قراءة لنص “الموعد” للشاعر هاني الصلوي وفق نظرية الوسائط الجديدة

أحمد الفلاحي 84%

AI 16%

شهدت الدراسات النقدية الأدبية تحولًا نوعيًا بفعل تأثير التكنولوجيا الرقمية، والذي لم يقتصر على نقل النصوص إلى منصات رقمية فحسب، بل تجاوز ذلك إلى إعادة صياغة أسلوب التفاعل معها. وقد ساهمت “نظرية الوسائط الجديدة” في بناء تيار نقدي يتمحور حول كيفية التفاعل بين النصوص الرقمية والقارئ، لتصبح النصوص كيانًا ديناميكيًا قادرًا على التغيير والتفاعل. وقد قدم عدد من المفكرين، مثل رولان بارت وليف مانوفيتش وماري-لور رايان، رؤى تحليلية حول التفاعل بين النصوص الرقمية وقرائها، مما يجعل العملية تتجاوز مجرد القراءة إلى عملية تأويل وإنتاج معنى بطرق جديدة ومبتكرة [1, 2, 3].

في هذا السياق، يأتي نص “الموعد” للشاعر هاني الصلوي كنموذجٍ لدراسة تأثير الوسائط الجديدة على القراءة والتفاعل، خاصةً عندما يتناول موضوعات فلسفية عميقة مثل الموت والوجود، ما يعزز انخراط القارئ في تجربة التأويل الذاتي ويفتح أفقًا للتفاعل مع النص من زوايا متعددة ومتنوعة.

نص المـــــــــــــــوعد: أو الروشتة بتعبير غير دقيق. أو حتى لو لم نتماد فينا:

++ لا تمت في الصباح الباكر

سيتهمونك بالمثابرة والإخلاص.

++ لا تمت في الظهيرةِ

سيقولون إنك مغرم بالوضوح والفضيحةِ

++ لا تمت ساعة الغروب الذهبيةِ

سيدعون أنك مصاب بالمراوغة

والرمانسيةِ.

++ لا تمت في الليل

سيشيعون أنك مغرم بالدسيسةِ

والخفاءِ.

= مت في الصباح الباكر

حيث تشبه الشمس نفسها تماما

= = لا تمت في الصبح الباكرِ

حيث تشبه الشمس نفسها تماما

فلا مجال للعبث مع المسؤليةِ والترتيب.

= مت في الظهيرةِ والظل واقف

في الحر بمبراته وأسئلته ووحدته.

== لا تمت في الظهيرة والظل واقف

في الحر بمبراته وأسئلته ووحدته

سوف يتبخر المستحيل في كفنك

ولن يجد المشيعون كتلة يسيرون بها

إلى حفرتك القبر.

لن تجد حبيبتك جبيناً ترسم عليه

أحمر شفاهها قبل الأخير.

= مت وقت الغروب الثمين والعالي

وأنت تتأمل إقلاع الذهب من البوتقةِ اعتذار المحرقةِ للمزارعِ

وحافظة الدوام المدرسي للفشلِ

مت لحظة الغروب وأنت ترى الدموع

تهطل من مزاريبها، والعشاق يحتمون بأرواحهم

من الأجساد. يتمنون الموت قبل أن يكونوا فراقاً

والفناء قبل أن يكونوا نهراً.

يكذبون على ضلوعهم عنوة ولا يتوقفون عن النحيب.

== لا تمت ساعة الغروب العالية والمقدسة

حيث يتباهى الألم بخدوده المستطيلةِ

والحية بنعومتها والمنكسرون بأحزانهم.

لا تفعل فأنت لم تأتِ لهذا أبداً.

= مت في الليلِ (في الليل!!) كي لا يراكَ

أحد وأنت تعبر التلةَ ولا يفكر الدائنون بما عليك

من القروض و لا البنوك بما تخبئ في معطفك

من الحلوى والولائم والسراق

== لا تمت في الليل والغربان تنشر خيامها

على الهضاب والسواد يرش فاغيته في العيون،

لا تفعل وأنت تعول على الغفلةِ والسبات.

لا تمت في الليل (في الليل!).

فليس المستيقظ كالنائم ولا الانتباه كالتغاضي.

لا تقم بذلك أرجوك. لا تمت في الخفاء.

++ مت شجاعاً متيقظاً صارماً فأنت أهل لذلك.

