كتابات

“الّرواية تخلع تاريخها”

د. سلوى العبّاسي بن علي

 

  • ” السّرد الخالص” نبوءة رواية

      لقد اخترنا في مداخلتنا هذه طرق رواية “سعادته السيد الوزير” للكاتب والجامعيّ التونسيّ حسين الواد المكتوبة قبيل ما سمّي” الثورة التونسية”[1] والمنشورة بعيدها من مدخل السخرية  وتجلّياتها الفنيّة في منطوق الخطاب لنلحظ أثرا فنّيا  تونسيا لم تبلغ مبلغه روايات أخرى في  محايثته الدّقيقة متغيّرات الواقع إلى حدّ جاز معه القول بـ”نبوءة” الرواية واستباقها حدوث لحظة تاريخية فارقة حاسمة لم تقلب نظام حكم قائما فحسب، وإنما خلخلت موازين و راجعت حسابات وارتجّ لوقعها أفق كريه، كريه جدّا، آسن بروائح العفونة والفساد .

لم تلاحق الرّواية مرويّها هذه المرّة  لتقصّ أحداثا وقعت وانتهت ولكنّها استبقت تاريخها  مّا جعل خبرها مثيرا للدهش مكتملا بذاته خالص المشروع حتى قبل أن يشرع في سرده ،إنّ الرواية آسرة للقارئ بفرادة خبرها وجرأته  تؤكّد بما لا يدعو إلى الشكّ مقولة “السّرد الخالص“(Le récit a l’état pur) كما أماط عنها اللثام “جيرار جينات” Gérard Genette )) لينبّهنا إلى ضرورة التخلّص من “الفرادة السلبيّة للخبر”(Singularité négative)  التي كرّستها فكرة المحاكاة الأرسطية  ويجعلنا نتخفّف قليلا من حمولة الثنائية المزعجة التي أقام “بنفنيست” (Benveniste) رسومها في أذهاننا بين مكوني كل ّ سرد أي الزوج: “قصّة/خطاب، بينما الخبر في محموله العرفاني هو أفق اكتمال الظاهرة السردية فكرة ونسقا تصوريا متخيّلا يبنى عالما أشبه بالحقيقة، الأحداث فيه مستقلة بذاتها “أنطولوجيا قبل أن تتبع حكاية مّا[2]

 لا فكاك من الإشارة هاهنا إلى القيمة النوعيّة للخبر في رواية الواد التي تعكس أثره التخييلي وخطورته المرجعية في ذات الوقت ،فالتسجيل والتقاط الصّدى ركيزة المشروع الفني للرواية، بما هي رواية واقعية سياسية تقدّم صورة فبيانا، على أساسه كانت التركيبة الفنيّة المشكّلة للبنية الحدثية الأمّ أو الأصل السردي الكبير للمتن تحديدا” أو مخطوط الرواية” و سفر تكوينها الخالص قد اتّخذت منحى خطّيا تصاعديا على درجة عليا من الاتساق الداخلي للحبكة ومن التواشج المنطقي بين الأحداث رابطها علي سببي بالأساس يؤكّد فكرة “الجزاء” والحساب  و يجد له  القارئ في مطلق الأحوال تبريرا في الخارج قبل الدّاخل. هي  تقنية كاد يهجرها كتاب روايات الحداثة وروايات ما بعد الحداثة لظنّهم أنّ الإبداع الموغل في التحديث يقتضي كثافة الانكسارات والتعرجات والتجاويف في سيولة الزمن ،وعلى النقيض من ذلك نجد أنّ قصة الوزير بتناميها الخطي التصاعدي ذاك وبارتكازها على المنطقي المبرّر المتوقّع إنّما كانت رواية تاريخية مقصودة تعدّ للحظة انفجارية هادرة كالصرخة القادمة من الأعماق المختنقة بشتى مظاهر الظلم والقمع والاستبداد وقد آن أوان انفجارها عندما تبلغ الأزمة الذروة وعندما يصبح الفساد غير محتمل، لقد كان لا بدّ لذاك التنامي من حدث انقلاب يرتجّ من تحته أفق ويُطوّق مسار جائر وتُراجع حسابات، ساهمت الرواية بتماهيها مع مرويّها السياسي الاجتماعي لوهلة في كشف الغطاء عن فترة حكم الرئيس الثاني المخلوع ، دون حاجة إلى الإصداح المباشر بصرخة “الديغاج” فحسبها أن تهيّء لها وجعلها مختمرة منطقيا وتخييليا بمدى صدقيّة “سردها الخالص”.

