سرقات محمود درويش

سامي مهدي


كان محمود درويش من أكثر الشعراء العرب استخداماً للتناص في شعره ، بل ربما هو أكثرهم في ذلك . فالتناص ، بأشكاله وصيغه المختلفة ، كان إحدى تقنياته الرئيسية في بناء قصائده ، حتى لا تكاد تخلو منه أية قصيدة ، وخاصة في مراحل شعره المتأخرة . ومصادر تناصات درويش كثيرة ومتنوعة : تاريخية ، ودينية ، وأسطورية ، وأدبية ، وفكرية ، وثقافية شعبية ، وغيرها ، وهي مصادر قديمة وحديثة ، عربية وأجنبية ، وهذا مما أكسب شعره غنى ثقافياً ومعرفياً وفتحه على آفاق دلالية رحبة .
والتناص النصي أحد أشكال التناص التي يستخدمها درويش في شعره ، وهو يستخدمه بكثرة واضحة ، فيقتبس عبارات ومقولات ، وأبياتاً شعرية ، أو أجزاء من أبيات ، وأمثلة ، وحكماً ، وعناوين كتب وقصائد ، وغير ذلك ، ويدمجها بقصائده . وربما كان الشاعر عبد الوهاب البياتي معلمه الأول في هذا المجال ، فقد كان أول من أثر في شعره من الشعراء المحدثين .
وليس درويش وحده من استخدم هذا الشكل من التناص ، فقد استخدمه كل الشعراء ، ولكن الفرق بينه وبين الآخرين أنه أكثر من استخدامه حتى ظهر من يتهمه بالسرقة . أما متهموه فهم ، في الغالب ، شعراء فلسطينيون من جيل تلا جيله . وقد نشأ جدل طويل حول ذلك . وذُكِرت في هذا الجدل أسماء الشعراء : سالم النبريص ، وموسى حوامدة ، ومحمود حامد ، ومحمد ضمرة ، وعلي فودة ، ومحمد القيسي . فأفاد النبريص في شهادة له بأن درويش أخذ منه عبارتين ، وقال موسى حوامدة في أكثر من مقال إنه سرق من إحدى قصائده مقطعين ، وصرح محمود حامد لوكالة أنباء الشعر (؟) أنه أخذ منه عنواني قصيدتين من قصائده ، وذكر حوامدة عبارتين قال عن إحداهما إن درويش أخذها من علي فودة وقال عن الأخرى إنه أخذها من محمد ضمرة ، ثم ذكر عنوان ديوان لمحمد القيسي قال إن درويش أخذه في مطلع قصيدة من قصائده .
ويلاحظ أن هذه الاتهامات وجهت إلى درويش تحت شعار : مراجعة شعره ونقده ، فمتهموه يقولون : إن درويش ليس صنماً مقدساً بل شاعر كسائر الشعراء ، يمكن أن يدرس شعره ويراجع وينقد وتكشف عيوبه . ومع أن مبدأ المراجعة جد صحيح من حيث المبدأ ، وأنا متفق معهم فيه تمام الاتفاق ، ولي آرائي الخاصة في شعر درويش ، ولكن اللافت للنظر أن اتهامه بالسرقة لا يحدث ضمن نطاق مراجعة نقدية فنية وموضوعية شاملة لشعره ، بل يحدث ضمن إطار حملة ذات طابع تشهيري تبدو ذاتية الدوافع أحياناً . وهذه الحملة تخبو مرة وتستعر مرة أخرى ، ويصرح أصحابها بأن درويش كان يأخذ من الشعراء العرب والأجانب أيضاً ، وليس من الشعراء الفلسطينيين فقط ، مع أنهم يعترفون بأنه شاعر كبير وصانع ماهر .
