ملفات

نماذج من الشعر التونسي المعاصر

 
 
 

أعد الملف:

 

عبد الفتاح بن حمودة ايكاروس

(حركة نص/تونس)

 
 
يعمل الشعراء المعاصرون اليوم على الذهاب بالنص الشعري إلى أقصاه بعد خروجهم من أسر سلطة العمود وادّعاء التصوف وربقة الإعلام السلطوي الموجه.
 حاولت في هذا الملفّ عن الشعر التونسي المعاصر أن أجمع نصوصا رأيت أنها يمكن أن تعطي صورة مهمّة ولو كانت منقوصة من بعض الأسماء عمّا وصل إليه الشعر المعاصر من تطور في الأساليب والأداء والمضامين بعيدا عن اللغة المتعالية المتخشبة، في حين لو أنجزت كتابا عن المشهد الشعري التونسي لضمّ الكِتَابُ ستين شاعرا من شعراء قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر هم صفوة ما وُجد منذ ظهور حركة الطليعة الأدبية إلى اليوم  ودون أدنى شك يتسع المشهد لأكثر ممن حاولت جمعهم في ملف.
 
 
 
شكري بوترعة
 
من عادة العشاق
 
 
 
من عادة العشاق
إذا مروا عل قمر اقتسموه
وقالوا جدنا الأول
من سلالة الماء
إذا حط بنهر توافد النخل
إليه تباعا
وامتقع وجه الحرائق فيه
خجلا
من عادة العشاق
إذا مروا على غيمة
زرعوا فيها عشب غربتهم
وقالوا : يا أختنا الغيمة احترقي
إن أصل الحرائق ماء
 
 
 
ايناس العباسي
 
أغنية الطين
 
 
ينفتح  الليل عن صورتي في المرآة
وأنا أجمع جثث حروف ماتت من فرط الكلام
أختار حروفا
أحييها بأنفاس الشوق وأطياف اللون
لينفتح لي باب اللغة…
فأرى
الألف في كبريائها:
رقص غزال ذبيح
النون في أنينها:
فمٌ قرمزي تَوَلّه بأسماء العشق
ثم الألف في امتدادها..
هكذا… ترتسم في الهواء كلمة أنا
وحولها سرب من الكلمات
أنا
شرهُ الطرقات التي التهمت خطاي
وهواء ديسمبر يلاعب الوجوه والشجر
والمطر يغسل قرميد المنازل الأحمر
ويصنع من لغتي الطفلة
سُلّما أزرق يمتد نحو السماء
أنا
خبز الجائعين المعجون بالعرق
ليل عاشقة تتقلب على سرير الحيرة والندم
مواء قطة في إحدى ليالي فيفري
موال ضائع في حقل من الأغاني
موسيقى عود جريحة أوتاره
وموسيقى الطبول القديمة في غابات افريقيا
أنا
صوت الرمح إذ يشقّ الهواء باتجاه الفريسة
وعينا الفريسة عند التفاتة موتها
أنا فرس صهباء
نزلتُ النهرَ دون بوصلة الريح والشجر
وأنا
غيرة العاشقة والزوجة والمعشوق
والبهجة المسروقة في شارع مظلم
يوجعني اللون والشمس والظلال
ويوجعني ما لا أراه
 
أنا
حقل سنابل جائعة للشمس
أنين شجرة زيتون عمرها مائة سنة
قطعهتا فأس عمياء
هسيس النار التي أوقدها آخر هندي أحمر
تمسك بأرض خيمته قبل أن يموت
واندفاع الماء عند آخر النهر
شلاّلا من الضوء…
 
 
لمياء المقدم
 
«شيرز» أيها الحب المتعب
 
 
لم أستطع أن أجعلك سعيدا
العام يوشك أن يبدأ وأنت تتكوم ككلب هرم تحت الغطاء وتلهث
أسمع لهاثك من مكاني هذا،
مع أنني منذ الصباح رقصت حتى تمزقت ملابسي وطارت في الهواء،
قفزت حتى نهض الموتى
ومشوا بيننا بعظامهم المتكسرة وعيونهم الفارغة
كشموع مطفأة تتكئ على بعضها
زينت وجهي وقلبي وصدري وعنقي بالمحبة
علقت الأضواء في كل زاوية من هذه الجثة
ومنذ الصباح أفتح ساقي أمام النهر وألد الضحكة تلو الضحكة
أقطع سرتها بأسناني وألقي بها في الماء،
أغرقت مدينة بكاملها في الضحك والدم
وأنت نائم تلهث
ككلب هرم
ولا تشعر بالحياة
***
ما هي السعادة في نهاية الأمر؟
هي أن أسمع لهاثك فأفتح النوافذ في عزّ الثلج
والحسّ بلساني غبار قلبك
لأرفع عنك الحساسية والألم
أن أشم رائحة صدرك المتعفن
فأتخيل الخريف قد حلّ
أمسك رئتك المتعبة بين يدي وأنتطر الحرير
وما هو الحب؟
هو أن تتقيأ أمعاءك
من الوحشة واليأس فامنحك ثوبي الشفاف
لتمسح فمك وتتمخط،
ذاك الذي أعددته للرقص
والتعثر والسقوط بين ذراعيك في آخر الليل
***
الآن وقد نمت، الآن وقد بدأ العام
وبعد أن تلوث ثوبي وغرق بيتي
في الريح والظلمة والصراخ،
أرقص على لهاثك
وأرفع كأسي
عاليا حتى تصطدم بالجدار:
«شيرز» أيها الحب المتعب، اللاّهث، النائم
كل عام وأنت مكوم في فراشي
ككلب هرم، يحرك رجله قليلا
فتغمرني البهجة
وأغرق في سعادة لا أول لها ولا آخر.
 