لم يعش زمن الرواية اللحظة التاريخيّة الفارقة لاندلاع الثورة لكن أفلح في إحلالها جاعلا من صوت الحكي غير المباشر أي الساخر من مرويها مختلعه على نحو من الأنحاء، يردّد أصوات واقعه بنبرة جمعيّة توحّدت في مطلبيّتها، بله في ملحميّتها لتقول للفاسد ومنظومته وأعضاده والمتواطئين معه ومن صفّقوا له ومن انتهزوا وساندوا : “ديغاج أو “ارحل” كفانا فسادا وظلما وقهرا ولصوصية.

وهذا ما سيصلنا بالخطاب وجها آخر من وجوه التفاعل مع التاريخ ومحاورته فماهي ميزاته؟ وما تجليات آثاره القولية في الرواية؟

  • الخطاب الروائيّ السّاخر، الرّواية تخلع تاريخها

      حين نقلّب الرواية على الواجهة الأخرى ،أي واجهة الخطاب نفجأ بمدى تعقّد مشروعها القرائي وبأنّها كغيرها من الروايات التي تلقي علينا بسلطان غوايتها تثير الدهش ببنيتها الخطابية المركّبة خلافا لما تبدّى من بساطة خبرها أو مرويّها وتسجيليّتها الفجّة أحيانا في عكس الواقع والإسفار عن قبحه، كيف لا وهي رواية “الخطيئة الجماعية” مجبولة من “الفساد” غائصة فيه إلى التّرائق، حتى لا نكاد نعثر على قيمة إيجابية واحدة ترمز إليها شخصيّة البطل كما سائر الشّخصيات تصوّر عالما مرجعيا يعبق بروائح العفونة المتأتّية من الجرائم السياسية والاجتماعية الأخلاقية والخطايا التي لا تكاد تحصى ولا تعدّ ،لم يتردّد الواد في تركيزه على تكرار فعل الخطيئة في أن يورثنا إحساسا لا يكاد يبارحنا من البداية إلى النهاية ،أننا نجوس دهاليز عالم مظلم مكشوف أشبه بـ ” ماخور مستور جاء من سحب عنه الغطاء” (ص133)

 وحينما نعاين الخواصّ الأسلوبيّة للخطاب نجد أنّ الواد لم يكتف بالتسجيل والمتابعة عن كثب، بل كان عليه أن يدلي بموقف ممّا  قصّ وروى، هنا يبدأ الخطاب في مفارقة مرويّه وخبره ليقيم المسافة الفراغية الاستعارية لا الكنائية ويشرع في خلع تاريخه ونزع سحرية المطابقة مع الواقع مرتديا ثوب “السّخرية”،لا مرية في أنّ خطاب الرواية خطاب ساخر ناهض بعدّة مقومات فنيّة أسلوبية علينا استجلاؤها:

  • الحوارية السّاخرة  الرواية تسخر من نفسها

 

     يتأسسّ مبدأ “الحوارية(Le dialogisme) على قاعدة “تعدّد الأصوات“،أ يي كلّ ما يجعل “الخطاب يقيم ،عن قصد أو عن غير قصد، حوارا مع الخطابات السّابقة له، كما بإمكانه محاورة ما سيأتي والتنبّؤ به وحدسه[3] وهو في الرواية خصّيصة جمالية أجناسيّة  تعرف بها أكثر من غيرها من الأجناس بل تتعنّاها وتتقصّدها في  أغلب الأحايين، بل لعلّها رهان روائيّتها، عرفها النّقد الرّوائيّ واختبرها عبر أكثر من اتّجاه ومحطّة لتنبري الرّواية الجنس الاكتساحي، المارد،النّزق، الكائن اللغوي “متعدّد الأساليب “(Pluri stylistique)، متعدّد اللغات أو الخطابات بنفس القيمة لأنه – كما يصفه “ميخائل باختين” ) (M.Bakhtine أيضا “منظومة لغات ولهجات “قانونها الصّميم هو “ تغايرها التكوينيّ “(Hétérogénéité compositionnelle )[4] وقدرة خطابها على حفر خروق ومسارات إيهام داخلية وخارجية بالتعدّد والتناظر وحتى التناقض أحيانا في الرؤى والمناظير المتّصلة بفعل الحكي، وفي ذات الوقت تدعى الرّواية إلى الاحتفاظ بأقصى حدود انسجامها القوليّ والمسك بنواصي السرد المطوّل الذي تذوّب في منطوقه أخلاط خطاباتها وتزيل الفوارق بين لهجاتها و مستوياتها اللغوية وتدحو الحدود الفاصلة بين سجّلاتها، ،ذلك أنّ الملفوظ الروائي “مؤدلج” بطبعه، أي ” مشبع بالإيديولوجيا” ،و تعدّد الأصوات فيه لا يحجب أبدا حقيقة كونه “مذوّتا” أو”ممركزا خطابيا” ،أي خاضعا إلى وحدة المنظور جذبا ونبذا ،محكوما بالرؤية “الفرديّة اللغوية والكلامية الواحدة التي للمؤلف[5] هي التي تمنح ذاك الكيان اللغوي ما به يستحقّ الإعجاب ونعت الفرادة.

