القاتل ويهدم الجسد صاحب الروح المادية.
* سينمائي يمني مقيم بفرنسا