 
 
منى الرزقي
 
خريف
 
في الخريف نكونُ شُعرَاء
أكثر ممّا كنَّا عليه في أيّ فصل آخرَ
نحن الذين ما إن نرى ماءً يلمعُ في بركةٍ
أو ريحًا مُستوحشة تُميلُ الأنادرَ
حتّى نغدو كمخمورين أفاقوا لتوّهم من الخَدَر.
عليكَ أن تكون شاعرا لتفهَمَ هذَا:
«فقط في الخريف أستطيع أن أرى حكايتي»
أرى شَاعِري يفتحُ الشُبّاكَ لقطِّ البيت
فيما أوشكُ في الخارج أن أُصبحَ حجرًا
لو قُيِّضَ للنظرة أن تترك أثرًا
لصار الآن لي جَيْشٌ من المقاولينَ الأوغاد
يُقَوِّضونَ مسَاربي التي حَفرتُها بِنَظَراتِي
في ليالي الرّيح
لعلّكم صرتم تعرفون الآن
لماذا أحبُّ الخريف كما تُحبُّ امرأة سعال زوجها
إنّهُ يسعُلُ
والموتى لا يُصابون بالرّبو.
الخريف يجعلني أفكّرُ في القصيدة التّي سأكتبها
عندما يكون لزاما عليّ أن أفكّر
في الديوان الذي سأُمزّقه
الشعرُ يجعلني أفكّر في الشاعر الذي أحبّه
عندما يكون لزاما عليّ أن أفكّر
في الرّجل الذي سأتزوجه
كيف أثق بالخريف يا إخوتي
كيف أثق بالشعر؟
 
 
سامية ساسي
 
يدي اللّبَنيّةُ
 
لستُ المسيحَ،
فعلّقْ على الجرحِ معطفًا، حزامًا أو كتابًا!
علّقْ سنوات، شالات، نساء!
سُدَّ الثّقبَ بقطنٍ، بحجرٍ، بكلمةٍ باردَة،
ولْنتحدَّثْ!
لنتحدّثِ الآن،
عن الخرائطِ، عن التّجاعيدِ،
عن الطّقسِ مثلاً.
عن إبهامِ رجلي اليُمنى،
عن نشْوةِ الحبَق، عن التّعبِ، عن الفِراشِ،
عن الرّجفةِ أسفَلَ الوادي.
ولْنتحدَّثْ!
قلْ مثلاً: في ضمّةِ الحريرِ، أشتاقُ إلى زيّك المدرسيّ أكثر.
قل: أنا أعمى، أحبُّ مُداعبة القضبان في هوائكِ الطّلقِ.
أو، لِتقلْ: لستِ دُميةً،
لكنّني أحبُّ الكذبةَ البيضاءَ في يدكِ اللّبنيّةِ.
وسأُصدِقُ أنّني بيدي تلك، فتحتُ ثقبًا بين كتفيَّ،
لتعلِّقَ اصْبعكَ على الجرحِ
ونتحدَّث.
 
 
 
 
ناظم بن ابراهيم
 

بطاقات هوية

 
 
 
يحدُثُ
أن يُسْقِطَ النّاسُ
بطاقات هويّتهم في الشوارع
أنْ يتعثّـرَ المارّةُ في وجوه أحبّتهم
كلّما عَبـروا من هناك
 
واللهُ؟
كيفَ سيعرفُ الناسَ
وهم يذهبون إليهِ هكذا
بلا بطاقات هويّة ؟
 
 
في هدأة الليل،
يخرجُ البسطاءُ
ويعيدون توزيع الرؤوس المقطوعةِ
على الجثث المتكدّسةِ
مثل أكوام القمامة..
 
 
 
فاطمة بن فضيلة
 
تحرّش
 
 
امرأتان تجلسان في مقهى على النهر
تحتسيان كوبيْ عصير
فالجعة شأن رجاليّ
والقهوة شأن عاطفيّ
وهما  امرأتان
مجرّد امرأتين
«ما من نهر في الناحية»
لكنهما كانتا تجلسان في مقهى على النهر
تحتسيان كوبَيْ عصير بارد
وتتجاذبان أطرافَ الذكريات
عن رجل أحبّتاه معا
وهجرتاه معا
في الركن الآخر من المقهى
في الركن المطلّ على النهر
فتًى يبسط قوارير الجعة
والأوراق البيضاء على ظهر الطاولة
لا يشرب شيئا
ولا يكتب شيئا
امرأتان تجلسان في مقهى على النهر
«لعلّ النهر اندلع خارج الصورة في قصيدة أخرى»
تحتسيان العصير البارد
وتتحرّشان بالفتى الجالس في الركن المطلّ على النهر
وهو يضمّ رجليه في حركة لا إراديّة
وينأى ببصره عنهما
امرأتان تجلسان في مقهى على النهر
«والنهر لازمة القصيدة»
تتحرّشان بقوارير الجعة الملقاة على الطاولة
والفتى يضمّ قواريره
وينأى بظلّه عنهما
امرأتان تجلسان في مقهى في النهر
تحتسيان الجعة الباردة
وتتحرّشان بأوراق الفتى النائمة على الطاولة
فيحمل أوراقه
ويغادر بخطى مرتبكة
لم تنتبها وهما تحتسيان حبر الفتى المسكوب في الأوراق
أنّ نهرا اندلع بينهما
وأنّهما أنجبتا قصيدة عابثة تتحرّش بالعابرين في الطرقات
 