ولست أريد هنا ، في أية حال ، أن أدخل دهاليز هذه الحملة وأبحث عن خلفياتها وأخوض في مياهها العكرة فأكون طرفاً من أطرافها ، ولا أن أدخل في مزايدة أو مناقصة مع أحد في تقدير مكانة درويش الشعرية ، بل أريد فقط أن أناقش موضوعاً أدبياً خالصاً هو : اتهام هذا الشاعر بسرقة نصوص من آخرين وضمها إلى شعره دون أن يشير إلى مصادرها . فأنا أرى أن درويش لم يتجاوز حدود مفهوم التناص في كل ما اقتبسه من غيره وضمه إلى شعره ، وأن الذين يوجهون إليه هذا الاتهام هم مخطئون ، في أفضل الأحوال ، وإلا فهم مغرضون . وأحب أن أوضح ، قبل الدخول في هذا النقاش ، أن قناعتي ببراءة درويش من هذا الاتهام ليست صادرة عن علاقة ربطت بيني وبينه ، أو عن إعجاب خاص بشعره ، أو عن توافق فكري أو سياسي معه ، أو عن عاطفة إنسانية شخصية حملتها له عن بعد ، بل هي صادرة فقط عن رغبة في تكريس القيم والمعايير النقدية الصحيحة في حياتنا الثقافية ، ولا شيء سواها .
ويبدو لي ، بعدَ نظر وتدبّر ، أن الذين يتهمون درويش بالسرقة من شعر الآخرين لا يميزون تمييزاً دقيقاً بين ( التناص ) و ( السرقة ) في ما يكتبونه عنه ، عامدين كانوا أم غير عامدين . فهم يعدون كل اقتباس أو تضمين ( سرقة ) وحجتهم في ذلك أن درويش لا يشير إلى المصادر التي يقتبس منها . وهذه حجة مردودة لأن الشاعر ، أي شاعر ، عربياً كان أم أجنبياً ، غير ملزم بالإشارة إلى هذه المصادر ، سواء أكانت معروفة على نطاق واسع ، كالقرآن الكريم والتوراة والشعر القديم ، أم كانت غير معروفة إلا لدى المختصين ، والأمثلة على ذلك كثيرة في الشعر العربي والشعر العالمي .
أعرف أن الشاعر الإنكليزي تي أس إليوت قد فعلها فأثقل بعض قصائده بالهوامش ، ولكن ما التزم به هذا الشاعر لم يكن ملزماً لغيره . والكشف عن المصادر التي يقتبس منها الشاعر هو من مسؤوليات النقد أولاً ، والنقد هو الذي يفرز بين ( التناص ) و ( السرقة ) وليس الإدعاءات الشخصية .
ويلاحظ في ما يكتبه متهمو درويش أنهم يتجاهلون تماماً مسألة أساسية عند توجيه اتهامهم إليه هي : كيفية تصرفه بما يقتبسه من غيره ، أعني كيفية توظيفه إياه في قصائده ، فنياً ودلالياً ، ومدى نجاحه أو إخفاقه في هذا التوظيف . فهم يتحدثون بلغة تعميمية تضلل جمهور القراء فيقول قائلهم ( إن في خبزه الكثير من قمح الآخرين ) دون أن يحددوا كمية هذا القمح ووزنه النوعي في خبزه ، وهم يسرفون في أحاديثهم كما لو أن حياته الشعرية ومكانته كانتا تتوقفان على ما أخذه من هذا أو ذاك ، وأنه ما كان ليكون شاعراً كبيراً بدونه . وهذا ما يتضح من سلسلة مقالات أسبوعية كتبها تباعاً الشاعر موسى حوامدة في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الأردنية . وسأتخذ هنا من هذه المقالات أساساً لمناقشة الموضوع .
