كتابات

الإغتراب السيكوجيوغرافي عند صدام الزيدي

الإغتراب السيكوجيوغرافي عند صدام الزيدي
في قصيدته “وتسرف في اقتناء اللاعتاد من التمنطق حين تعوي الحرب”..
سيف حسن أبوعلي
أديب وناقد يمني
17 أغسطس 2017
 
وتسرف في اقتناء اللاعتاد من التمنطق حين تعوي الحرب.. عنوان قصيدة حداثية استفزتني بكل ما تحويه من صور بلاغية ولوحات فنية شعرية رائعة واسلوب متفرد في بناء نموذج شعري فذّ يحمل في طياته تجربة شعرية راقية ولغة شعرية سلسة للشاعر اليمني صدام الزيدي وهو من شعراء جيل الألفينيين..
نُشِرت هذه القصيدة في العدد الثاني -أغسطس 2017- للمجلة الأدبية الشهرية “نصوص من خارج اللغة” التي تصدر من العاصمة المغربية الرباط ومنذ الوهلة الأولى استحوذتني قدرة الشاعر على انتقاء الألفاظ القوية ذات المحتوى الجمالي الفريد لبناء نموذج (إسراف) غاية في الجمال.
يبدأ الشاعر نصه الشعري بسطر رائع بقوله:
وتسرف في إرتحالك للمنافي..
من الملاحظ تعمد الشاعر البدء بحرف الواو المسبوق للفعل المضارع المتعدي “تسرف” دلالة على استمراريه الفعل وارتباطه بفعل سابق مجهول، حيث يتعدى فعل الإسراف للتأثير على فعل آخر وهو الإرتحال إلى المنافي. وهنا يأتي فعل الارتحال في سياق النص فعل أرادي مقصود في سياق الدراما المرسومة، (على الرغم من إجبارية المضمون) غير انها تتعارض مع طبيعة ظرف المكان المبتغى منه وهو “المنافي” وجائت صيغة الجمع انعكاسا لحالة من التشويش واللامعرفة بظرف المكان والذي قد يمثل جغرافية المستقبل المجهول للشاعر..
ففي هذا السطر يرسم لنا الشاعر لوحة فنية رائعة للإسراف اللامتناهي- الإرتحال في المنافي المتعددة وكأن مسيرة حياته ليست سوى حالة من الضياع اللامستمر في جغرافيات متعددة مثلت للشاعر في كل مكان منها منفىً بحد ذاته.
وتسرف في انزواءك في المشافي..
وفي السطر الثاني يتكرر فعل الإسراف، لكن ليصف الإنزواء و بالتالي يرسم صورة جمالية أخرى لحالة من الإنزواء الإجباري في جغرافيات إجبارية وهي “المشافي”، وهنا يرسم الشاعر صورة من الإحباط الذي وصل إليه في رحلة طويلة للصراع مع جغرافية غير مرغوبة وهي المشافي أي المستشفيات، والتي بالتالي تصف رغبة الشاعر في التمرد على هذه الجغرافيا الماكث فيها رغما عنه.
وتسرف في امتشاقك مشعل الهذيان..
وفي السطر الثالث يرسم لنا الشاعر حالة من الإسراف الجميل تتمثل في امتشاق مشعل الهذيان حيث يرسم لنا بريشة مبدع متمكن حالة بطولة لتسلق وامتشاق قمهة بعيدة وهي “مشعل الهذيان” والذي يرسمه كأنه عمود لمشعل كبير جدا ينطلق في عنان السماء بينما هو يسرف في محاولاته البائسة لامتطاء وامتشاق هذا المشعل.
وعلى الرغم من استقلالية الصورة الدرامية التي يرسمها الشاعر في السطرين الأول والثاني كحالتين مستقلتين الأولى بالارتحال إلى المنافي والثانية بالانزواء في المشافي، إلا انه يفاجئنا برسم صور جديدة في السطور الأربعة التالية:
وتسرف في امتشاقك مشعل الهذيان..
وتسرف في ارتباكك لحظة الإلهام..
وتسرف في ارتطامك بالنوايا القاتمات..
وتسرف في تطلعك العنيد..
وتسرف في قراءة ما يجيء من “المؤشر”..