 
 
منصف الخلادي
 
 
كوميديا العاطل
 
 
 
 
أراقب الصعود-   كم يلزمه من سلم.
وهذا البحر-  كم من قارب
وهذه الشيخوخة-  كم من عكازه
والشقيقات
كم يلزمهن من خزانة كي يعبئنها  بالصابون.
أراقب كل هذا
وأبعد المرضى والمحبين
فهذه الأخشاب اللامرئية روح نجار تائب.
لست ضد عجائبك أيها الساحر
ولا ضد طربوش الأموال
بل ضد نملة
نزعتها من جبيني واعدتها إلى صندوقك
ولم تعدني بعمل .
لا تذهب – ربما تجوع فأصلح لك مائدة
تتعب – فأدق مسمارا في مقعد
تتثاءب فاصنع سريرا
لا تذهب
أخاف إن هبت ريح بعدك أن تنثر نشارتي
فلن يصدقوا …
 
 
 
عادل جراد
 
شجرة التين في منزلي
 
شجرة التين
في منزلي
كأنها أم أطفالي
يلعبون تحتها
يمرحون في ظلها
متعلقون بها إلى حد كبير
ابني الصغير
لا يأكل وجبته
إلا هناك
حيث توجد شجرة التين
الغيرة بدأت تعرف طريقها
إلى قلب أمه.
 
 
عبد العزيز الهاشمي
 
السّاعاتي
 
أنا ساعاتي نهج ابن خلدون،
أنفُض الغبار عن حانوتي كلّ صباح
وأهشّ الذّباب الذي يزورني
إذ يحُطّ على ساعات قديمة، لم تعد تصلح إلاّ للديكور
أجلسُ كلّ مساءٍ ثابتًا في مكاني على كرسيّ خشبٍ قديم
مثل أيّ مسمار يشُدُّ ساعة في جدار.
أجلسُ ثابتًا
لأراقب تحرّكات العالم من حولي.
الآن فقط
وأنا أنتزع نفسي بتثاقلٍ من الكرسيّ
رأيتُ على بلوّر المحلّ
تحركات الزمن في وجه لم يعد لي:
شعرٌ أبيض في وجه ملْآنٍ بالتّجاعيد

الآن فقط
تفطّنت إلى أنّني لم أعد أشبه مسمارًا
بل أنا مسمارٌ آخرُ
مسمارٌ  عاشر كلّ السّاعات الحائطيّة
ولم ينتبه أبدًا إلى مرور الوقت.
 
فاطمة كرومة
 
 
الطّائر المُنهك
 
لِنُوقِف هذَا الوهْم
بكلّ مَا في الأمْر من هوْلٍ وبسَاطة
تنْسحبُ أنْتَ إلى حياتك
تُحادثُ زجاجات البيرة،
أصدقاءك، سيقان البامبو التي اخترنا أسماءها بعناية
وربيناها مثل أطفالنا،
أنْسحبُ إلى دُموعي التي ورثتها عن نساء العائلة
أشكو لصديقتي التي في السّماوات
«فروغ فرخزاد»،
أنّه للمرة الألف لا أحد ينتظرنا
وكم حلمت لأجلك بالطّيران إلى أماكنَ بعيدةٍ
بقصائد كثيرة أكتبها
حقيبة شاسعة كالمدى
أرضَ عبور جديدة
مزدحمة بأحلامي
كلّ شيء كان جاهزا،
جواز السّفر
العملة الأجنبية
أوراقي الخضراء
خَوفي من أشخاص لا أعرفهم
حُزني اللّدود
صُورة طفلي كي لا أختنق
الحذاء الرّياضي للسّير معا في ريفٍ مَا
في حُقول صافية من زعيق رجال العائلة
أعددتُ كلّ شيء،
كنت جاهزة ونَضِرة كشجرة سرْو في مقبرة
سعيدة سعادة أجهلها
بعيدة وقريبة
لكن للمرّة الألف لا أحد يستقبلنا،
والطائر المنهكُ الذي بلغ أرضي كان قلبك
هزّ آخر غصن حيّ في صدري واختفى.
 
 
السيد التوي
 
ميتاليكا 
 
 
 
«يتلاشى «جيمس» في السّواد
يلملم هناك ما تبقّى من عظام صديقه «كليف بورتن»
أظفاره المطليّة بزبد اللّيل تخدش أبواب الحديد في «غوانتانامو»
يده البيضاء تنظم أساور من جمر للمراهقين
كانت أصابعه ترضّ رئاتهم المحشوّة بالماريخوانا*
قيثارته المتوتّرة كَسَهْمٍ تبحث عن معنًى لخصرها في صوته المذبوح
شياطين تستيْقظ على لسانه
رائحة الموتى كانت تزحف على الرّكح
شُهُبٌ كانت تفقأ عيون الجماهير…
يتلاشى «جيمس» في السّواد
بينما كان « لارس » يقود بعصاوْين مجنونتيْن عاصفة نحو السّماء.
 