أمّا علاقته بـ”السّخرية(L’ironie) فتستدعي منّا تدقيقا اصطلاحيا للمقصود بها ليس “قلبا للمعنى” وإفسادا للحقائق و تبديلا لملامح الخلائق بالمبالغات والتهكّم والمفارقات العجيبة الغريبة المثيرة للعجب والضحك وليست كذلك  كما في المنظور البلاغي القديم ،وجها من ” البيان” (trope) القارة كالتشبيه والاستعارة والكناية…، ولكنّها – مثلما بات ينظر إليها حديثا خاصة عند “أزوالد دوكرو” (O Ducrot).-  “تنهض على تعدّد الأصوات النّاجم عن تعدّد  صور المتلقّي نفسه ومواضعاته وأحكامه القيميّة ووجهات نظره ممن كان موضوع تلك السخرية ومن فعل القول السّاخر ذاته[6]

فالسخرية استراتيجية إقناع كغيرها من”الاستراتيجيات ” الحجاجية من خلالها  نتنصّت إلى أصداء القول السّاخر في واقعه ونتوقع ردود الأفعال عليه حتى قبل حدوثه و نتقمص أدوار الغير لنعمّم أوضاع الضحك ونشيعه جميعنا في أكثر من اتّجاه ونضمن بذلك نجاح خطته السّاخرة، فالسخرية تستدعي قدرا من الترتيب و”المنتجة” والتحويل وإعادة التركيب من المخاطب على قدر ما تحتاجه من المخاطَب من قدرة على الفهم والتأويل وبلوغ مرمى و مقاصده الظاهرة والثاوية في عمق الخطاب خطابا جمعيا تتردّد فيه أصداء الذّاكرة لا فرديا يصبّ جامّ حنقه أو سخطه بمفرده. [7]

 على المتلقي أن ينخرط بدوره في مشروع باثّ القول ويسهم من ناحيته في دفع عجل محرّكاته وتأكيد دوافعه، فهي لذك  مسار تداوليّ يتنامى بحيل الفكر والتدبر والنقد قبل أن يربو بالتصوير والتّحبير  فالسخرية جهد تصويري من صانعها يقابله جهد تفكيريّ من متصنّعها بالتوهّم والتّخييل[8]

      من ثمة ، تعمدّ الكاتب أن يجعل قصّة الوزير قصّتين ويلعب في مفرق الخطاب المتعدّد والخبر الواحد لعبة تشبيك المناظير واستغراق الإدانة حتى تبلغ أقصاها وتنقلب على ذاتها باستدعاء الصّدى وصدى الصّدى حتى يغدو صوت الفساد كالطنين يدوّي داخل الرأس أي العمق الخطابي المفهوم لا ذاك المسموع داخل الأذن أي أن الذاكرة بعيدة المدى تتجاوز بمفعولها التصويريّ الذّاكرة التسجيلية القصيرة للقصّ وتقلب حقائقها أحيانا إلى ما يناقضها. ألم يكن اختيار الواد لتركيبة فنية قوامها ثنائية “الحاشية” و”المتن” أو قصّة القصّة والقصّة المضمّنة  اختيارا مقصودا يخفي نوايا مبيتة في الرواية للسخرية حتى من ذاتها ؟

فالخبر قصة رويت على مراحل ثلاث من خلال وجهات نظر متناوئة الرؤى السردية عب ثالوث من الرواة :

–        قصة الحاشية وراويها سارد محايد من خارج الأحداث دوره أن يخبرنا كيف  تمت عملية النشر بمحض الصدفة وبمنطق عبثي لا يوائم المنطق السببي المحبوك داخل قصة المتن الذي يقوم على فكرة الجزاء والعقاب عقاب الوزير الفاسد على رصيد خطاياه،لكن أن تعاقب الرواية نفسها وتجهض مشروع  نشرها منذ البدء فهذا ما لم يكن متوقعا أبد.

