كتابات

لغة الخرافة وميتافيزيقا التألُّه الشعري عند محمود الظهري

بقلم / سيف حسن أبوعلي

الجزء لأول:
إنّ أهم ما يميز القصيدة الحداثية عن غيرها من الأعمال الأدبية أنها تأتي دوما بالحديث المبتكر وتأني بما يثير دهشة القارئ وتسلب لبَّهُ من حيث إستخدام التراكيب اللغوية المعقدة اللامألوفة و غير المتوقعة حيناً او من حيث إبتكار محتواها السردي الدرامي واللغوي بكتلتهِ الشعريةِ على حدٍّ سواء، فيغدو الشاعر مهندساً جينيا يمتلك حق التلاعب بجينات اللغة فيقدم ما لا يتقدم ويؤخر ما لا يتأخر ويتألهُ تارَّةً فيغدو خالداً ويتماها ويندمج ويتحد مع المادةِ تارَّةً اخرى؛ فيبتدع حالة من الجنون المغاير وينطلق خيالهُ ليصنع من النصِ مخلوقاً فينيقياً خرافياً يعكس قدرتهِ الإبداعية بطريقةٍ مستقلة تميزهُ عن غيره من المبدعين في شتى مجالات الأدب. وعلى الرغم من حقيقةِ تفاوت هذه القدرة من مبدعٍ لآخر ولا سيما في جيل الألفيين والشباب، الاّ ان هناك عدد من الإبداعاتِ الشبابيةِ الرائعة التي استطاعت أن تقدم نماذجاً شعريةً حداثيةً غايةً في الجمال تعكس قدراتهم الجبارة لغوياً و شعرياً أدبياً. من هذه النماذج العملاقة في الوسط الأدبي اليمني يتربع الشاعر الفذّ محمود الظهري على عرش من عروش الإبداع ممسكاً بصولجانهِ اللغوي الأدبي الذي يتسم بعبقريتهِ الفذةَّ فيسطِّرُ من خلالهِ أيآت ابداعهِ و يغوص في حقول الميتافيزيقيا والتألُّه الشعري فتثمرُ ابداعاً متفدا فنجده يطلق في جمجمتهِ جنيات عرايا و جنيات شواعر واصوات كلاب بوليسية و سلسلة من الأحداث المثيرة التي تعكس ما ينتابه حيت تتلو عليهِ شياطين الشعر وما تعتريهِ من الهلوسة البصرية والسمعية مخلوطة بمفردات اللغة الرقمية وهوس التواصل الاجتماعي الذي يعكسهُ ويصوغهُ في جسد قصيده.
تتجلى خرافة اللغة ولغة الخرافة بشكلٍ واضح في آنِِ واحد متمثلةً في نصوص عدّة للظهري منها نص بعنوان قصيدتان يبدأ النص في المقطع الأول للقصيدة بقوله:

بلا عَصا أقف في هذا المنحنى كنبيّ
أرعى قطيعاً من الجبال ..
أبسط يدي فتتسابق القمم الى كفي ..
ومع هذا أنفق على سهل فقير وأتبنى هضبة يتيمة ..
وأواسي غابة أرملة وأربّي زوجين من الأودية ..
وأبتسم للمدائن القريبة وألوح للشاطئ البعيد ..