 
فتحي قمري
(مقتطف من نص طويل)
 
 
هواء الغرفة أزهر،
ونجوم البيت عصافير ذهب.
الأكوان مشرقة،
والعيون مفتوحة على مصارِعِها أبوابا وشبابيك.
فهل مرّ  بالبيت أحد؟
هل رفّت روح مشمسة فوق البيت،
ونسيت فستانها مرميّا على السّطح ؟
 
كلاّ لم يحدث شيء ولم تمطر  السّماء أرواحا أو نجوما.
فقط هي الموسيقى تتساقط ندف ثلج،
فيما تحرس الكلمات المتطايرة وقوعها.
 
 
عمياء هي نظراتي التي ارتمت في المدفأة.
المدفأة
تستطيع حجارتها أن تتدحرج 
أو تتهاوى
لكنّها تكتفي باحتضان الجحيم والغمغمة.
أخشابها مرتّبة مثل زخّات المطر،
مثقلة برائحة غابة بعيدة،
وهي أيضا عظام شجر أنستها النّار أسماءها.
المدفأة
نارها ثيران بصدد الموت،
تتصاعد أعلى فأعلى
وتشتهي مزيدا من عظام وأسماء.
فتعود عيناي محروقتين،
المدفأة جحيم أبديّ لا موتى فيه
أو ليلة زرقاء لا ضوء فيها سوى الوجع.
 
يا قدّيسات اللّيل خذن روحي إلى نهر مبللّ.
عنبا، مطرا أو أجراسا حوّلْنَ يديّ،
وازرعن لرؤياي قصبا يحرس ضفّتيها.
يا قدّيسات..
لو أنّ خيولا سماويّة تأتي كي تحيي هذا الغبار.
سوف تئنّ أرواحنا مثل كمنجات اقتلعت الرّيح أسنانها.
وسوف تضاء أطوار اللّيل بأكواب مفرطة في العناق.
 
أسمع أنفاسكنّ تعلّمني الرّفق برخام العتبة.
أعرف ليل العتبات وبرده
وأذكر أنّي مسحت التّراب أكثر من مرّة
حين استوقفتني حدائق اللّيل،
 
أسمع أنفاسكنّ تهرول محروقة،
وأرى حروفي متروكة للّيل وتراب العابرين.
 
 
أنا
ظليّ الذي داسته العتمة وأكلت عظامه.
الأكوان التي تحلم بليل آخر لا يعضّ.
والبيت المشتعل غيما ورسائل برق.
أما آن الوقت حتّى ننام ؟
كذا تهذي عيوننا المحدّقة في العتبة،
فيما تنشد أرواحنا انتظارا لدقّات حذاء قد يأتي
ويملأ جروح البيت ورودا فضّية
ويسكب فينا لعاب هلال سكران.
 
 
 
في الجنة
 
عبد الواحد السويح
 
 
نزلاء الجنة بسيطون جدّا
يأكلون التّفّاح
يشربون النّبيذ
يضاجعون الحور
وأنا بينهم يا ربّي غريب
ليست هذه أحلامي
أعدني يا ربَي إلى الأرض
لديّ منزل صغير لم أكمل بناءه
لديّ شجرة زيتون حزينة
لديّ أوراق تنتظر مَن يخلّصها مِن البياض
لديّ أحلام بسيطة جدّا:
بعض زجاجات نبيذ
وزوجة مخلصة
وشيء من الهواء لرئتيّ السوداوين
أعدني يا ربّي إلى الأرض
تركتُ دهشتي معلّقة على حبل غسيل
تركت جنوني في الثّلاّجة
أقفلت على تمرّدي بإحكام في حقيبة السَفر
فعلتُ ما فعلتُ كي تستجيب لطلبي:
أعدني إلى تلك الأرض
لا تخش عليّ من الوحدة
فأنا أصلا “وحيد”
لكنَي أجيد سماع أغاني الفراشات
أجيد التّكلَم مع الشَجرة
أجيد متابعة قصص الأسماك داخل البحر
أعدني يا ربّي إلى الأرض
ثمّة رسائل لم أرسلها
ثمّة زجاجة نبيذ لم أفتحها
ثمَة قبلة أينعت في أحلامي ولم أقتطفها
أعدني يا ربَي إلى الأرض
مازال لديّ فيض من الدّمع لم أسكبه
 
 
———————-
 
رضا العبيدي
 
شعراء قصيدة النثر
نحن
شعراء
قصيدة النثر
جئنا بأجساد
آهلة بجينات آباء
لم يلدونا
دما
ولحما
لم نرهم قطّ
ولن نعرفهم
حتّى شجرة
النّسب
التي
تسلّقتْها
في غفلة منّا
عظامُنا
في نموّها
المتدرّج
إلى أعشاش
الطّيور
المهاجرة
خلف
الرّبيع
كانت شجرة
هجينة
وبلا اسم
لكنّنا رغم ذلك
نشتاق إليهم
أولئك الذين
لم يلدونا
ولن نعرفهم
حدّ أنّ أصابعنا
دوما أيّان الجوع
– وهو حياة –
يتناقص عددها
ويزداد في أحلامنا
فنشكّ في قواعد الحساب
الأولى التي
لُقّنّا إيّاها
في مدارس
بأسماء
شهداء
ماتوا
كي يتحرّر
الوطن
حدّ أنّ الدّم (دمهم؟)
كثيرا ما
ينزّ
من تحت
أظفارنا
غير المقلّمة
(سهوا)
حين من القلق
في المحطّات
نعضْعضها
ونمصّها
لحظات
الشّرود
في وجه
شبح
يعبر صدفة
أمامنا
رواقَ
الانتظار
لا نعرفه
لكنّه
لحظتها
لا يبدو
لأعيننا
غريبا..
قطن أبيض في الأخير
يلتفّ على
أصابعنا
نصاعته تذكّر
بثلج
الشّتاءات
القديمة
على قمم
الجبال
التي
عند سفوحها
ترقد مساقط
الرّؤوس
الفارغة من
الأفكار
الكبيرة
بعد أن
نكون
قد سكرنا
بالدّم
وتساقطنا
واحدا تلو
الآخر
في أحضان بعضنا
البعض
ونمنا
هكذا
مثل
إخوة
صغار
في
كوخ
فقير
ملتصقين
ببعضنا
بحثا
عن
الدّفء
 