–          قصة خاتمة الرواية رواها راو عليم بالأحداث من خارج أحداث المتن هو جار الوزير رجل الأمن الذي أخذ المخطوط وفشل في نشره لكن نجح في إعلامنا بالنهاية المأسوية

–        قصة الوزير يرويها بنفسه في مسار حكي متناسق يمضي الأحداث قدما في مسار خطي قليل الاسترجاعات  والاستباقات يمضي به نحو حتفه حتى يزجّ به في السجن فمستشفى المجانين و يقتله مجنون آخر “مجنون يقتل مجنونا”

وكأنّ الواد يوجّه إدانة ضمنية إلى أدباء عصره وكتاب الرواية تحديدا وإلى جيل مثقفيه المعاصرين من عاشوا مرحلة الاستبداد فسكتوا عنه فكان سكوتهم أشد أنواع الفساد بل كان انخراطا ضمنيا في منظومة ذاك الفساد فـ”اللعبة كانت كبيرة ،أكبر من أن يلعبها وحد(ه) رجل مثلـ(ه) كان معلّم صبيان” لذا قال:”،أدركت سيدي الحاكم أنّي دعيت لأكون بهلوانا لا غير مجرّد تيّاس من تيّاسي  عهدنا الباعث على القرف،لكنني كمعظم البهلوانيين ومعظم التيّاسة ظننت الامر جدا“(ص96)

وفي الأثناء كانت رواية “تدقّق في الوجوه، تتأملها واحدا واحدا فلا تتبيّن في أيّ واحد منهم وجها حقيقيا صادقا” (ص87) فما أكثر من شابهوا الوزير وماثلوه في الملامح والأفعال ولا يذهبنّ بنا الظنّ أنّ مشروع الخطيئة تتحمّل أوزاره رواية شخصية الواحدة رغم طغيانها على ميزان الحكي فــ” الآخرون  ما أكثر عيوبهم سرقة وكذّابون ونمّامون وخونة وقفّافون وانتهازيون ووصوليون وفاسقون ومخاريط” ألم يكن من الأجدى والأعدل أن يقع “القبض عليهم أجمعين وجرّهم إلى التحقيق؟” (ص 133)

  • خطاب الاعتراف المتخلّع من السّائل ؟ومن المسؤول عن منظومة الفساد؟

إنّ اللافت للانتباه أنّ بطل الرواية حامل مشروعها الخائب كان من البداية إلى النّهاية يتكلّم خطابا أقرب

إلى “أدب الاعتراف”،غير أنّ هذا المعترف بسيرة فساد وإفساد متبادلة بينه وبين من أحاط به من شخصيات عائلية (رابط الخؤولة الذي أوصله إلى سدّة الحكم) وسياسية (الرئيس وحرمه وأعضاء الحزب الواحد) وإدارية نسائية وغيرها (الكاتبة الأولى والثانية، المخبرون، موظفو الوزارة…) كان يزن كلامه بميزان التّبرير ويمارس الهجوم أكثر من الدّفاع وخطابه السّاخر من نفسه في بعض الأحيان (صورة المعلّم الديك وأبلغ مثال قوله على لسان: “السيدة الأولى”: “لا تبدوعليه هيئة المعلّمين  يبدو  مستوى المهام التي يتقلّد سرّني كلامها المبطّن بازدراء الصّنف الرّفيع الشقيّ الذي انسلخت عنه لأحلّق في الأعالي الشّاهقة” (ص97 ) لا يعكس وعيا شقيا مأزوما كما هو شأن من يجلس إلى كرسي الاعتراف ولا إشارة فيه تدلّ على ندم أو حسرة على ما اقترفه من أخطاء وخطايا:” لا أدري ما الذي تملّكني ذات يوم حتّى ظللت خجلا من نفسي أشتدّ عليها باللوم فلا ألقى منها تجاوبا،لم أتبيّن فيها ذرّة واحدة من ندم بل كان يستغرقني منها ضحك كثير وعجب أكثر”( ص )83،بل كان في أغلب الحالات ينقلب إلى خطاب مساجلة لـ”الحاكم” أو القاضي صوت العدالة وضمير مجتمع الكاتب ومؤسسة التاريخ التي قضت بحلّ التجمّع وإسناد تهم إفساد حقبة تاريخية كاملة إليه وإلى رموزه داخل السلطة وخارجها   يتحوّل الوزير في أكثر من موقع من مواقع المتن من مسؤول إلى سائل فيقوم هو بمحاكمة تاريخه بدل أن يحاكمه وتعلو نبرة الاعتداد بالنفس فيبدو في منتهى الوقاحة والصفاقة والصلف مكررا جملته الاستفهامية المشهورة “ماذنبي إذا كان كذا.. وكذ..ا ؟” لازمة الحكي في الرواية وترجيع الخطاب السّاخر وعنوان صلافة وعيه الصفيق (تكررت 12 مرة في الصفحات: 78/91/101/113/ /134/142/149/155/ 171/197/223/259/