في إحدى هذه المقالات اتهم حوامدة درويش بالأخذ من التوراة فقال : إن درويش ( نقل مقاطع كاملة من التوراة باعتبارها من تأليفه ، أي من دون إشارة إلى المصدر ، لا من قريب ولا من بعيد ) وجاء بمقاطع وأبيات من ( جدارية محمود درويش ) وقارنها بنصوص من الإصحاح الأول من سفر الجامعة دعماً لرأيه . والواقع أن درويش لم ينقل ( كل ) ما اقتبسه من سفر الجامعة نقلاً حرفياً بل ( القليل ) منه فقط ، فقد تلاعب بما اقتبسه وحرف صياغاته قليلاً أو كثيراً ، وأخضعه للوزن إلا ما تعذر عليه ، وقاطعه بعبارات من عنده ، وجعله في خدمة نصه الشعري ، وقد خدمه من دون ريب . وليس صحيحاً أن درويش لم يشر إلى سفر الجامعة ( لا من قريب ولا من بعيد ) كما قال الشاعر حوامدة ، بل هو أشار إليه مرتين في متن القصيدة : مرة قبل أن يبدأ الاقتباس ومرة في نهايته ، ولذلك مغزاه الواضح .
وفي مقالة تالية ذكر الشاعر حوامدة أن درويش أخذ من شعر نيتشه ، الفيلسوف الألماني ، عبارة ( على الأرض ما يستحق الحياة ) وهذا صحيح ، ولكن درويش انحرف باتجاه هذه العبارة واستوحى منها قصيدة مهمة ، وحولها من عبارة طافية في قصيدة ، وضائعة في ديوان منسي لشاعر أجنبي ، إلى ( شعار عربي ) جميل يتردد على الألسنة باعتراف حوامدة نفسه . وهذا ومثل هذا ما ينبغي للتناص أن يحدثه ، وإلا فلن تكون له أية أهمية .
وفي مقالة أخرى جاء حوامدة بعدد من عناوين الكتب والقصائد والدواوين وقال إن درويش أخذها من أصحابها ، فذكر مثلاً عنوان رواية الكاتب الياباني جوينشيرو تانيزاكي ( مديح الظل ) وجعله عنواناً لأحدى قصائده ، وهذا صحيح أيضاً ، ولكن درويش لم يأخذ العنوان بنصه بل أضاف إليه كلمة أخرى فأصبح ( مديح الظل العالي ) وهذه الإضافة ليست اعتباطية بل لها مغزاها في قصيدته ، وهو لم يكتب تحت هذا العنوان رواية يقلد فيها رواية هذا الكاتب ، أو يستلهم روحها وفلسفتها ، بل كتب قصيدة طويلة ذات منحى مختلف كلياً عن منحاها ، وروح تختلف عن روحها ، فأعطانا ( عملاً درويشياً ) بامتياز .
وفي المقالة نفسها حاول حوامدة أن يقنعنا بأن درويش اقتبس عنوان قصيدته ( جدارية محمود درويش ) من مصدرين هما : عنوان قصيدة أدونيس ( هذا هو اسمي ) و عنوان قصيدة سعدي يوسف ( جدارية فائق حسن ) وهذا منتهى التعسف . فإعلان الشاعر عن اسمه في عنوان قصيدته ، أو في متنها ، ليس بدعة أدونيسية ، بل سكة مطروقة من قبل الشعراء منذ العصر الجاهلي حتى اليوم ، وبالتالي لا يحتاج درويش أن ينظر في شعر أدونيس حتى يطرق هذه السكة . ثم أن أدونيس أعلن اسمه في متن قصيدته وليس في عنوانها ، وهو لم يعلن اسمه الكامل بل اسمه الأول فقط ، والفرق بين قصيدته وقصيدة درويش بعيد وواضح . أما قصيدة سعدي فقد استلهمت جدارية حقيقية للفنان العراقي الراحل فائق حسن ، وموضوع هذه الجدارية والقصيدة التي استلهمت منها هو موضوع وطني وإنساني ( كغورنيكا بيكاسو ) وهو بعيد جداً عن موضوع قصيدة درويش الذاتي الخالص . وبعد هذا ليس من المعقول أن نتهم درويش بأنه فكر بعنواني قصيدتين مختلفتين لشاعرين آخرين لكي يصوغ من كلماتهما عنوان قصيدته !
