كتابات

سُميْمِيعُ الندى

   

سامح درويش

في احتفالية توقيع أول ديوان هايكو لرشيد قدوري أبو نزار

    حين بدأت أقرأ لرشيد قدوري قصائد هايكو هنا وهناك على صفحات الهايكو الفيسبوكية المتناسلة على الشبكة العنكبوتية، كنت أعرف رشيد واحدا من جماعة ” المهلوسين” المغاربة وهي موجة شبابية رافضة لمختلف أنماط الخطاب النمطية في الكتابة والحياة في أبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية، إذ يعتبر أبو نزار ” الهلوسة خطاب رفض ممزوج بالسخرية المرة يصارع الأفكار الشاذة والظواهر المشينة التي تطفو على الحياة الثقافية خاصة، إنها ” جنون العقلاء وحلقة من السخرية الصادمة التي تكسر الطابوهات ” ، وتطمح إلى إحداث التغيير.

   تلك هي الخلفية التي جاء بها رشيد قدوري إلى الهايكو، ليمزج السخرية بالاستنارة والتأمل، وينقل المشاهد والمواقف من أزمنتها المختلفة إلى آنيتها ودهشتها الصاعدة من نبض الحياة والمجتمع، وذلك هو الوازع التواق إلى التغيير الذي قاد ” المهلوس” إلى نسب” الهايجن” ، بالرغبة ذاتها في خلخلة البنى الثقافية، وتجريب أشكال في الكتابة تساهم في طرح أسئلة الحداثة على المنجز الإبداعي الأدبي، والإقدام على ترجمة التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع العربي ومنه المغربي عبر مقترح جمالي يحول وجهة التفاعل من الغرب الذي أسر ثقافتنا طويلا إلى وجهات أخرى، نتقاسم معها ذلك السحر الذي أنتجته وتنتجه الأعماق الحضارية والروحية للشرق.

  بعد حوالي ثلاث سنوات على دخوله حقل الهايكو، ها هو رشيد قدوري أبو نزار يضع أمامنا بواكير قصائده الهايكو  في مجموعة اختار لها عنوان ” سُميْميع ُ الندى”، ليعلن منذ البدء تفاعله مع الكائنات من حوله بحواس مشرعة ومتأهبة لالتقاط أي نأمة أو حركة فيه، حيث يستعير عنوان مجموعته من ثقافتنا الشعبية مؤكدا انتماءه إليها وانبثاق نصوصه منها، إذ من يستطيع أن يسمع الندى حين سقوطه سوى هايجن قويّ الإنصات للطبيعة والمجتمع من حوله،هايجن ينصت لماضيه ويزرعه لحظة مستجدة في حاضره، كأن يكتب :

سُورُ الطِّينِ القَدِيمِ،
يُسْمِعُني

رَكَزَاتِك يا أبَتِي.

   ولعل أهم ما يميز تجربة الهايجن رشيد قدوري في محطتها الأولى هذه ، استلهامه للطفولة و استحضاره لبراءتها، بكل ما تنطوي عليه ممارسة الهايكو من روح طفولية تعيد استكشاف الموجودات والوقائع والمشاهد التي تتكرر أمامنا من غير أن ننظر إليها من زاوية تجدد حياتها فينا، الأمر الذي يقوم به الهايكو بامتياز ، حتى أن الهايجن أبا نزار يضع عتبة لمجموعته نصي هايكو لطفليه، كأنما ليضع القارئ في مناخ طفولي ينقّي حواسه مما علق به من شوائب العادة و يؤهله لتلقّ مختلف .. وكأنه من  خلال اكتشاف الهايكو يعيد تمثيل صرخته الأولى :

من رأس مسقط رأسي
أعيد تمثيل
صرختي الأولى

  وهو يبحث عن مداخل مغايرة للدهشة، من خلال الوعي بإمكانية استثمار منجم الطفولة في نقائها الأول، حيث يقول في تقديمه لمجموعته هته : ” كيف سأدهش القارئ و العالمُ  قد كاد يستنفد مواضيعَه العامة وكتب فيها الناس شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ..لهذا كان سبيلي الوحيد هو محيطي وأرضي وقريتي العذراء التي مازال بها الكثير من الأشياء لم ينتبه لها الناس بعد “،ويستمر هذا الحضور الطفولي بقوة عبر المحموعة من خلال استعادة مشاهد طفولية تعيد للمشاعر طزاجتها وتمنحها آنية جديدة مضمخة بتلك الفرحة المفقودة ، كأن يقول :

يَا لفَرْحَتِي

مِنْ رَحِمِ الوِسَادَةِ،
يَخْرُجُ قَمِيصِي الطُّفُولِي

   وتظل السخرية الناضحة بالحس الشعبي والتي جاء الهايجن مدججا بها من عوالم ” الهلوسة” ميسما ثانيا لتجربته في ” سميميع الندى” ، ويمكن على سبيل  التمثيل أن نسوق قصيدة واحدة، حيث يقول :

راجعا من السوق
لا فرق 
بيني وبين حمار

  إن رشيد قدوري أبا نزار هايكيست واعد، وتجربته في الهايكو قابلة جدا للتطور، فاسمعوا واستمتعوا بما استطاع سميميع الندى سماعه .. إنه سميميع مرهف.

    سامح درويش