سينما

مصور قتيل… الخلطة السحرية لعمل محبط*

بقلم: أحمد شوقي

صناعة الفيلم السينمائي هي عملية يتم فيها خلط عناصر مختلفة، بعضها ذو طبيعة فنية والآخر ذو طبيعة تقنية وتنفيذية. وبينما يعتبر المخرج هو الطاه الذي يشرف على صنع هذه الخلطة، فإن المؤلف أشبه بمورّد الخامات الذي تتوقف جودة العمل بشكل كبير على ما يقدمه، ومهما كانت مهارة الطاه الإخراجية أو جودة طريقة التقديم، فمن الصعب جدا الخروج بنتيجة مرضية باستخدام مادة خام مليئة بالعيوب “الدرامية بالطبع”.

جالت هذه الأفكار في ذهني خلال مشاهدة فيلم “مصور قتيل” الذي مثل مصر في الدورة الأخيرة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. فالفيلم يحمل أسم مخرج أظهر موهبة واضحة في عمله الأول، وهو كريم العدل الذي جاء فيلمه السابق “ولد وبنت” أفضل بكثير من أعمال مخرجين متمرسين. ويحمل كذلك أسم مؤلف شاب أثبت حضوا وصار ملء السمع والبصر كمخرج ومؤلف ومونتير بل وكاتب ساخر وناشط سياسي، وهو عمرو سلامة الذي يكتب لأول مرة سيناريو لا يقوم بإخراجه. وكذلك يحمل أسماء طاقم تمثيل مكون من مجموعة من النجوم الصاعدين الذين أثبتوا موهبة كبيرة كإياد نصار ودرة زروق وحورية فرغلي، بالإضافة إلى عناصر إنتاجية تبشر كلها بعمل طموح يفترض أن يحمل روحا جديدة.

ولكن بالرغم من كل أسباب التفاؤل فإن العمل جاء محبطا جدا، كطبخة مقدمة بطريقة أنيقة لكنها سيئة المذاق. وهي مسؤولية يحمل المؤلف الجزء الأكبر منها لأنها عيوب في “المادة الخام الدرامية”، ويحمل المخرج الجزء الباقي بموافقته على تقديم عمل يشوبه هذه العيوب، وبمحاولته للإفراط في الشكلانية التي لم تتمكن إطلاقا من إخفاء العيوب الجوهرية في الحكاية، خاصة وأن فيلم الجريمة التشويقي تظل الحبكة دائما هي معيار الحكم عليه. لذلك فقد وجدت فيلم “مصور قتيل” عملا مثاليا تماما لنأخذه كنموذج نوضح من خلاله الخلطة السحرية لصناعة فيلم محبط، وهي كالآتي..

أولا: اخدع مشاهديك

أفلام الجريمة التشويقية بكل صورها المختلفة تقوم على فكرة عامة واحدة هي وجود جريمة يتم دفع المشاهد للاهتمام بالعثور على مرتكبها، وغالبا ما يتواجد بطل يقوم بالبحث عن هذا الجاني ليخوض الجمهور رحلة التحقيق من خلاله. ويقول أساتذة السيناريو أن الطريقة الأفضل لصياغة الأمر هو أن يتم تقديم نفس الأدلة التي يراها البطل للمشاهد، ويكون تحدي المؤلف هو جعل الأدلة متواجدة أمام أعين الجميع لكن أحدا لا يتمكن من ربطها معا، حتى ينجح البطل في النهاية في الأمر ليكتشف المشاهد أن كل شيء كان واضحا أمامه بالفعل لكنه لم يتمكن من تكوين الصورة الكلية الصحيحة.

الطريقة الخاطئة أو لنقل الأقل إشباعا للمشاهد هي الحبكة غير العادلة أو unfair plot. وهي الدراما التي يتم فيها إخفاء بعض الأدلة والتفاصيل عن الجمهور بينما يعرفها البطل. وعبر إخفاءها يحافظ المؤلف على التشويق قائم حتى النهاية التي تظهر فيها أبعاد الحقيقة، والرهان وقتها يكون على ذكاء الحل بحيث لا يشعر المشاهد أنه قد تم التلاعب به وأنه كان قادرا على التوصل للحل مبكرا فقط لو توافرت لديه المعلومات التي يعرفها البطل. لكل طريقة مريديها والمنتمين إليها، وفي معظم الأحيان تعتبر الحبكة غير العادلة عيبا دراميا يفسر كضعف من الكاتب، ولكنه يظل ضعفا يمكن تمريره أو التغاضي عنه، أما ما فعله عمرو سلامة في “مصور قتيل” فهو كارثة درامية لا يمكن إطلاقا التغاضي عنها.