ويعطينا الأستاذ حوامدة مثلاً آخر مما أخذه درويش من غيره هو عنوان كتابه (أثر الفراشة) . ويخبرنا بأن ( أثر الفراشة ) نظرية ابتكرها إدوارد لورينتز عام 1963 . ولكنه لا يقول شيئاً عن هذه النظرية ، ولا يوضح لنا كيف اقتبس اسمها درويش . ونظرية لورينتز هذه نظرية فيزياوية _ فلسفية ، والاسم الذي أطلق عليها هو تعبير مجازي يستخدم لوصف العلاقات والتأثيرات المتبادلة التي تنجم عن ( حدث بدئي ) قد يكون بسيطاً ( كخفق جناح الفراشة ) ولكنه يولّد سلسلة متتابعة من النتائج والتطورات تفوقه بحجمها وتأثيرها إلى حد كبير ، لتفضي بشكل غير متوقع إلى حدث جسيم يقع في مكان بعيد ، وقد يكون بعيداً جداً ، عن مكان الحدث البدئي . أما درويش فكتب لنا بهذا العنوان ( أثر الفراشة ) قصيدة تأملية هي واحدة من عشرات القصائد والقطع النثرية التأملية التي كتبها ونشرها في دواوينه وكتبه ، ثم جعل عنوانها عنواناً لكتابه . وقد يكون عنوان نظرية لورينتز هذه هو الذي أطلق شرارة قصيدته أو لا يكون ، ولكن شتان بين هذه وتلك في الحالتين . فالقصيدة قصيدة والنظرية العلمية نظرية علمية ، وهما من طبيعتين مختلفتين .
ثم يخبرنا الأستاذ حوامدة أن درويش أخذ عنوان فيلم للمخرج اليوناني اليساري كوستا غافراس هو ( حالة حصار ) وجعله عنواناً لديوان له من دواوينه . ولكن علينا أن نسأل : هل ثمة علاقة بين هذا الفيلم وهذا الديوان ؟ والجواب لا ، فالفيلم فيلم وديوان الشعر ديوان وكلاهما من طبيعتين مختلفتين ، ولكل من غافراس ودرويش موضوعه الخاص المعبر عن هذا العنوان . هذا إذا افترضنا أن درويش أخذ عنوان ديوانه من غافراس . ولكن ألا يجوز أن يكون درويش قد استلهم عنوان الديوان من طبيعة موضوعه ؟ ثم هل أن تعبير ( حالة حصار ) أصبح حكراً لغافراس ، فلا يخطر ، أو لا ينبغي له أن يخطر ، في ذهن أحد غيره ؟ يوم فرضت الدول الاستعمارية الحصار على العراق عام 1990 واستمر هذا الحصار ثلاثة عشر عاماً ، يومها أصبح الحديث عن ( حالة الحصار ) حديثاً يومياً في الصحافة العراقية كما هو الحال في غزة في ما بعد ، أي أن هذا التعبير تعبير شائع متداول ، لا يحتاج إلى عبقرية خاصة حتى يتوصل إليه فلسطيني أو عراقي أو سوري أو أي مواطن عربي .