+ لا تمت شجاعاً متيقظاً حريصاً / رمحاً / إبرةً/ سكيناً/ حرباً / /حفلة /مقتلة / صهيلاً… لا تمت هكذا وحسب.

مت ذابلاً كأقحوانة عجوزٍ فتياً شبقاً مهزوماً متوسلاً / ناراً / صادقاً_كاذباً/ كاذباً _صادقاً.

لا تمت ذابلاً منكسراً محطماً متوسلاً فلم تعد هذه الطريقة في الموت مستحبة.

مت كما تشاء/ إنني أرفع أناملي عنك،

فلدي الكثير من الوصايا أعد لتقديمها في الكمنولث القادم

بعد استراحة قصيرة القامة.

إنني أرفع أناملي عنك وأبكي/ عن الكيبورد كله.

أرفع رؤوس أصابعي عن عائلتك كلها

وعن صيغة نفوقك وضواحيها

لأذهب إلى صفحة (وُرْدٍword) أخرى

في ملفٍ آخر/ في مجلد آخر.

مت بعيداً عني أرجوك.

لماذا تريد أن تموت.

لم؟!!

 أولاً: التفاعل بين القارئ والنص وتعددية التأويلات في نص “الموعد”

مع تطور الوسائط التفاعلية وازدياد انتشار وسائل التواصل الرقمي، تقدم نظرية “الوسائط الجديدة” النصوص الأدبية كفضاءات مفتوحة، تتيح قراءات متعددة وتأويلات متنوعة يمكن أن تتغير وفق السياقات المختلفة والقراءات المتكررة. هذه النظرية تعد جزءًا من التيارات النقدية الحديثة التي تتعامل مع النصوص الأدبية كأنساق متفاعلة، حيث يُبنى النص بشكل يسمح للقارئ بالانخراط في إنتاج المعنى وتوليد التأويلات بصورة شخصية وفريدة. هذا المفهوم يتماشى مع طبيعة نص “الموعد” للشاعر الصلوي، الذي يطرح خيارات ومواقف متعددة تجاه فكرة الموت، مما يمنح القارئ مساحة للتفاعل مع النص بطريقة تتناسب مع تجربته الحياتية الخاصة [4, 5].

في هذا النص، يوظف الشاعر تكرار العبارات بصيغة الأمر “مت” و”لا تمت” ليصور مواقف متعددة تجاه الموت والحياة، حيث يكتب: “لا تمت في الصباح” و”مت في الظهيرة”، مما يفتح مجالًا واسعًا للتساؤل حول دلالات هذه الخيارات. ويعكس هذا النمط بشكل واضح مفهوم النص المفتوح لرولان بارت، حيث يرى بارت أن النصوص الشعرية تتيح للقارئ أن يكون مبدعًا ومتلقيًا في آنٍ واحد [3].

يجد القارئ نفسه متفاعلًا مع هذه التعليمات المتناقضة داخل النص، مما يحفز تجربة تأويلية مفتوحة حيث يمكن للقارئ أن يختار الموت في الصباح كتعريف لحالة كآبة بداية اليوم، أو ربما الحياة كدلالة على الاستمرارية. هذا التداخل بين الموت والحياة يعزز من تعددية التأويلات ويجعل القارئ جزءًا لا يتجزأ من تجربة القراءة ذاتها، حيث تتداخل مشاعر وأفكار القارئ مع النص بطرق لا يمكن للنص بمفرده أن يستوعبها.

 تفاعل القارئ مع تكرار الأفعال وتناقضاتها الزمنية

إن الشاعر يوظف فعل “مت” كخيار متاح يوميًا للقارئ ليختاره أو يرفضه بناءً على الزمن والمكان الذي يمر به، فيتحول الموت هنا من كونه حدثًا حتميًا إلى تجربة يمكن تصورها في سياقات زمنية مختلفة. فعلى سبيل المثال، يكتب الشاعر “لا تمت في الصباح، لكن مت عند المساء”، مما يثير في ذهن القارئ تساؤلات حول طبيعة الحياة والموت، ليصبح الموت ذاته حدثًا يتغير دلاليًا مع تغير الزمن. يعكس هذا التكرار الأسلوب المعروف بمفهوم النص المفتوح، حيث يمنح القارئ الحرية في إسقاط تجاربه وخبراته الشخصية على النص.