سنبدأ من النهاية التي يفترض أنها انقلاب درامي مفاجئ twist  يدهش الجمهور، وهي اكتشافنا أن البطل هو نفسه المجرم الذي ارتكب جرائم القتل وعلى رأسها قتل زوجته، وذلك لأنه تعرض لحادث امتلك بعده القدرة على مشاهدة المستقبل فأصبح يقتل من يراهم يرتكبون جرائم حتى يمنع شرورهم، ثم أقدم على قتل زوجته عندما شاهدها تخونه في المستقبل. الكارثة هنا ليست في الحل نفسه ولكن في تفاصيله وما يترتب عليها، فالبطل كما يظهر في النهاية لا يعاني من أي هلاوس أو ضلالات، والمنطق الفيلمي يؤكد حتى اللحظة الأخيرة قدرته على رؤية المستقبل، وبالتالي فهو واع تماما بأنه مرتكب هذه الجرائم ويمتلك مبرره الشخصي لما فعل. والسؤال هنا يصبح: عن ماذا إذا كان البطل يبحث طوال الساعة والنصف السابقة؟!

أنت أمام عملية غش وخداع مكتملة الأركان: قاتل يدرك تماما فعلته ويبررها لنفسه، لكنه يقوم لسبب غير مفهوم بالبحث عن مرتكب نفس الجرائم، ويتخذ موقفا عدائيا من زوج شقيقته الضابط لأنه لا يبذل الجهد الكافي في مطاردة القاتل، وغيرها من التصرفات التي يستحيل أن تتسق منطقيا مع الطريقة التي تم حل القضية بها، ولكنها جاءت وشغلت الجانب الأكبر من زمن الفيلم فقط ليخدع صناعه المشاهدين، أو بالتعبير الدارج “يشتغلونهم”. الاشتغالة تظل اشتغالة مهما كانت مبهرة الصنع، والمشاهد سيكتشف ببساطة وهو لم يغادر قاعة السينما بعد أن صناع الفيلم قد قاموا بغشه لإيهامه بأنهم يقدمون حكاية غامضة ومشوقة.

ثانيا: خاصم المنطق

من الطرق الجيدة أيضا لإضعاف أي دراما اعتمادها على المصادفات وافتقادها للمنطق. وفي فيلمنا هذا نشاهد رجل قام بقتل زوجته الحبيبة لأنه شاهد رؤية لها وهي تخونه في المستقبل مع صديقه المقرب ومدير أعماله، ولكنه حافظ على صداقته بنفس الشخص وواصل العمل معه بشكل طبيعي وكأن شيئا لم يكن! خصام للمنطق؟ بالطبع.. لكن الكاتب كما قلنا كان يبحث عن حبك “الاشتغالة” أكثر بكثير من المنطق الفيلمي.

وحتى في حكاية شخصية تواجدها منطقي في الدراما، وهي شخصية درة زروق صديقة الزوجة التي روت لها عن الجرائم التي يرتكبها زوجها، لتحاول الصديقة بعد مقتل صديقتها أن تدخل في حياة الزوج بحجة العمل لتحاول تحليل شخصيته اعتمادا على خبرتها كطبيبة نفسية. إلى هنا وبناء الدراما سليم، ولكن الكاتب وجد نفسه في مأزق الشخصية الكاذبة التي رسمها للزوج المكتئب بعد مقتل زوجته والتي سترفض تلقائيا أي عمل يعرض عليها، فما كان منه إلا أن لوّى عنق الحقائق ليجعل صديقة الزوجة ـ بالمصادفة البحتة ـ هي ابنة صاحبة شقته القديمة، وجعله يقابل ـ بالمصادفة البحتة ـ نصاب يبيع له كاميرا سحرية تجعله يعتقد أن هناك جريمة وقعت في المنزل قديما، ليبدأ في البحث عن ابنة صاحبة المنزل التي يفترض أنها المتواجدة في الصور، وبالتالي فيسقط قناع الشخصية ويوافق على الوظيفة التي تعرضها صديقة الزوجة عليه، فهو أيضا كان يبحث عنها. وكان من الممكن بالطبع ألا يعلم البطل أن الفتاة يبحث عنها هي نفس المرأة التي تطلبه في العمل، فعالميه الشخصي والمهني مختلفين لا يلتقيان، لكن منطق المصادفة البحتة الذي يحكم دراما الفيلم حتم عليه أن يراها تدخل عمارة صاحبة المنزل أثناء خروجه منها فيستنتج أنها ابنتها وبالتالي يوافق على العمل معها. وكم من الجرائم الدرامية ترتكب باسم المصادفة!

