كتابات

عبد الرحمن فخــري: شاعر الغموض والتأنق الفنـــي

أ.د. سمير عبد الرحمن الشميري

وســط دمار الحرب وطاحونة الخراب ولهيب الصراع المدمر وفي فضاء كالح وكئيب عامر بآلام الناس وعذاباتهم وشهقاتهم الحارة , وفي خضم تبدل البشر والقيم والأزمنة والأمكنة وقسوة الفاقة والفقر والفساد والتشرد والروائح النتنة التي تزكم الأنوف , يغادرنا الشاعر المرموق / عبد الرحمن فخري إلى هدأته الأخيرة بدون ضجيج ولا صــخب ولا مزامير بعد أن نهشه المرض وهدته الأوضاع الزميتة التي تئن بلحن حزين , يوم الاثنين 22/أغسطس /2016م .
1- شـــاعر غامــض وأنيق :-
عبد الرحمن فخري ( 1937-2016م ) , قامة شعرية شامخة يمثل مدرسة الحـداثة في القصيدة النثرية اليمنية , فهو صوت شعري ونقدي ثري , قليل الإنتاج عميق ورصين بشعره ونقــده وبصهيل حروفه وهديل كلماته .
نصوصه الشعرية غامضة ولذيذة وطازجة مفعمة بالحداثة الفكرية والفنية وبلغة شعرية راقية تحتوي على تماسك فني ولغوي وخيالي ودلالي , فهو صاحب صوت شـــعري متفرد بصوره الفنية وبإيقاعاته الشــــعرية وبحشـــــد عقلي ونفســــــــــي وعاطفي : (1)
عقلي من فضة
وقلبي من صخر ومن عاج
كما يتفق
ولساني .. تلك المحدودبة
بنت الضاد –
فأنا عربي
ينتمي إلى هذا القرن ,
ببالوناته
وإلى الحرب الثالثة
وإلى لغة الهندوس
عندما يغني طاغور
أشبه طاؤوس النار
لحظة الغضــب
وكالفرح ,
أقف عارياً
في الميــدان
فلتهمي أيتها الحروف
على رؤوس الأشهاد
ولأخرج من المحبرة
كأنني افعل
لأول مرة
ولن أمــد يدي إليكم
فلقد أحتاج
أن تدفعوني
نحو الهاوية
نحو نبع الأبجدية
أيها الوحوش ,
الأصــدقاء !!