وهنا يقوم الشاعر بتوظيف دراما رائعة يتبنى من خلالها وصف حالة بطولية للصراع القائم بين حناياه.. فنجد ذلك البطل الذي يسرف إلى حد كبير في محاولاته لامتشاق مشعل الهذيان وفي كل محاولة يسرف أيضاً في الإرتباك لحظة الإلهام وكأنه تنتابه في كل مرة يمتشق هذا المشعل حالة من عدم الإتزان فيسقط ليرتطم بالنوايا القاتمات التي من الممكن ان تصف حالة الصراع العاطفي الذي يعانيه الشاعر جراء ظروف الحرب وما يعانيه من ظروف احتمالية فقدان من يحب جراء اصابته بمرض عضال ألمّ به وتسبب في حالة إسرافه في الإنزواء في المشافي، وعلى الرغم من إسرافه اللامتناهي مايزال يسرف في “تطلعه العنيد” ليصف لنا إحدى صفاته الأساسية وهي العناد وعدم اليأس على الرغم من كل الصعاب واحتمالية الفشل في كل مرة.
وعند العودة للصورة الحسية التي رسمها الشاعر من بداية السطر الاول نجد انه ينتقل بنا بأسلوب رائع بمجموعة من الأحداث التي تتصف بالسكون الحركي النسبي للصورة الحسية في عملية “الإسراف في الارتحال في المنافي” ثم “الاسراف في الإنزواء في المشافي” ثم ينتقل بصورة حركية مفعمة بالنشاط و التفاؤل بامتشاق مشعل الهذيان حتى الإسراف في الارتطام بالنوايا القاتمات.  وكأن هذا الإرتطام كان بمثابة المنبه بأنه كان في حلم يقظة ليسرف مرة أخرى في قراءة ما يجيء من “المؤشر”.. ومن خلال ما نلاحظه، قيام الشاعر باختيار لفظ “المؤشر” بين قوسين للإشارة إلى التنبيه الحسي باستخدام مؤشر إلكتروني لتنبيهه بما هو آتٍ.
وتُسرِف في الكِتابةِ والتهكُّم
وهنا بعد يقظَةٍ من حلمٍ جميل يشير الشاعر في إسرافه الجميل إلى حقيقة إسرافه الفعلي التي تتمتع به ذاته الشعرية في هذا النص، حيث يبين لنا بشكل جلي حقيقة إسرافه منذ الوهلة الأولى من الارتحال إلى المنافي و تسلق مشعل الهذيان و ارتباكه و ارتطامه ومن ثم تطلعه العنيد وقراءته لحقيقة هذه الحياة ومفرداتها والذي يكون نتيجة واضحة لإسرافه في الكتابه والتهكم.
من الملاحظ ان الشاعر عمد إلى عدم إتباع كلمة التهكم بعلامة ترقيم ” نقطتين” كما في باقي الأسطر ليدلل على انها وصف لخلاصة ماهية الإسراف وتوضيحاً لسبب هذه المرحلة من الإسراف. وهنا لا يترك الشاعر مجالاً للقارئ للتأويل بمعنى التهكم وكأن قصيدته وخصوصا الأسطر الاولى هي نوع من الإسراف في الكتابة والتهكم.
 
وتسرف في تخطي “مترس” البؤس القديم..
وتسرف في عنادك حين ينعتق الهتاف المر..
وتسرف في اغترابك ساعة من ارخبيلات
المكان..
وفي هذه الأسطر يستمر الشاعر في وصف حلقة جديدة من سلسلة الإسراف اللامتناهي، حيث يقفز واصفاً إسرافه في تخطي “مترس” البؤس القديم، على حد تعبيره، وكأنه في ساحة حرب ضروس يتوارى بمعية بؤسه القديم الذي حجبه خلف مترس من متارس الحرب الذي إن تخطاه ربما يصاب بما يحمله المجهول من مصاعب وهموم قد تودي بحتفه وهذا ربما يصف بشكل جليِّ خوف الشاعر من هذا المستقبل الحفيّ بالغموض في ظل حالة الحرب المستمرة التي تعاني منها بلاده في ظل الصراع السياسي الطائفي القائم في البلاد من اعوام مضت.
ويقفز الشاعر في السطر التالي لوصف حالة إسراف أخرى تتمثل في حالة العناد الذي يتمتع به الشاعر فهو يسرف “في عناده حين ينعتق الهتاف المرّ” ويسرف في إغترابه لوهلة من الزمن (وهي ساعة واحدة محددة) من إرخبيلات المكان.
وهنا يتبين من خلال استخدام الشاعر لصيغة التناقض الزمني بين الإسراف و الزمن المحدد للفعل المحصور في ساعة واحدة وما يفترض أن يتطلبه فعل الإسراف من زمن كبير، يتبين شدة الصراع الذي يعاني منه الشاعر في حالة الاغتراب النفسي الجغرافي في آنٍ واحد أو ما يمكننا تسميته الإغتراب السيكوجيوغرافي للذات الشاعرة التي بالتالي يسرف في تأنيبها من خلال مخاطبته لها في هذا النص.