ثالثا: تفرع خارج موضوعك

وإذا كان يمكن تصنيف الفيلم بسهولة بأنه فيلم جريمة تشويقية يقوم على إطار ما وراء نفسي “باراسيكولوجي”، فإن صناع الفيلم يتناسون هذا التصنيف مرتين، الأولى عندما يدخلون المشاهد لزمن ليس بالقليل في قضية جانبية عن الكاميرا القديمة التي اشتراها البطل، ليتحول السؤال المطروح فجأة من سؤال بوليسي لآخر خوارقي يصلح لأفلام الرعب. وهي تفريعة درامية ليست فقط معدومة القيمة النهائية في سياق حبكة الفيلم الحقيقية، وتضم مشاهد طويلة لا علاقة لها بجو الفيلم العام أبرزها مشهد لقاء البطل بجامع التحف العجوز، ولكن الكاتب لم يهتم أساسا بإنهاءها بشكل منطقي، واكتفى بنهاية مقتضبة يعرف فيها البطل أن من باع له الكاميرا كان يخدعه بما قاله عن تاريخها الغامض، دون وضع تفسير مقبول للصور الغريبة التي التقطتها الكاميرا. ونشدد هنا على أن البطل لا يمتلك هلاوس بصرية ولكنه وطبقا لمنطق الفيلم يرى المستقبل فعلا، أي أن تفسير الأمر بأنه تهيؤات هو تفسير غير مقبول على الإطلاق.

المرة الثانية التي يتفرع فيها الفيلم خارج سياقه هي جلسة العلاج التي تجريها الطبيبة النفسية للبطل، والتي أتت تفاصيلها ركيكة أقرب لمحاضرات التنمية البشرية السطحية، بصورة أقل بكثير من التأثير على شخصية يفترض فيها التعقيد والتلوث كشخصية البطل. وإذا كان الخروج عن السياق في المرة الأولى قد أتى في صورة حكاية تمتلك جاذبيتها الخاصة حتى وإن كانت بعيدة عن الفيلم ذاته، فإن الخروج الثاني جاء مفتقدا لأي جاذبية من أي نوع، درامية كانت أو غير درامية.

رابعا: افرط في الإخراج

هذه المرة الوصفة تتعلق بالمخرج كريم العدل، والذي يبدو أن رغبته في إثبات قدراته الإخراجية مع محاولته للتغطية على عيوب السيناريو جعلاه يقوم باستخدام كل الحيل الممكنة في الإضاءة والزوايا وحركة الكاميرا، بصورة تخطت كثيرا إطار المعقول لتدخل في حيز الإفراط غير المبرر في الشكلية التي لا يحكمها منطق واضح.

فلا يوجد سياق بصري واحد يجمع مشاهد الفيلم، والرهان دائما يأتي على التكوين الجمالي والإضاءة الذكية حتى لو لم يحتج المشهد هذا. بل أن غياب السياق يظهر أحيانا داخل لقطات المشهد الواحد، ففي مشهد يقف البطل يتحدث في الشرفة مع شقيقته عن والدهما، ليتنقل المخرج أكثر من مرة بين لقطات متوسطة أحادية تم تصويرها بشكل طبيعي تماما، وبين لقطة تأسيسية واسعة تظهر الشخصيتين من الخلف بإضاءة سيلويت تخفي ملامحهما. وهي لقطة لا تظهر في بداية المشهد فقط كنوع من التأسيس، ولكننا نذهب ونعود إليها أكثر من مرة في مشهد لا يحمل أي نوع من الغموض أو التوتر الذي يبرر هذا التوظيف. وحتى لو وجد المبرر فلن يفسر توظيفها في بعض لقطات المشهد وترك باقي اللقطات طبيعية.

المثال السابق ليس إغراقا في التفاصيل ولا تصيدا للأخطاء، ولكنه توضيح لخطأ رغبة المخرج في تجربة كل شيء وإظهار كل القدرات في وقت واحد، وكريم العدل أثبت بالفعل أنه مخرج جيد فليس بحاجة لانتزاع هذه الشهادة من أحد، وعليه أن يعمل في المستقبل على توظيف هذه الموهبة بشكل أكثر حنكة لأن الإخراج هو اختيار تقني وفكري معا.

وفي النهاية

الحساب يكون على قدر التوقعات، والتعامل مع فيلم صنعه الهواة أو تجار الأفلام يختلف مع فيلم يفترض أن يعبر عن مستقبل السينما المصرية، والقسوة أحيانا تعتبر فرضا على من يرغب في إظهار السلبيات حتى يتم التغاضي عنها في الأعمال المقبلة، أملا في جيل يعيد للسينما المصرية شبابها. وأول خطوة في هذا الطريق هي أن يعمل كل شخص فيما يجيده ويطور أدواته فيه، فنحمي أنفسنا من التعامل السيء مع بعض العناصر، والاستخدام المراهق لعناصر أخرى.

*نقلا عن عين على السينما