عبد الرحمن فخري صوت شعري جهير من أهــم ملامحه السريالية والغموض , ولقد وقف الشاعر والناقد / عبد العزيز المقالح حائراً في تأويل قصيدة ” بلقيس تبكي بدمعي ” حيث قال :
” هذه القصيدة حيرتني وأتعبتني كما حيرت وأتعبت غيري من الشعراء والنقاد , وكما لابد أن تكون قد حيرت وأتعبت صاحبها الشاعر والناقد عبد الرحمن فخري .. وقد حاول الشاعر في ثنايا القصيدة أن يوهمنا بأن له قلبين , الأول منهما لبلقيس , والآخر لفتاته , ولكنه عاد فأوضح أن فتاته هي نفسها بلقيس وأنها احتلت قلبه الأول والثاني وملأت عليه كل أقطار القلب والروح :
بلقيس لها قلبي الأول
وفتاتي لها قلبي الثاني
لكن فتاتي هي بلقيس
والحب.. أنا (2) .
فالغموض ليس هدفاً للشاعر عبد الرحمن فخري بل أداة للتجديد الشعري والفني ووسيلة لتعميق الصورة الشعرية والهروب بالقصيدة من نمطيتها الكلاسيكية الرتيبة إلى عالم منفتح يكسر حواجز التقليد والصلادة الشعرية حيث يقول :
” إنني شخصياً كان أمامي طريقان : أما أن أحمل رقماً في القطيع كما يقول مصطفى محمود , وأما أن أخذ بقول الشاعر بيرون : ” لقد أبيت أن أندمج في القطيع ولا أكون على رأسه ” , ولهذا قلت في مستهل قصيدتي الأخيرة ملخص رسالتي :
متجرداً كعصا موسى
أضرب البحر , قبلكم
كي أغسل ,
ألواحكم المحفوظة
أفرح أن أركب العمر
إليكم
كيما أنتصر عليكم
بدلاً منكم
بدلاً منكم (3) .
فغموض الشاعر عبد الرحمن فخري لذيذ مصحوب بنكهة فنية راقية وثقافة شعرية رصينة تدفع القارئ لتذوقها والبحث عن سر سحرها وكثافة ابهرها وتشجع القارئ على تطوير ذاته والغوص في غميس ثقافة فنية راقية مشحونة ببلاغة السبك والخيال الجميل والصياغة الفنية ولُحمة البناء الشعري والأسطوري والرمزي في بوتقة الأصالة والعراقة وتجاوز ستار الوعي الغامض والذائقة الشعرية النمطية التي لا تشــعل الفكر ولا تحرك الأحاسيس الفنية والتذوقية.
ففي قصيدة (( بابلوا نيرودا , أيها الرفيق )) يقول فيها (4) :
يسقط الثمر , على الجسد
نقياً كآهات البحر
يافعاً كالنشوة
نابهاً , كأنه الضمير
أشــرب من دم الورد , معك
وأعاف الذهب والماء
في لحظة الشعر …
حيث تحترق الكلمة للإنسان
وأدور فوق الروائح
أشرب الألوان السبعة ,
من عينيك
يوم ترمي النور
بســهم إيروس
وتضيء الكهنة للملايين
بابلو يا حبيبي
أنا لا أعرفك
لا أريد أن أعرفك
فأنت البنفسج والتبغ والزيتون
وأنت الشعر
صورتك تشبه القرن ,
بعد العشرين
وهذا هو زادي منك
وخيالي الجميل !
ماذا أقول ,
في حضرة الموت الحــي
هل أفقأ عين الشمس ,
لتدمع ؟
هل أهز الأشجار ,
حتى تنوح
وأطوي الريح ,
وراء الجنازة
هل أقلب الأرض , مثلك
حتى تستوي الأشياء
من حقي أن أبالغ
لأنك شاعر
فأنا أمجد فيك (( الإنسان))
والورق الأخضر ,
والعالم الجديد
نيرودا
يا قلب السلام
مات الشعراء , بعد لوركا
وتبادل نوح مع ماياكوفسكي
أنخاب الطوفان
وتعلق الناس بك
كأنك القطار الأخير …
فالموت والمآتم والقبور والولادة الجديدة والتجدد والاصطفاء مفردات شعرية لا يخلو منها شعر الشاعر عبد الرحمن فخري , ولقد سيطرت فكرة الموت على بعض قصائده الشعرية (5) :
إنني أخشــى الموت
لأنكم لا تخشونه
تصافحون ملاكه , كالضيف الأخير
ترمون بالتفاحة الأولى في وجهه
وتستريحون …
وأنا يتملكني الموت
كلما رأيت حادثاً يدهم شرطي
أو وردة تحتضر كالأحياء
أو فتاة تهب نفسها للفيضان
أو حاكماً يقتني الكتب القديمة
أو شاعراً قد فارقه الشباب !
وأتمــدد في عنق الزجاجة
حتى لا تسكب الأنخاب !
لقد مات الشاعر/ عبدالرحمن فخري ولن يعود إلينا مرة أخرى ، فهو يحلم بالعودة مرة أخرى للحياة كما تصور ذلك الأساطير وبعض العقائد التي تحدثنا عن عودة الكائن الحي للحياة مرة أخرى .
” فالمسيحيون يؤمنون بإله واحد له ثلاث صور : الله ، الأب ، والله الابن (المسيح) ، والروح القدس الذي هو قوة الله العاملة في العالم . وقد خلق الله كل شيء في هذا الوجود ، وبين حبه لهذا العالم بنزوله للأرض في صورة المسيح ، وبمعاناته ، وموته ، للتوافق والمساواة مع الإنسان . ويؤمن المسيحيون أن المسيح عاد حياً بقوة الله بعد ثلاثة أيام من موته على الصليب . وأنه ظهر عدة مرات بجسده أمام تابعيه ، وتلاميذه ، وأنه الآن حي في هذا العالم من خلال الروح القدس “(6) .
فعبدالرحمن فخري يريد العودة للحياة ويحاكي بذلك سيرة سيدنا المسيح في قصيدة (( واندلق.. من عنق الزجاجة )) ، ويريد العودة على شكل صلصال أو سحابة أو كريح أو وردة أو أرجوحة أو كموال مرتجل لحفار القبور أو كربابة أو كأحلام عصافير : (7)
بعد برهة
أخرج عليكم
كصلصال يخف على أيدي الأطفال
كسحابة تسأل عن ابن السبيل
……………………………………
كأرجوحة مجنونة بجدائل عذراء
ككتاب مفتوح على هاوية
كالورق الأنصع من الروح
………………………………..
كموال مرتجل لحفار القبور
كاللحن الحزين الذي يقطع الأشجار
كجفن الليل المثقل بالخواطر
كالطباشير الملونة في جيبي
كالسر النائم في دفتر المساء
كالأرض وقد صارت بيضة الصباح
كخطوط الطول والعرض ..
حين تفرج عنكم !
بعد برهة
أعود إليكم
واحد منكم !