في هذا النص يبدأ الشاعر نصه بحالة من التجرد المعنوي لحالة التسلط حيث يستخدم حرفي “بلا” ليثبت حالة التجرد من سلطة الإكراهِ وسلاح الترهيب التي يرمز لها بالعصى، فيرسم لنا الشاعر بريشة الفنان المتمكّن صورةً مجازية فنية غايةً في الجمال؛ صورة خرافية لكهنوت الشاعر الأعظم الذي يقف في ذاك المنحنى كنبيّ و إن تخلى عن عصاه الا انه يبقى واقفا بثبات ليشرف على جغرافيتهِ وملكوتهِ فهو يرعى قطيع من الجبال وفي هذا السطر يقتبس الشاعر مجازيا صورةً لنبي الله موسى الذي استخدم عصاه ليهش بها على غنمهِ التي اعتاد ان يرعاها و كان له فيها مآرب اخرى، الاّ ان الشاعر يرسم لنا صورة مغايرة لهذا النبي فهو لا يرعى قطيع من الاغنام بل قطيع من الجبال والتي يمكننا ان نعتبرها مجازيا رعاية للقمم الشاهقة وكأنه يصف بشيئ من التأله حالة عظمة وانتشاء لا تضاها لحالة الوصول الى مرحلة الكمال والألوهية فهو أعلى من هذه القمم وهو من يرعاها. ويبدو ذلك جلياً في السطر التالي حيث يبسط يده فتتسابق الى كفه تلك القمم، وفي هذا الاقتباس المعنوي للأية الكريمة آية 64 من سورة البقرة وقوله تعالى: ” قالت اليهود يد الله مغلولة غلّت ايدهم ولعنو بما قالو بل يداه مبسوطتان ينفق حيث يشاء” صدق الله العظيم. وهنا يؤكد الشاعر الوهيته للقصيدة فهو يعتبر نفسه رب هذه الصور الجمالية ومبدع جمالياتها وبالتالي فهو يبسط يداه كل البسط فينفق ويحسن كالإله. ويبدو ذلك واضحا في باقي السطور حيث يؤكد لنا الشاعر إحسانهُ في التعامل مع مخلوقاته بحسب النص و حبهُ لهم فهو مع ذلك ينفق على سهل فقير، ويتبنى هضبة يتيمة، و يواسي غابة ارملة، ويربي زوجين من الأودية، ويبتسم للمدائن القريبة، و يلوح للشاطئ البعيد.
وبشكل عام يمكننا القول ان هذا المقطع من القصيدة يمثل حالة من التفرد في هندسة السرد الشعرية وبناء الدراما الشعرية فيقدم لنا الشاعر سردا سلسا تُتوِّجهُ مجموعة من الأحداث التي تتسم بالهدوء الحركي و جياشة العاطفة و الحب.

وفي المقطع الثاني من القصيدة يقول الشاعر:

أنا صاحب هذا الكهف
الباسط يديه في الأعالي أشغل هذا الحيز منذ أن كان رسمة في كراسة الغيب كأني الماسح الكوني لهذه المرتفعات .
أنتبذ هذه الزاوية القصية من هذا العالم أقرض الشمس مايكفيها من القصائد وأصفي عمري من شوائب الأزمنة وأغسل الغيم الذي يمر متسخاً بدين أهل المدينة..
أستند على شاهقات اللغة المستخلصة من الزهور الشعروعطرية أتناول ” القات ” وأدخن الممنوعات المجازية التي لاتمسها أنامل العرّافيين ولاتدركها خواطر الجنيات الشواعر .
وحين تأتي ” الساعة السليمانية ” وتشرق شمس معارفها في مخيلتي تكتمل القصيدة وينتابني الهدوء المقدس وأصلي لكي يصير العالم أخضر گ كرة القات التي في فمي .