 
 
 
 
 
محمود طارقي:
 
أجدادي
 
 
أنا من سلالة غريبة
فأول أجدادي كان لصا
قطعوا يده
فصار يسرق بيد واحدة
وعندما قطعوا يده الثانية
ابتسم في وجوههم وقال:
“اليوم سأذهب إلى بيت العرافة، لتقرأ لي الكف!”
وثاني أجدادي كان قصيرا جدا
وتزوج امرأة طويلة جدا
ليتسلق جسدها كل ليلة وهي مستلقية على الفراش
وعندما يلتصق قلبه بقلبها يهمس في أذنها:
“الآن صار طولنا واحدا”
وثالث أجدادي كان مسيحيا
أحب الله والمسيح
ولكنه أحب النساء أيضا
وعندما صلبوه نظر إليهم من فوق وقال مبتسما:
“أنا سعيد،
لأن هذا الصليب الذي شددتم جسدي إليه بالمسامير
سيتأرجح يوما ما في قلادة ذهبية تلامس صدر شقراء”
ورابع أجدادي كان فلاحا جشعا
عندما تنزل الأمطار يرفع يديه إلى السماء ليشكر الله
وعندما يحل الجفاف ينزلهما…
وخامس أجدادي كان هشا جدا في الليالي الباردة
وخاصة في جانفي
حتى أنه أنجب كل أبنائه بعد تسعة أشهر من موسم هشاشته
وتقريبا جميعهم صرخوا صرخاتهم الأولى في نوفمبر…
استمرت سلالتنا قرونا
حتى وصلنا إلى القرن التاسع عشر، عندما دخل الاستعمار الفرنسي
وكان لي جد مناضل
عندما حاصره جنود فرنسا ونفدت رصاصاته
وضع خصيتيه في البندقية
وصوبهما مباشرة باتجاه وجوههم…
ثم وصل جدي محمود طارقي في بدايات القرن العشرين
وهذا الرجل غريب أيضا
لأنه أحب كل شيء
ولم يعرف الكره يوما
فقد أحب الخمر والنساء والآذان والصلاة والله والموت…
ثم وصلت أنا
وأخذت من أجدادي كل شيء
وخاصة بندقية جدي المناضل
التي حشوتها بخصيتي
وسأصوبها باتجاه أول طائر قد يحط على نافذتي في الصباح ليزعج نومي،
فقد نسيت أن أخبركم بأن جميع أجدادي كانوا يعشقون النوم.
Haut du formulaire
 
—————–
 
مثل حشرة غريبة
محمد العربي
 
 
 

أحدق في زوايا الغرفة
من النوافذ المشرعة على العدم
يصلني ضجيج العالم
كم من البشر الآن يطحنون بين أنيابه
مطحونا بأسئلتي
بين جدران لا حصر لها
أتكور في الفراش 
كيف لحشرة صغيرة أن تتحمل كل هذا؟
 
 
 
خالد الهداجي
 
شعاع
 
———————-
خيط من الضوء يشق الظلام
مثل شعاع يدخل إلى غرفة مظلمة
من ثقب جدار
أحيانا يتوهّج ذلك الخيط
ليبدو مثل نهر يشقّ خارطة أرض سوداء
ذلك الشعاع ظلّ يواجه الظلام منذ البداية
ذلك الخيط يمتدّ منذ آلاف السنين
ليس ضوءًا ذلك الخيط
ليس نورا ذلك النهر
انه نهر من الدماء
دماء الذين حاربوا دائما
من أجل الآخرين
 
 
——————
أمامة الزاير
 

عادات سيّئة
————————–
لا صور لشارلي شابلن في بيتي
لا صور لمارلين مونرو عارية فوق فراشي
لن تعثر على اسطوانات شارل أزنافور في مكتبتي 
دافنشي لم يتّخذ حائطي مَرْسَمًا 
فريدا كاهلو تولول: 
هذا البياض مثل الغرغرينا
سيدهشك ألاّ ترى آرثر ميلر 
فقط ستلمح جيمس جويس 
مهملا في الرّكن 
مثل عاهرة
ستدرك أن عاداتي سيّئة جدّا:
أدخّن بشراهة كلب
سهري ماجن
لا أثق في النّوافذ المغلقة
والأبواب الحازمة
ألهو بضرسي المشطوب
ذلك الفراغ في فمي يشبه بئرا عميقة
ذلك الفراغ نقطة سوداء في الأفق
ستدرك أن عاداتي سيئة جدّا:
أفكّر في باخوس
وأنت تضاجعني
أفكّر في أبواقه الكثيرة
باخوس
انتظرني عند النّاصية
لن أغتسل من أثر الجماع
فقط أتململ ساعة
ثم أنام
شارلي شابلن يركض في بيتي
مارلين مونرو عارية فوق فراشي
شارل أزنافور يزفر في حاسوبي
دافنشي اتّخذ حائطي مبكى
فريدا تولول:
هذا المبغى مثل الغرغرينا
………………….
فقط عاداتي السيئة تلك
تشبه الغرغرينا.
 