في الفضاء الرقمي، يجد القارئ هنا فرصة لإضافة تعليقاته حول تجربته الشخصية مع التوقيتات المختلفة للموت، ليصبح النص تفاعليًا وغنيًا بالمعاني التي تتجدد مع كل قراءة جديدة، ويتماشى هذا النهج مع رؤية رولان بارت للنص المفتوح كنظام تفاعلي بين النص والقارئ [3].

 التحليل النفسي لتفاعل القارئ

في نص “الموعد”، يواجه القارئ من خلال قراءته للنص خيار التأمل في رؤيته للموت: هل يعتبره نهاية، أم مجرد حالة انتقالية؟ هذه الأسئلة تتناول المخاوف الداخلية لدى القارئ وتدفعه إلى استكشاف أعماقه. هذه التفاعلية بين النص والقارئ تجعل القارئ جزءًا من تجربة القراءة، حيث يمكن له مواجهة هواجسه الخاصة المرتبطة بالموت والحياة. بالتالي، يمكن القول إن نص “الموعد” يوفر تجربة تأملية تعزز من القيمة العاطفية للتجربة الأدبية، وتجعل القارئ شريكًا فاعلًا في إعادة إنتاج النص بناءً على حالته النفسية الخاصة وتجاربه الشخصية.

 ثانياً: التعددية الوسائطية ودور العناصر البصرية والسمعية

تركز “نظرية الوسائط الجديدة”(أو ما يسميها الصلوي: النص ميديا) على تكامل العناصر البصرية والسمعية في النصوص الأدبية، ما يسهم في إثراء تجربة القراءة ويضيف لها أبعادًا مختلفة. وأشار ليف مانوفيتش إلى أهمية الجمع بين الكلمات والصور والأصوات لخلق تجربة متعددة الوسائط، تعكس التفاعل بين الأبعاد الفنية والبصرية داخل العمل الأدبي [2]. وفي نص “الموعد”، يوظف الصلوي تكرار الكلمات والمفاهيم الزمنية ليخلق نوعاً من الإيقاع السمعي والبصري.

 البعد البصري للنصوص في الأدب الرقمي

يرسم نص “الموعد” بُعدًا بصريًا حيث يتكرر استخدام صيغة “لا تمت” و”مت”، مكونًا تدفقًا بصريًا يشبه عرضًا زمنيًا متغيرًا يتبدل مع الأوقات، مما يوحي للقارئ بأن الموت ليس نهاية بل حالة انتقالية قابلة للتغير. حيث تتجلى الصورة الشعرية في هيئة متواليات تستدعي للذهن مشهد جدول زمني متعدد الأبعاد عن كل لحظة من اليوم وهذه الطبيعة البصرية للنص تسمح للقارئ بتصور اليوم كلوحة زاخرة بألوان زمنية متعددة، حيث تعكس الخطوط المتوازية دلالات متغيرة حسب وقت اليوم، وهو ما يجعل النص أكثر تفاعلًا مع القارئ، ويحفز على التفسير الشخصي.[1]هذا التكرار يعطي القارئ حرية اختيار التوقيت الأنسب للموعد مع الموت. يذكرنا هذا التأثير بالنظريات التي ترى أن الوسائط المتعددة تتيح للقارئ رؤية النصوص كفضاءات بصرية متغيرة؛ فالأدب الرقمي قادر على أن يجعل النص يبدو حيّاً، كلوحة تتغير تفاصيلها حسب تفاعل القارئ معها.

 البعد السمعي والتكرار الإيقاعي

بالإضافة إلى البعد البصري، يوفر النص بُعداً سمعياً يعزز تجربة التلقي، حيث يمكن للقارئ أن يسمع إيقاعاً خاصاً ناتجاً عن تكرار العبارة “مت” و”لا تمت”، فتشكل هذه التكرارات موسيقى داخلية شبيهة بدقات القلب، وتتغير دلالتها وتفسيرها مع كل قراءة جديدة، مما يخلق موسيقى داخلية تضفي عمقًا عاطفيًا على النص. يتيح هذا البعد الإيقاعي للقارئ أن يتفاعل مع النص من خلال تجربة حسية أقرب إلى الإيقاع المتواصل، مما يعزز من تجربة القراءة ويجعل النص ينبض بالحياة على مستويات متقدمة من التفاعل والتفاعل العاطفي.

