كتابات

القرآن بين النص والخطاب "1"

سهير السمان
ليس من المختلف فيه أن محمد صلى الله عليه وسلم جاء ليعلي قيمة العقل، وينهي تحكم الإنسان بأخيه الإنسان ظلما وقهراً باسم معتقدات أو عادات وتقاليد وأعراف، ويبين في الوقت نفسه أن تلك العادات والأعراف إنما هي متوارثة من الأجداد والآباء، و طبيعة هذا المتوارث من الأعراف والتقاليد، إنما يتشبث بها الإنسان ليحفظ بها هويته وكيانه المندرجة ضمن جماعة ما.
إن قضية البقاء الإنساني ليست مرهونة بتشبثه الأعمى لتلك العادات والتقاليد والأعراف، بل إن قضية البقاء مرهونة بقبول الآخر والتفاعل مع المتغيرات.
وهذا ما جاءت به الرسالة الخاتمة، فختم النبوة ليست بمعنى أن هذا الدين الذي يدين به المسلمون الآن من طقوس وعبادات، وأحكام وشريعة هو الدين الذي يجب أن يكون عليه سائر الناس في مختلف أصقاع الأرض، بل ختم النبوة معناه أن الوحي توقف والغيبيات لن تعتمد – وهذا المعنى ما عرفناه عند المفكر الكبير محمد إقبال – وما سيكون هو العقل والمنطق الذي يُسير الحياة بمختلف جوانبها. فالإنسان هو الوحيد من الكائنات القادر بعقله أن يضع التشريعات والقوانين التي تناسب حياته ومجتمعه، وظروفه المحيطة، ولن يكون على الإنسان أن ينتظر القوة الغيبية ليعتمد عليها في تيسيير أموره وحل مشاكل حياته وأزماتها، فهنا العلم وحده والعقل الذي يتطور مع مرور الزمن، العقل المكتشف والمخترع، هنا ليست الحقيقة المطلقة بل هو قانون النسبية، لا تشريعات جبرية تظل مئات السنين ليتعامل بها الناس على أنها تشريعات ثابتة لا يمكن الاقتراب منها أو تطويرها أو استبدالها، أو تعطيلها إن لزم الأمر واقتضتها مصلحة الإنسان.
من هنا يجب علينا ان ننظر من جديد في النص القرآني، الذي كان خطاباً قبل أن يُجمع ويدون في مصحف، يجب أن ينظر إلى هذا الخطاب ” وهو المصطلح الذي يدل على نص ارتبط بالحال والمقام والسياق، والذي ينشأ من مرسل إلى متلقي عبر قناة اتصال معينة بمضمون رسالة محددة.
إذا نحن أمام نص نشأ سماعياّ وليس كتابياّ، حيث كانت الآيات فيه تتنزل متفرقة حسب الظرف والحدث التاريخي، ولم يتنزل نصا كتابيا مكتملا يتضمن تشريعات أبدية.
لذا فهو خطاب لم يكن يدون أول بأول أو تجمع آياته في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان قد طلب من صحابته أن يدونوه لما شُكلت لجنة في عهد عثمان بن عفان للنظر في الآيات التي كانوا يجمعونها من صدور الناس أو من الرقاع المشتتة إن وجدت عند بعضهم.
لننظر إذن إلى هذه الآيات في سياقها التاريخي، و ظرفها الاجتماعي والتحولات التي كانت تحيط بالمجتمع في تلك الفترة، علينا أن نرى إلى بنية الخطاب اللغوية والاجتماعية والمقامية، فما كان في الخطاب من صيغة أمر، إنما كانت موجهة ومحددة بظرف ومقام معين، نزلت فيه الآيات للتوجيه حسب ظرف المسار الاجتماعي.
أما حين وضع هذا الخطاب بين دفتي مصحف ليصبح نصاً أبديا، لا يجوز لنا أن نعيد قراءته أو أن ننظر في أوامره الموجهة في ذلك الوقت إلى أنها أوامر لا تسري الآن، ولا تناسب الظرف التاريخي الذي نمر به، أو ما ستمر به الأجيال القادمة، فهذا ما نستطيع أن نسميه موت النص.