وفي هذا المقطع يفاجئنا الشاعر بتخليه عن فكرة النبوة والتألُّه لينتقل الى مرحلة اخرى لا تشبه سابقتها. فهو الآن يدعي انه هو صاحب هذا الكهف. وعند التمعن في النص نلاحظ ان الشاعر قام مرَّةً أخرى بالإقتباس الدرامي الديني ويتجه هنا لقصة أصحاب الكهف التي ذكرت في القرآن الكريم والتي سميت بسورة الكهف نسبة لقصة الفتية المؤمنين أصحاب الكهف اللذين لجأوا للكهف هروبا من اهل المدينة أن يردوهم عن دينهم الى الالحاد والكفر.
اذا فهو يؤكد انه هو صاحب هذا الكهف، الذي يشغل هذا الحيز من الكون منذ ان كان رسمة أولية في كراسة الغيب. هنا نجد ان الشاعر يرسم لنا بصورة مدهشة صورة فنية بديعة غايةً في الروعة والجمال لما يتخيله من سلطته على الطبيعة وهذه المرتفعات.
وفي هذا الكهف يصف لنا الشاعر حالته في فهو ينتبذ هذه الزاوية القصية من هذا العالم يقرض الشمس ما يكفيها من القصائد. وهنا يستخدم الشاعر لفظ يقرض الشمس بعكس ما جاء في النص القرآني في الآية(17) من سورة الكهف في قوله تعالى: (وترى الشمس اذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين واذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه) صدق الله العظيم. وهنا يأتي معنى اللفظ تقرضهم بمعنى تتركم الى جهة اليسار فلا تطأهم الشمس ولا تحرقهم حرارتها، بينما يستخدم الشاعر هذا اللفظ بمعنى آخر وهو اعطاء القرضة او عطاء الشيء للآخر؛ فهو يعطي الشمس ويهديها ما يكفيها من القصائد ويصفي عمرهُ من شوائب الأزمنةِ ويغسل الغيم الذي يمر متسخا بدين اهل المدينة. وفي هذه الجزئية يبين لنا الشاعر قدراته الخرافية في اقراضه للشمس بضع من قصائده ويصفي عمره من شوائب الأزمنة وكأنه يقول انه يعاصر بعمره الأبدي عددا من الأزمنة وكأنه إلاها خالداً والذي جعل من عمره عرضة للشوائب التي لابد ان تصفّى، ولقدراتهِ الخرافية فهو يغسل الغيم الذي يمر بجانبه متسخا بدين أهل المدينة الذي يتسم بالكفر والإلحاد، وكإنه يغسله بالايمان والحب من خلال نصوصه الشعرية وقصائده.. وهو بهذا يستند الى شاهقات اللغة التي يستخلصها من الزهور الشعروعطرية و يتناول “القات” ويدخن الممنوعات المجازية التي لاتمسها أنامل العرافين ولاتدركهاخواطر الجنيات الشواعر. وفي هذا التمرد اللغوي الجبار نلحظ ان الشاعر استطاع بتفرد عجيب إستخدام وتطويع مفرداتهِ اللغوية الجريئة ليبني بها شاهقات لغوية يستند اليها في تنفيذ هذا المهمة الجبارة أي غسيل الغيم المتسخ بدين اهل المدينه. وبالعودة الى هذه الشواهق نجد ان الشاعر يرسم لنا صورة رائعة تتمثل في قدرته بأنه يقوم بتطويعها فتغدو ممنوعات مجازية يدخنها وهذه الممنوعات المجازية بعيدة عن الكفر على حد تعبيره فلا تمسها أنامل العرافين ولا تدركها خواطر الجنيات الشواعر.