2- مهارة إلقاء الشعر :
كان آخر عهد لي به في مؤتمر إتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين – فرع عدن في 8/نوفمبر/2009م ( قاعة الفقيد عبدالله فاضل فارع – كلية التربية – عدن ) ، عندما أفتتح المؤتمر بقصائد شعرية شائقة خرجت من أعماقه بنغمات حارة وسكنت شغاف القلب وحلقت بنا في فضاء شعري أليق في آية من الخصوبة والذكاء والشاعرية وبلغة طازجة ومبتكرة .
فهو بارع في فن مهارة إلقاء الشعر بصوته الجهوري الذي يعطي إيقاعات سحرية لذيذة للشعر بحس مرهف ووجدان ذكي وانسيابية صوته الجليل الذي يرتفع وينخفض ويتحول فجأة إلى الرقة والنعومة تبعاً لما يقتضيه النص الشعري وتكنيك الإلقاء مصحوب بلغة الجسد وذكاء العاطفة وجلال المظهر ودقة التعبير الشفهي والجمالي لتصل قصيدته الشعرية إلى ذروة الجمال : (8)
-1-
أيها الحب
أتمسح بأعتابك الخضر
لأمتشق قامتي
وأرمي بظلي إليك
ليتلون الفرح
وأعلق الخطايا عليك
كأنك الصليب
أيها النعيم المقيم
يا بركة جحيم
غسلت فيها أيامي
أنت .. أنا
-2-
أطرق بابك المسحور
لأنفتح عليك
أركب القوس إليك
حيث تحكم القلوب
وحيث تعشق العيون
ظلالك المزركشة
أنشد المغامرة معك
حيث يلعب الرياح
وحيث ترقد الخطيئة
مع الأفاعي
أريد أن أتحد
بك
لتضيع في ضياعي
ويغرق السندباد ..
أنا إنسان ،
وأنت حب
فأنا أنت
-3-
أيها الحب
من أنت ،
إن لم تكن .. أنا ؟
أريد أن انتحر في اسمي
فقط ، لأغرق فيك
أنا عائد من رحلات المستحيل ،
إليك ..
شاخت في ظلي الأزلي
أشواق الليالي السمر
وتحولت في سبيلك إلى كأس
وكان الطوفان
وظل قلبي يغني لك
ويأكل التراب ..
-4-
ياحبي إنني أعبدك
لأنك النبي والرغيف
إنني أتعلم من كتابك حروفي
ومن دموعك وضلوعك ،