من “مكائدِ” شاعرٍ سابقٍ*
 
يوسف خديم الله
شاعرٌ سابقٌ، تونس.
 
 
لستُ  ظِلاًّ لأحدٍ
———————
 
 
شمسٌ،
أخونُ  النّهارَ
مع  أية نجمةٍ عالقةٍ
في  قيلولةٍ.
 
قمرٌ  زاهدٌ،
لا تحرّكهُ  كبوةُ عاشقٍ.
 
أحيانًا ،
أُشرقُ  منَ  الغرْبِ.
و دائمًا،
من لطخَةِ  كلمةٍ
على جدارٍ ذهنيٍّ..
لستُ  صديقًا،  لي:
مجانًا،
أشِي  بأفكارِي  إلى  الدّولةِ.
 
في  جيْبي،
أسْتمنِي  ترفًا
يترقرقُ.
و بلِا  ماءٍ،
أحلِقُ  رأسي  مِن  الدّاخلِ.
 
أنا  لسْتُ.
فلتعْلُ منْ  دوني  جدُرانُ
و ليُفتحْ  بابٌ.
 
أنا لستُ.
فقط:
من  اللّيلِ  أضئُ.
… و أُتّهَمُ باللّيلِ،
ناقصًا.
 
 
صفاقس الغربية/ 1998
——————
 
أشرف القرقني
 
بودلير ورجل الشّرطة الصّغير
—————
 
 
كان غائمًا مثل سحابةٍ وحيدة في يوم أحدٍ باريسيّ. ما ينقصُ في صخب الشّارع، ما لا يراهُ أحدٌ… هذا صوتهُ. ما لا يرتفعُ إلى أعلى كي تلتقطه الصّور الفوتوغرافيّة، يلسعهُ لسان الشّاعر ويأخذه في غفلة إلى الدّاخلِ… هناك حيثُ تولدُ الأشياء في كلّ مرّة كي لا تموت..
إنّه الصّيف. مطرُ العالم يجتمع هنا، حيثُ يقاد شاعر إلى المقبرة. الطّبول التي تُقرع والموسيقى التي تجرحُ الهواء من فرط حدّتها تُعزفُ الآن لا لتضيف سطرا إلى قصيدته، بل لتسندَ رماد رجل الشّرطة الصّغير… هناك، بعيدا حيثُ يقادُ في زيّه الرّسميّ إلى العدم.
 
سعيف علي
 
 كالدمى الروسية
——
 
 
الباب المغلق
لم يكن هذا الصباح وردة الكلام
حتى حديثنا حول القهوة الساخنة
لم يحاول فتحه
لم نعلق حيرتنا وتمارين الاحتمال
فعلنا فقط ما يجب
أغلقنا الحكاية
وترشفنا الرائحة بلا تفاصيل
2
ربما كان صباحا غبيا حقا
لم تسقط الشجرة من الضحك
ترك سرب الطير المهاجر
صوتا بارعا ولونا للرفيف
لكن الشارع كان طويلا عند أقدامنا
3
بلا لقب كانت الكلمة
تلقفت سقوطنا على الإسفلت المبلل
استطاعت أن تختصر السباحة نحو الوجوه
أن تذكرنا أنّ الموقد البارحة أنشد بلا نار
4
ستعبر عما قريب إلى الحديقة الغنّاء
لكن عليك الآن أن تجد باب المتاهة
تأخذ مفتاحه إلى الجالس على تُويج الوردة
يرتشف الرائحة ويحرس الكلمة
لا تنتظر أحدا على كل حال
فقد نسينا أن نقول
أنت محاط بالريب هناك ..
 
صابر العبسي


ردّي إلي لعبتي
 
 
آه خُذِي قلبي
كتابي
صورتي
ردّي إلي فقط ردّي إليّ لعبتي
فهي الوحيدة التي تُذكّرني
بنفسي فيك بين يديك أكثر غربة ومرارة
ردّي فقط
رُدّي إليَّ لعبتي ولْتذهبي من دوني
شتاء في الشّتاء
آه خُذي
قارورة العطر المخثّر  بالدّماء
خذي كتاب الله
و الورد المجفّف  والقلائد
و الخواتم والجنون
خذي الهدايا كلّها
ردّي فقط
ردّي  إليّ لُعبتي
فهي الوحيدة في صقيع اللّيل
أحضنها
أقبّلها
أحاورها
فأدركها أشدّ أمومة وحرارة
من حضنك
من مُقْلتيك وقلبك
ردّي فقط
ردّي إليّ لعبتي
كي لا تصير ببرد كفّك
بومة عمياء تزعق
ثم تسقط جيفة
ردّي فقط
ردّي إليّ لُعبتي ولْتَذْهَبِي دوني
جحيما أو ضبابا أو دخانا في الفضاء !
 
——————–
محمد جلاصية
قصائد
 
1
تصحيف
———-
أشجار الغابة
تعود إلى جذور خطانا
والقمر تصحيف لشفاهنا.
2
على الأوراق
——–
هل تنتبه
ـ لأوّل مرة ـ
إلى مائك الضّائع على الأوراق.
3
سحابة ممطرة
——–
طيّارة الورق
التي أطلقها الطفل
سحابة ستُمطر ذات خريف.
 