ويذكر حوامدة أن درويش أخذ من الشاعر محمد ضمرة عنوان قصيدته ( أحد عشر كوكباً ) وجعله عنواناً لأحد دواوينه ، مع أننا نعرف جميعاً أن هذه العبارة وردت في سورة يوسف في القرآن الكريم ، وأن ضمرة نفسه اقتبسها من هناك . وينقل حوامدة عن تصريح للشاعر محمود حامد أن درويش أخذ عنواني قصيدتين من قصائده هما : في حضرة الغياب ، وسلام أيها المارون . ولم يعط حوامدة تفاصيل أخرى في ما نقله . أما العنوان الأول فقد اكتشفت أن درويش جعل منه عنواناً لكتاب نثري من كتبه ، أي أنه لم يضمه إلى شعره ، وهذا فرق مهم . وزيادة على ذلك أن مفردتي : الحضور والغياب صارتا تترددان كثيراً في الكتابات العربية الأدبية وغير الأدبية ، بصيغ مختلفة ، منذ أن اطلع المثقفون العرب على فلسفة هايدغر وتفكيكية جاك دريدا ، وليس لأحد أن يدعي أن هذه الصيغة أو تلك من تلك التي ترد فيها هاتان المفردتان أنها له وحكر عليه . أما عن عنوان (سلام أيها المارون) فلم أجد ما يهديني إليه لأرى رأيي فيه .
هذا عن العناوين ، أما عن العبارات فيخبرنا حوامدة أن درويش أخذ من الشاعر الراحل محمد القيسي عنوان ديوانه ( راية في الريح ) ثم وضع قبلها الحرف ( لا ) وجعلها في مطلع قصيدة له عنوانها ( لا راية في الريح ) ، ولكن فاته ما أحدثته هذه الـ ( لا ) من نقض للمعنى ومن معارضة وتحويل للاتجاه ، كما ينبغي للتناص أن يفعل في أحد مسوغاته . ثم يخبرنا أن درويش أخذ منه شخصياً وحرفياً ( مقطعين ) من كتابه ( تزدادين سماء وبساتين ) فإذا بالمقطعين هما عبارة واحدة هي ( لم يبق منك سواي ، ولم يبق مني سواك ) ولكنه جزأها جزأين وجعل من كل جزء مقطعاً ، كما لو أنه أراد التكثير والتهويل . غير أنني لم أستطع أن أرى كيف تصرف درويش بهذه العبارة ، لأن كتاب حوامدة غير متوفر لدي ، ولأن عليّ أن أعيد قراءة ديوان درويش ( سرير الغريبة ) كله حتى أعثر على نص العبارة لأنظر وأقارن وأرى . وأظن أن درويش لم يأخذ من الشاعر محمد ضمرةمطلع قصيدته ( لا شيء يعجبني ) . فهذه عبارة شائعة تتداولها الألسن تداول الأمثلة السائرة ، فهي تستخدم كثيراً في حياتنا اليومية ، وهي مما يعدها النقاد العرب القدامى ( معاني مشتركة ) وهي لا تعد من ( السرقات الشعرية ) باتفاقهم جميعاً . وإذا افترضنا أن درويش قد قرأ قصيدة ضمرة وعلقت هذه العبارة بذهنه فأخذها واعياً أو غير واع ، فإنه كتب قصيدة أخرى مختلفة عن قصيدته ، قصيدة أرحب أفقاً وأعلى فناً ، فصيدة لا تعبر عن حالة نفور شخصي كفصيدة ضمرة ، بل تعبر عن نفورنا العام المشترك وحيرتنا الوجودية وضيفنا بحياتنا اليومية الشاقة وأوضاعنا العامة المتردية . ودرويش لم يضع هذه العبارة بين قوسين اعترافاً منه بالأخذ كما ذهب الأستاذ ماجد جابر، بل لأنها ( مقول القول ) كما يقول اللغويون .