ويستطرد الشاعر فيكمل نصه بقوله:
وحين تأتي ” الساعة السليمانية ” وتشرق شمس معارفها في مخيلتي تكتمل القصيدة وينتابني الهدوء المقدس وأصلي لكي يصير العالم أخضر گ كرة القات التي في فمي.
هنا نجد ان الشاعر يصف حالة من النشوة العجيبة والتي قد تكون بسبب تناوله للقات (نبات يتم تناول اغصانه واوراقه الطرية وتخزينها في الفم في بعض دول افريقيا واليمن وقد تم ادراجه مؤخرا في مجموعة الإمفيتامين في الولايات المتحدة الأمريكية باعتباره من المواد المخدرة على الرغم من اختلاف تركيبته العضوية عن مواد الإمفيتامين في السلسة الأخيرة من البنية العضوية للمادة علميا والتي تهب متناوليه حالة من النشوة البسيطة والنشاط الجسدي). وفي هذه النشوة التي سماها الشاعر بالساعة السليمانية وهو وصف متداول بين متناولي القات يصف حالة النشوة عند تعاطيه ونسبتها الى نبي الله سليمان الذي استخدم الجن وكل قوى الميتافيزيقيا الخارقة في فترة نبوته وربطها بعبارة “تشرق شمس معارفها” (اشارة الى كتاب شمس المعارف المستخدم لتحضير واستحضار الجن واستخدامهم كقوى خارقه وبالتالي استخدام السحر)، وبالتالي نجد ان الشاعر تعمد استخدام مفردات ممارسات الشعوذة والطقوس السحرية في قصيدته فقط كي تشرق شمس معارفها في مخيلتهِ لتكتمل القصيدة وبالتالي ينتابه حالة من الهدوء المقدس و يصلي ليصير العالم اخضر گ كرة القات التي في فمه!!
وهكذا يمكننا القول ان الشاعر تعمَّد أن يختتم قصيدته بدعوةٍ لممارسة طقوسهِ الخاصة بشعوذة الفكرة واستحضار القوى الخارقه لفرض حالة من ميتافيزيقا التألُّه الشعري وممارسة السحر لغة وتصويرا.
وعلى الرغم من هذا الإبداع السحري للظهري الا انه يمكننا ان نإخذ عليهِ غياب تركيزه عند الكتابة في بناء الأسطر للقصيدة و إسهابهِ في إطالة الأسطر وتكرار استخدام حرف الوصل الواو وعدم التلاعب في طول وقصر السطر بما يتناسب مع تركيب العبارات وتوظيفها توظيفا لغويا موسيقيا يتناسب مع تأثير الفعل او العبارة او الجملة في السطر. فعلى سبيل المثال يمكننا اعادة كتابة القصيدة كالتالي:

” قصيدتان ”
1
بلا عَصاً
أقف في هذا المنحنى كنبيٍّ؛
أرعى قطيعاً من الجبال
أبسط يدي..
فتتسابق القمم الى كفي !!
ومع هذا:
-أنفق على سهل فقير
-أتبنى هضبة يتيمة
-أواسي غابة أرملة
-أربّي زوجين من الأودية ..
-أبتسم للمدائن القريبة
وألوح للشاطئ البعيد ..
2
أنا صاحب هذا الكهف
الباسط يديه في الأعالي
أشغل هذا الحيز
منذ أن كان رسمة في كراسة الغيب؛
كأني الماسح الكوني لهذه المرتفعات!!
أنتبذ هذه الزاوية القصية
من هذا العالم
أقرض الشمس مايكفيها من القصائد؛
أصفي عمري من شوائب الأزمنة
وأغسل الغيم الذي يمر متسخاً
بدين أهل المدينة..
أستند على شاهقات اللغة المستخلصة من الزهور الشعروعطرية
أتناول ” القات ”
وأدخن الممنوعات المجازية التي لاتمسها أنامل العرّافيين..
ولاتدركها خواطر الجنيات الشواعر .
وحين تأتي ” الساعة السليمانية ”
تشرق شمس معارفها في مخيلتي..
تكتمل القصيدة؛
وينتابني الهدوء المقدس
و أصلي
لكي يصير العالم أخضراً
گ كرة القات التي في فمي .

وفي نصوص اخرى يؤكد لنا الشاعر محمود الظهري تيههُ وولوعهُ بالميتافيزيقا اللغوية واستحضار الخرافة والقوى الخارقة ومستلزماتها بين أسطر القصيدة. فها هو ذا يطالعنا في نص آخر بقوله:

عالق في أكبر ورطة في التأريخ ..
– بين نهدين –
الأيمن شمس المعارف الكبرى
والأيسر المندل السليماني الكبير ..
الطوالع الحدسية للكون كله
في فمي الآن ..

هكذا يصف الشاعر ورطته الكبرى فهو عالق بين الكتب الأشهر تاريخيا في استحضار القوى الخارقه من الجن، الايمن شمس المعارف الكبرى والأيسر المندل السليماني الكبير؛ وكأنه يعترف بتورطه في ممارسة طقوس السحر و استحضار الجن من خلال الكتابة بالدرجة الاولى .