يتيح المزج بين العناصر الصوتية والبصرية للقارئ فرصة للتفاعل العاطفي مع النص، فيصبح كل جزء من النص نغماً من المعزوفة الكاملة التي يستمع إليها القارئ ذهنياً. إن هذا التحول في طبيعة النص من مجرد كلمات إلى تجربة موسيقية-بصرية يعكس رؤية نظرية الوسائط الجديدة التي ترى أن الأدب يمكن أن يكون فناً متكاملاً يخاطب الحواس.

 ثالثاً: الفضاء الرقمي وإمكانيات التأويل الموسعة

يتيح الفضاء الرقمي للقارئ فرصًا جديدة للتفاعل مع النص عبر إضافة تعليقاته أو آرائه الشخصية، مما يوفر للتجربة أبعادًا تفاعلية تجعل النص نفسه قابلًا للتغير مع كل قراءة جديدة. في نص “الموعد”، يسمح التفاعل الرقمي بتوسيع مفهوم الموت كخيار متاح، حيث يمكن للقارئ مشاركة تجربته الشخصية مع النص، مما يوسع من التأويلات ويضفي على النص ديناميكية متجددة. وربما يمكن للقارئ إضافة نسخته الخاصة من النص. على سبيل المثال، قد يُضاف خيار للقارئ يسمح له بتحديد مشاعره تجاه كل موقف في النص الرقمي. وبهذه الطريقة، يصبح “الموعد” ليس مجرد قصيدة عن الموت، بل يشكل مساحة تفاعلية لعكس تجارب القراء الشخصية تجاه الموت والحياة، وبذلك يعتبر النص انعكاساً متعدد الطبقات لأحاسيس وتصورات متنوعة. [5]

تعكس هذه التجربة التفاعلية رؤية ماري-لور رايان حول الأدب التفاعلي الذي يسمح للقراء بالتفاعل مع النصوص بطرق متعددة، مما يفتح المجال لإنتاج معاني إضافية تتغير وفقًا لتجارب القراء وتفاعلهم مع النص بطرق مختلفة وفريدة [2]. يصبح النص الشعري، بهذا الشكل، فضاءً مفتوحاً للتفسير والتأويلات الشخصية، حيث تساهم كل قراءة جديدة وكل تعليق في إعادة تشكيل المعنى، ليصبح النص كأنه في حالة تطور دائمة مع الزمن. الفضاء الرقمي هنا لا يقتصر على تقديم النص، بل يتيح للأدب الرقمي الانتقال إلى مرحلة جديدة تتجاوز النص الثابت إلى نص تفاعلي متحول.

في ختام التحليل لنص “الموعد” للشاعر هاني الصلوي، نجد أن النصوص الرقمية تعيد صياغة المفاهيم التقليدية للشعر، حيث لم تعد مجرد انعكاس أدبي للمعاني بل أصبحت مساحات مفتوحة للتفاعل المتجدد مع القارئ. يقدم النص الرقمي وأعني نص الموعد هنا بُعدًا تفاعليًا ثريًا يستفيد من تعددية الوسائط، مما يجعل من كل قراءة تجربة مميزة تدمج بين أبعاد النص السمعية والبصرية. عبر هذا الفضاء التفاعلي، يبتعد النص عن كونه تعبيرًا أحادي البعد، ليصير فضاءً تأويليًا يسمح للقارئ باستكشاف معنى الموت والحياة، مما يضيف للأدب الرقمي قدرة فريدة على إعادة تشكيل علاقة حيوية بين النص والقارئ، ويجعل منه محطة مهمة في تطور الأدب المعاصر.

 المراجع:

  1. الشمري، حافظ. (2013). الأدب التفاعلي الرقمي: الولادة وتغيير الوسيط. الأردن: مركز الكتاب الأكاديمي.
  2. الصلوي، هاني جازم. (2016). الحداثة اللامتناهية الشبكية: آفاق بعد ما بعد الحداثة؛ أزمنة النص – ميديا (الطبعة الثالثة). القاهرة، مصر: مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر.
  3. Barthes, R. (1974). S/Z: An Essay. Hill and Wang.
  4. Manovich, L. (2001). The Language of New Media. MIT Press.
  5. Ryan, M.-L. (2004). Narrative across Media: The Languages of Storytelling. University of Nebraska Press.