وتسرف في إرتجافك إذ منادٍ للصلاة البدء في
غبش الفجاءات والإعياء يطفو..
وتسرف في اقتناء اللاعتاد من التمنطق حين
تعوي الحرب..
وتسرف في التعربد برهةً من زمهرير الإكتواء
الإنزوائي المآل..
وتسرف حين تكتب..
واستمرارا في عملية وصف حالة الإسراف الذي يعاني منها، يقوم الشاعر بوصف حالته الراجفة وإسرافه في الإرتجاف حينما ينطلق النداء للصلاة البدء (والتي ربما تشير الى صلاة الفجر) التي ينطلق نداء التكبير لأدائها في بدايات انقشاع الظلام وتسلل أشعة الفجر الأولى والتي يصفها الشاعر بالغبش، حيث يرسم الشاعر صورة فنية بديعة لحالة إسرافه في الإرتجاف حينما يقوم منادٍ للصلاة في فترة مبكرة من يوم مشحون بالفجاءات والإعياء يطفو كجسد غريق يطفو فوق سطح الماء.
وفي السطر التالي يفصح الشاعر عن جوهر حقيقة هامة وهي حالة الإسراف الذي يعانيه (هو شخصيا والمواطن اليمني بشكل عام) اجتماعيا واقتصاديا في حالة اقتناء اللاعتاد من التمنطق حين تعوي الحرب، أو بمعنى آخر حالة اللا إستعداد لخوض الحرب والمقامرة بشكل لامنطقي لخوض هذه الحرب والصراع السياسي الطائفي القائم في البلاد والحصار.
وفي السطر التالي يستمر الشاعر في وصف حالة إسراف أخرى لكنها من نوع آخر وهو “التعربد برهةً من زمهرير الإكتواء الإنزوائي المآل”، وهنا نجد ان الشاعر استخدم مفردة زمهرير متبوعة بمفردة الإكتواء على الرغم من صيغة التناقض للمعنيين فالزمهرير لا يكون سببا للإكتواء وكأنه يقدم لنا صورة للتناقض الحيّ بين الجليد والنار والذي يكون مآلهُ في الأخير بحسب تعبير الشاعر الإنزواء. وهو في النهاية حقيقة الإسراف في الكتابة يفصح به الشاعر في السطر التالي:
وتسرف حين تكتب..
وفي هذا السطر يكرر الشاعر اعترافا خطيا بإسرافه في الكتابة للمرة الثانية حيث اعترف سابقا بإسرافه في الكتابة والتهكم:
وتسرف في الكتابة والتهكم
ولكنه في هذه المرّة ابتعد عن التهكم وكأنه انتقل من مرحلة التهكم في الكتابة إلى مرحلة الكتابة بدون تهكم. فهو في هذه المرّة يسرف حين يكتب وهو اشتراط زمني حيني لفعل الإسراف محصورا بوقت الكتابة فقط.
وفي الثلاثة الأسطر التالية من القصيده تستمر رحلة الاسراف الجميل للشاعر حيث يقول:
وتسرف ذهاباً في التموّه..
وتسرف حين تنتعل الفضاءات المديدة في التنائي..
وتسرف في مهادنةٍ تعمِّق فيك آيات التحدّي..
فهو من بعد توكيده على إسرافه حين يكتب يستمر الشاعر في وصف حالة الإسراف التي يعاني منها فهو يسرف ذهاباً في التموّه وكأنه يفرط في حالة الهروب من واقعه بالتموّه الفعلي والشكلي، ففي السطر التالي لإسراف التموّه يسرف حين ينتعل الفضاءات المديدة في التنائي.
وهنا يرسم لنا الشاعر صورة فنيه بديعة و يشطح بالقارئ في سماء الخيال الواسع في عملية انتعال للفضاءات المديدة في التنائي، وكأنه يصف حالة الإسراف في الرفض لهذا الواقع المرير وبالتالي يسرف في مهادنةٍ تعمِّق فيه آيات التحدي. فمن بعد الرفض يأتي الإسراف في المهادنة أو بمعنى آخر اتخاذ هدنة (وهي في الأصل وجيزة) إلا انه يسرف فيها ليلتقط أنفاسه لبرهةٍ من الزمن تُعَمِّق فيه آيات التحدي.
 
وتسرف في التماعات الفضول الأبجدياتي..
ثم: مفردة أنت تخلقها لتمنحها تضاريس التنزل
في السهوبِ المرمرية،
عند سرديات هذا الليل في المنفى..