4
نايُ الرّاعي
———
مختبئًا في القصب
كان الثعبان
خاله الرّاعي نايًا.
 
نزار الحميدي
 
الأسرّةُ للغطس، الوسائدُ للطّيران
 
(إلى أمامة)
 
 
سَأَنَامُ يَا رَجُلِي لِأَحْلُمَ،
لاَ تَكُفَّ عَنِ الْشَّرَابِ
فَعِنْدَ خَصْرِي حَانَةٌ…
أَطْلِقْ لِسَانَكَ يَرْشُفِ الْعَرَقَ الْمُعَتَّقَ
ثُمَّ لَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا
 
وَلَأَنْتَ أَوَّلُ شَارِبٍ
فَازْرَعْ  لُعَابَكَ فَوْقَ حَانَتِكَ الْأَخِيرَةِ
يَسْتَفِقْ شَعْبُ الطَّحَالِبْ.
 
وَلَأَنْتَ أَوَّلٌ رَاكِبٍ فَاسْحَبْ إِلَيْكَ الْبَحْرَ
تَأْتِيكَ الْقَوَارِبْ…
 
لَكِنَّنِي أَخْشَى الرٌّكُوبَ فَقَدْ تَغُورُ بِيَ الْمَسَارِبْ.
 
لَيَلَذُّ لِي أَلَّا أُفِيقَ وَأَسْمَعَ الْعَبَثَ الرَّهِيبَ
فَعُضَّ زِنْدِي أَيُّهَا المَلَّاحُ… أَنْتَ كَمِثْلِ قِطٍّ هَارِبٍ بِجِرَاءِ قِطَّتِهِ عَلَى أَرْضِ الْمَكَبِّ مُنَدِّدًا بِتَمَنُّعِ الْأَسْمَاكِ فِي زَمَنِ الضَّرَائِبْ.
 
أَنَا لَسْتُ مَلَّاحًا…                                                                                 أَنَا لَا أُمَيِّزُ فِي الْمُحِيطَاتِ الْعَمِيقَةِ بَيْنَ هَاوِيَةِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبْ…
 
إِنِّي سَأَرْقُدُ يَا حَبِيبِي حِينَ أَنْهَضُ تَعْتَرِينِي مُتْعَةٌ كَسَلٌ وَ تَشْتَعِلُ الرَّغَائِبْ.
 
عَيْنَاكَ مِصْيَدَتَانِ تَفْتَلِيَانِ شَعْرِي…
أَنَا حِينَ أَسْتَلْقِي أَصَابِعُكَ الْعَقَارِبْ
 
سَأَنَامُ يَا كَلْبٍي الْجَمِيلُ فَكُنْ وَفِيًّا كُنْ رَفِيقًا كُنْ رَقِيقًا أَوْ غَلِيظًا…
لَسْتُ كَلْبًا… إِنَّمَا… كَلْبُ ابْنُ كَلْبٍ…
مَاذَا سَأفْعَلُ بِالْإِشَارِب؟
نَحِّهِ
حَتَّى الْقَمِيصْ؟
حَتَّى الْقَمِيصْ.
 
وَلَهَمْسَةٌ تَكْفِي لِيَسْرَحَ شَارِبَاكَ عَلَيَّ لَسْتُ خَجُولَةً لَكِنَّنِي أُنْسِيتُ
تَرْجَمَةَ الْمَآرِبْ…
 
فُكَّ الْمِشَدَّ وَشُمَّهُ… خَزَّانُ رَائِحَتِي
إِلَيْكَ أنَا:
حَمَّالَتَانِ وَحَبَّتَا تُوتٍ قَمِيصٌ جَوْرَبَانِ مُزَوَّقَانِ وَخَاتَمٌ نَظَّارَتَانِ وَمِشْبَكَا شَعْرٍ تُرَابِيٍّ أَنِينٌ وَحْوَحَاتٌ…
مُسَّنِي…
سَأَخَافُ مِنْ نَفَسٍ وَمِنْ حَرٍّ فَمَسِّدْ رُكْبَتَيَّ وَخَلِّلِ الْأَعْصَابَ دَغْدِغْ سُرَّتِي أَوْ حُكَّ ظَهْرِي حَيْثُ لَاتَصِلُ المَخَالِبْ.
 
أَوْ دَغْدِغ الْأَعْصَابَ خَلِّلْ رُكْبَتَيَّ وَسُرَّتِي مَسِّدْ.                            سَرِّحْ عَلَى وَبَرِي لِسَانَكَ مِثْلَ كَلْبٍ جَامِحٍ… تِلْكُمْ شُوَيْكَاتٌ رَفِيعَاتٌ نَشَأْنَ إِذَا نَبَحْنَ فَلَا تَفِرَّ فَبَيْنَهُنَّ تَغَسَّلَتْ بَوْسَاتُ خَالٍ سَارِحَاتٌ كَالْأَرَانِبْ.
 