الشاعر سالم النبريص كتب تعقيباً على مقال الشاعر حوامدة نشر هو الآخر في جريدة الدستور فاستخدم في تعقيبه كلمة ( الأخذ ) ولكنه كان يعني السرقة ببعديها الأدبي ( الفني ) والأخلاقي ، في ما أحسب . فتحت عنوان ( في خبزه الكثير من قمح الآخرين ) قال ( درويش أخذ الكثير من الشعراء الآخرين ، سواء أكانوا عرباً أم أجانب . وهذا موضوع قديم ، يعرفه كل متابع نزيه. ولا يتفّرد به وحده ، فنحن جميعاً بشر نتأثّر بما نقرأ . حتى أنني قلت في زمان قديم وفي ندوة ثقافية بغزة ، إنّ في خبزه الكثير من قمح الآخرين ، لكنه خبّاز ممتاز على أي حال ) ثم أضاف ( أخذ شخصياً منّي ، وفي موضعيْن . ربما عن توارد خواطر ، وربما لا ) . وللتدليل على ذلك ذكر أن درويش أخذ عبارة ( ليت الفتي شجرة ) من قوله ( ليت الفتى حجرُ ؟ / .. عاشوا وما قدروا ! / ليت الفتى شجرة / يعطي .. وينتظرُ / من قاطفٍ .. حَجَرَهْ! ) . ثم قال موضحاً ( أظنّ أن درويش استخدم “ليت الفتى شجرة” في كتابه “أثر الفراشة” الصادر عام 2008. أما الموضع الآخر، فهو عن الماعز الجبلي ، ولا توجد لديّ الآن نسخة من الكتاب ، فأنا أكتب هذا التعقيب من الذاكرة ، بعيداً عن كتبي ومكتبتي ) . . ( عموماً كلنا نتأثّر، وهذا ليس بجديد على عالم المبدعين . وكما قلت لك ، إنني أكتب من الذاكرة ، وعليه ، فأتذكّر اللحظة، أنّ درويش أخذ من الشاعر أمجد ناصر أيضاً. ولو كانت لديّ كتب الإثنين، لأثبتّ لك ولجمهور القرّاء الكرام ) .
يلاحظ أن الشاعر النبريص ، وإن حاول أن يستخدم لغة متحفظة ، كان مباشراً في اتهام درويش بالأخذ منه ، فأفاد بأنه أخذ منه في موضعين : موضع حدده ، وآخر لم يستطع تحديده لأنه بعيد عن كتبه ومكتبته كما قال ، ولكنه أعطانا إشارة إليه ( فهو عن الماعز الجبلي ) . وحين عدت إلى كتاب درويش ( أثر الفراشة ) وجدت فيه قطعة عنوانها ( ليت الفتى شجرة ) تحدث فيها عن فضائل الشجرة ، وختمها بقوله : وقديماً قال الشاعر ( ليت الفتى حجر ) وليته قال ( ليت الفتى شجرة ) . وأنا أتساءل الآن : ألا يمكن أن يكون هذا مجرد تداعٍ ، أو توارد خواطر استدعته طبيعة الموضوع ؟ ألم يحتمل النبريص نفسه أن تكون العبارة قد حضرت درويش عن هذا الطريق ؟ الطريف أن هذه القطعة هي من قطع درويش التأملية النثرية الكثيرة وليست من قصائده الشعرية ! أي بمعنى أن درويش لم يستخدمها في شعره بل في نثره . أما عن الموضع الثاني الذي أشار إليه النبريص بدلالة ( الماعز الجبلي ) فلم أعثر عليه في كتاب درويش ( أثر الفراشة ) برغم أنني راجعته وقرأته مرتين .
والآن ، بعد هذا الاستعراض الطويل ، أذكّر بأنني قلت : إن درويش استخدم في شعره أشكال التناص المختلفة ، ومنها ( التناص النصي ) . وقلت : إنه كان يستخدمه بكثرة ، فيقتبس عبارات ، وأبياتاً شعرية ، أو أجزاء من أبيات ، وأمثلة ، وعناوين كتب وقصائد ، وحكماً ، وغير ذلك ، وهو يدمج ما يقتبسه بقصائده بعد تحويل اتجاهه ، لتوسيع أفق القصيدة الدلالي وإثرائه ، بل هو يجعل ما يقتبسه أغنى مما هو عليه في نصوص الآخرين في كثير من الأحيان .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*