وفي هذه السطور يرسم لنا الشاعر حالة جديدة لإسرافه الجميل، فهو يسرف بتمعُنٍ في تعامله مع أبجدياته فيصيغ منها إلتماعات فضولية، ومن ثم، يصف لنا ذاته والتي ربما يقصد بها ذاته الشعرية بأنه مفردة يخلقها  ليمنح هذه الإلتماعات تضاريس التنزل في السهوب المرمرية عند سرديات هذا الليل في المنفى.
ما يمكننا ملاحظته في هذه الأسطر والتي تعتبر خلاصة القصيدة استخدام الشاعر للتوكيد المعنوي لإسرافه في الكتابة وتعامله مع أبجدياته وخلقه الابداعي للحرف والمفردة التي يمنحها تضاريس أخرى مغايرة لتضاريس حياته الاصلية وجغرافيتها والتي يرسمها الشاعر في صورة فنية بديعة لحركة التنزل في سهوبٍ مرمرية رائعة عند سرديات ليل المنفى، أضف إلى ذلك استخدام الشاعر للتوكيد اللفظي في عدة أسطر في القصيدة.
وبالنظر ألى بقية أسطر القصيدة حيث يقول الشاعر:
وتسرف حين تأتي من كهوف الليل منتشياً بلا
شيءٍ، عدا الهذيان تمنحه الكآبة؛
يمنحك “خمسينات” هذا الغم متشحاً ظنونك..
وتسرف يوم تبتكر الأغاني كي تلملم في جراحك “ألف جرحٍ” من جديد!
وما نلاحظه في هذه الأسطر ان الشاعر اختتم قصيدته بحالة من اليأس تبدو جليَّةً في الثلاثة الأسطر قبل الأخيرة للقصيدة، والتي قد تمثل حالة من الإسراف في تأنيب ذاته الشاعرة؛ فإسرافه لم يثمر بشكله المتوقع فقد أتى من كهوف الليل منتشياً بلا شيءٍ عدا الهذيان الذي يمنحه الكآبة و يمنحك خمسينات هذا الغمّ متشحا ظنونك. وكأن الشاعر يصف حالة الغمّ التي تنتابه وكأنها نصف حالة الغم التي كانت تنتابه قبل عملية الإسراف التي قام بها، وكأنه يقول ان هذا الإسراف كان بمثابة الترويح عن النفس وانه انزل من على كاهله نصف همومه على الرغم من انها لم تثمر كما كان ينبغي لها.
و من جهة اخرى نجد ان الشاعر لا زال يمتلك الأمل في حياة افضل وانه لازال يسرف يوم يبتكر الأغاني لكي يلملم في جراحه “ألف جرحٍ” من جديد؛ وهذا وعد من الشاعر للإستمرار في إسرافه اللا منتهي في أبجدياته.
وخلاصة التحليل لهذه القصيدة يمكننا القول ان الشاعر على الرغم من إسرافه في استخدام لفظ “وتسرف” التي تكاد لا تختفي في كل سطر من سطور القصيدة إلا انه قدم لنا حالة اسراف مستحبة و رائعة مكتظة بصور بلاغية ولوحات فنية غاية في الجمال و الروعة و إنه قام من خلالها برحلة في تضاريس روحانية جميله معاتبا ومؤنبا ذاته الشاعرة بعيدا عن اسرافه في ارتحاله في المنافي وانزواءه في المشافي وتخطيه لمترس البؤس القديم.
يمكننا القول أيضا ان صدام الزيدي رغم معاناته وظروف الحرب القاسية التي يعاني منها هو و أهل بلده في جغرافية تعيسة وظروف الشخصية من معاناة صراع أحد أفراد عائلته مع مرض عضال ألمّ به منذ بداية 2017 ألا انه استطاع خلق حالة -تنبؤية- إذ كتب هذا النص في ما قبل ذلك، بداية 2015، مع تباشير اندلاع الحرب في اليمن، وتتداعى صورة جديده لتضاريس تمنحه حالة من الطمأنينة والترويح عن النفس على الرغم من اسرافه في اقتناء اللاعتاد من التمنطق حين تعوي الحرب. أو بمعنى آخر يمكننا القول بأن الشاعر صدام الزيدي قدّم لنا حالة لمعاناته السيكوجيوغرافية في لوحة فنية بديعة متناهية الجمال مستخدماً لغة معقّدة التراكيب بإنتقاء حذر لمفردات قوية المعنى والتي قد تعكس إلى حدٍ ما حالته النفسية ومعاناته.