سَأَحُكُّ جِسْمَكَ يَاشَقِيُّ:
فَمَالِحٌ هُوَ
قِطْعَةُ الْحَلْوَى التِّي غُصِبَتْ قَدِيمًا مِنْ يَدَيَّ وَلَمْ أَمُصَّ بُعَيْدَهَا إِلَّا الْأَصَابِعَ وَالسِّوَاكَ مُثَلَّجَاتٍ عِلْكَةً فِي الْفَصْلِ
أَوْ هُوَ لِحْيَةُ الْجَدِّ الْمُذَابَةُ فِي الطَّرِيقِ إِلَى سَرِيرِي…
هُوَ لَسْتُ أَدْرِي رُبَّمَا جِسْمٌ مُسَلٍّ رُبَّمَا تُفَّاحَةٌ قَطَعَتْ عَلَيَّ طَرِيقَ تَرْحَالِي إِلَى أَحَدِ الْمَشَارِبْ.
 
سَأَشُدُّ رِيشَتَكَ المُسَمَّرَةَ الطَّوِيلَةَ أَيُّهَا الرَّسَّامُ
ذَا خَصْرِي دَوَاتُكَ
عُبَّ مِنْ عَسَلِي لِتَخْتَاطَ الْبُثُورَ وَشَعْرَ حَاجِبْ .
 
سَأَغِيبُ نِصْفَ دَقِيقَةٍ فَاصْعَدْ تِلَالِي مُفْرَدًا
قَدْ يُفْسِدُ الغُرَبَاءُ لَيْلَكَ:
تَسْتَحِمُّ… تَنَامُ فَوْرًا
أَنْتَ تَرْقُدُ يَا بُنَيَّ قُرَيْبَ فَاكِهَتِي…
أَنَا لَسْتُ طِفْلًا… رُبَّمَا…
طِفْلٌ مُحِبٌّ لِلتَّجَاربْ.
 
هَيَّا لِنَلْعَبْ لعْبَةً
غُمَّيْضَةً مَثَلاً،
لِنَرْقُصْ
شُدَّنِي فِي الْبَدْءِ طَوِّقْنِي تَرَيَّثْ
إِنًّ لَحْمِي كَالمُرَبَّى وَالْأَصَابِعُ:
أَنْتَ حَاوِلْ قُبْلَتِي مِنْ كُلِّ جَانِبْ.
 
تِلْكَ الْوَسَائِدُ كَيْ نَطِيرَ
سَرِيرُنَا للْغَطْسِ
أَكْرَهُ قَاعَةَ الْإِنْعَاشِ
قَلْبي مِثْلَ جُنْدِيٍّ دِمَشْقِيٍّ عَنِيدٍ رَغَمَ مِحْنَتِهِ يُحَارِبْ.
 
فَإذَا رَجَعْتُ مِنَ الطَّوَافِ وَلَمْ أَقَعْ كَنُحَيْلَةٍ بَيْنَ الْعَنَاكِبْ  
عِدْنِي… تَعَهَّدْ طِفْلَتِي،  
فَرِّقْ  وَصَايَانَا عَلَى كُلِّ الْأَقَارِبْ.
 
حَقًّا
هُنَاكَ نَسِيتُ أَمْتِعَتِي…؟
نَامِي فَإِنَّ غَدًا سَتَلْقُطُها الْحَقَائِبْ.
                             
———–
زياد عبد القادر
في مرآة أندريه تاركوفسكي/ عمارة 1819
 
أقف مثل عمارة لم تبنَ بعدُ،
مهيبًا إنما بلا أثر.
خطاطون لم يسمع بهم أحد
يمرّون بسباباتهم في الهواءِ
متخيلين مساحتي،
رخام الفِناء،
طرازَ نوافذي
وغيبوبة الضوء في البهو.
بناؤون يطيرون عبر السلالم
واصلين المطابخ بالماء والكهرباءِ.
آخرون يعشّقون الحديد في شرفتي
معرّضين للريح والبرد
فيما أنا، دون علم الجميع،
أنام في القبو
مستنفدًا من عناء النهار
أنتظر إلى أن يفرغ العمّال من هذا الهراءِ،
وحين تغصّ طوابقي بالذباب
أسدّ مخارجَ صورتي بقوالبٍ وإسمنتٍ مسلّح
ثم أفتح أنبوبة الغاز
وأخرج من حيث لا يعلم أحدٌ
 
ميلاد فايزة
(شاعر ومترجم تونسي مقيم أمريكا)
 
تلك الغرفة البعيدة
 
 
لمْ أنمْ ليلةَ البارحة.
تملْملتُ في الفراش لساعاتٍ
مُفكِّرا في غرفتي البعيدة،
غرفتي الموصدة منذ خمسة عشر عاما.
لمْ أفتحْ باب الغرفةِ
لئِلاّ أزْعجَ العناكب المنهمكة في بناء جسر جديد
أو الزهرة الذابلة.
لمْ أنفض الغبار عن كتاب «الأم» لغوركي.
لمْ أغيّر بقلم الرصاص تسريحة شعر رمْبو التي رسمتها
حين كنت طفلا حالما بالشرق
وتجارة الجُبن والأسلحة.
لمْ أدركْ ساعتها أنّ ذئباً أمريكيًّا يعْوي في دمي
ويحْتمي بالثلج من شموسي الحارقة
وأنّ امرأةً تتأملُ عُرْيَها على سواحل كاليفورنيا في لغتي
وتصلّي في كنيسة قديمة ليفكّ الإله سراحي
لمْ أنمْ ليلةَ البارحة.
تحسّستُ المفتاحَ بيد وجِلة
ووَقْفتُ هُنيهةً أمام الباب،
أسْترقُ السمعَ لأنين خَفيّ يَخْرُجُ من الخزانة.
لمْ تقْوَ أصابعي على الحركة
وَسقطَ المفتاحُ من يدي.