أصنع حليبي
إنني طفلك الذي يقضم ،
إبتسامتك الحلوة
ويتنفس غضبك
ويتلفع بالريح معك
في فصل الربيع
أنت عيدي الأخضر
وحذائي الذي لا لون له
أنت .. أنا.
………………………………………
……………………………………..
3- موت يؤلم الأصــدقاء:
أشعر بغصة ألم في حنجرتي وبكمــد يزلزل روحي حزناً على فقيدنا الشاعر / عبد الرحمن فخري , الذي كان مشغوفاً بتكرار عبارته المشهورة ” لقبوني بالغامض وكان الشعر مقصـدي ” (9), فالموت على حد تعبير الشاعر الكبير / محمود درويش
” لا يؤلم الميــت, بل يؤلم أصــدقاء الميت ” (10) .
فالموت قدر محتوم على البشر والكائنات وهذا ما كان يؤمن به الشاعر عبد الرحمن فخري وظل سؤاله منتصباً : من يموت قبل الآخر الشاعر عبد الرحمن فخري أم حبيبته ؟! هذا ما كان يحيره ويشغل لبه ووجدانه الشعري وثمة عُتمة تهيمن على الروح ( هل يموت اسمك في يوم واحد مع اســمي ؟) , وهذا ما باح به في قصيدته (( النهار الحزين )) (11), بتشويق فــذ ولمسات فنية لذيذة وبخيال أصيل ونجوى داخلية بســط فكرة الموت في غســق العمر المسربلة بالضباب والتي تحمل قيمة إيحائية ورمزية شائقة .. ويربكك الشاعر عبد الرحمن فخري من زاوية عقلية ووجدانية عن ماهية الحبيبة التي يتقصدها !! .. هل هي : شمس – امرأة – وطن ؟!!
وما يحمد له أنه صــب هذه التعابير في بوتقة فنية واحدة فيها شيئ من الغموض وابتكار في التخيل في طقس روحي مرتبك سيطرت عليه فكرة الموت والتأمل والدموع والندم وانتحار المصابيح وسقوط الأشرعة وبكاء الشجر :
لو أنني مت
هل تموتين ؟
ستموتين … تماماً
سيغرق البحر في عينيك
وتسقط الأشرعة , كالضحايا
في فصل الحرب؟
هل يبكي الشجر كالنساء
على صمــت الدُمــى ؟
هل تنام الأغاني
على شفاه الأطفال ؟
وتفقأ كل الكراريس عيونها
ستنتحر كل المصابيح في الشارع
ولن يخرج الليل إلى الحانة ,
هذه الليلة
هل سيحرث أوديب وادي الدموع
فيروي قبرك بالندم ؟
هل يموت اسمك ,
في يوم واحد مع اسمي
وكل المواعيد معنا
وكل الصحف ؟
هل تموتين قبلي
في وضح النهار ؟!

وداعاً شاعرنا الجليل / عبد الرحمن فخري لقد مــت هادئاً وفي سويداء قلبك يتمــدد جوهر الوجع الإنساني الذي حملته طوال سنين حياتك وكنت صادقاً في التعبير عنه بشعرك واشراقات عباراتك وضياء روحك ورسائلك الشعرية المشفرة في حياة مترعة بالزخم والإبداع المقرون بالغموض الشعري والتجريد والتجسيد والاستبطان الواعي في بلاغة صورية وتعبيرية راقية فيها سحر وجاذبية .
” أيها الشاعر الصديق , يا صاحب القلم النافذ الطعنة كالحربة , والكلمة التي منها المشرفية , اعذرني إذا جنحت عن الأصول , فأنت أكثر مني كرهاً للأصول, لأننا , كلينا , نرغب في اختراق المألوف , وقتله أيضاً ” (12) .

***************************************************************
الهـــوامش :
1- عبد الرحمن فخري , من الأغاني ما أحزن الأصفهاني , ( بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر , ط1 , 2000م ) , ص 8- 9 .
2- عبد العزيز المقالح , الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن , ( بيروت : دار العودة , ط1 , 1974م ) , ص386-387 .
3- عبد الرحمن فخري , الكلمة والكلمة الأخرى , إضاءة نقدية على الأدب اليمني المعاصر , ( عدن : وزارة الثقافة , بيروت : دار ابن خلدون , ط1 ,1983م ),
ص 206 .
4- عبد الرحمن فخري , من الأغاني .. , مرجع سابق , ص 51 -53 .
5- المرجع السابق , ص 65 .
6- هتشنسون , معجم الأفكار والأعلام , ترجمة : خليل راشد الجيوسي , ( بيروت: دار الفارابي , ط1 , 2007م ) , ص 477 .
7- عبد الرحمن فخري , من الأغاني .. , مرجع سابق , ص 81-82 .
8- المرجع السابق , ص 17 – 19 .
9- عبد الرحمن فخري , الكلمة والكلمة الأخرى , مرجع سابق , ص 205 .
10- ناصر عراق , ” حوار لم ينشر من قبل مع الشاعر / محمود درويش ” , دبي الثقافية ( دبي ) , العدد 40 , ( سبتمبر 2008م ) , ص88 .
11- عبد الرحمن فخري , من الأغاني .. , مرجع سابق , ص 14 -15 .
12- حنا مينه يتذكر الماغوط اليراع المنضر , العربي ( الكويت ) , العدد 576 , ( نوفمبر 2006م ) , ص 94 .