أفهل تنبّأ حسين الواد بما يجري الآن أيضا بحوارية ما بعد الثورة وتجاذباتها السياسية الخائبة التي دلّت على نكوص قوى تظنّ أنّها الغالبة بينما هي لم تحسن استثمار الثورة وأخرى عادت إلينا من جديد تتشدّق بماض حسبنا أنّنا طلّقناه وخلعناه؟

 لكأنّ الرّواية هنا تخلع تاريخها مرّتين قبل الثورة وبعدها لتبقي حساب المحاسبة مفتوحا مشرعا على أكثر من احتمال. وحسْب الرواية أن تتوقع ولا تنتصر،أن تلّمح ولا تصرّح.

  • التعدّد الرّديء:

في الرواية منحى تناصيّ يقترب كثيرا من مفهوم “الكتابة الطرسية “،يؤكّد  مجّددا عمق الصبغة الحوارية السّاخرة فيها نتبيّنه عبر مناسبات عدّة:

  • محاكاة “الأسلبة”(Stylisation) والتلاعب بالترادف الكنائي بين السجلات

يتعمّد الكاتب في لغة الرواية على سبيل السخرية بالمعجم من مدى شيوع العفونة واستشراء الفساد  “أسلبة”  مفردات الفساد ومترادفاتها الشّائعة في الدّارجة التونسية من قبيل:

–        “دار خالتي” منزل الخالة/ دار خالتي (السجن)

–        “البلّوط ثمار/البلّوط (الكذب)

–        معلّم (مدرّس)/ معلّم (ماهر أو داهية في التصنّع)

–        “بوي فرند (الخليل بالانجليزية)/سيف فرند (سيف موشى الغمد بالعربية)

فيتفنّن في استعراض مفردات قائمة تفوح منها روائح قذارة مقصودة لذاتها وبذاتها يناور بها فهم القارئ جاعلا منه شريكه في مشروعه التهكّمي مشاركة حسية مشتركها الدلالي معجم الرائحة، فهي عنده ليست مجرد مثير حسيّ يلتقط بحاسّة الشمّ ،بل هي مسرح متكامل من العلامات الظاهرة والباطنة، تبلغ  قمة مفعولها “السيميولوجي” حينما تستفز كوامن الذاكرة الحسيّة والمعجمية معا بالارتكان إلى الأرصدة المخزّنة في معيشها اليومي .إنّ “سيميولوجيا الروائح عند الكاتب لعبة روائية لا تقوم على رجع صدى الأصوات المسموعة ،بل على رجع صدى الأصوات “المشمومة” ولا أبلغ من الصوت – عنده- دالّا معبّرا عن الرائحة إكسير الخطاب السّاخر . إذ يرصّف الواد قائمة مفردات تحتوي حرف “الخاء” يستلّها من الذاكرة المعجمية للقارئ ،مشتركها الدلالي كلّ المعاني الهجينة “العطنة” الدالة على العفونة والقذارة في الدّارجة التونسية ،ولا أدلّ على ذلك من البداية الصادمة التي ينفتح بها نصّ الرواية مغلقا ربما شهيّة القارئ حتى لا يبدأ القراءة بمزاج عطر: “ما أراني إلاّ كنت منذورا لأن أمخر من حيث لا أدري باب الأجوف من الأدواء “الخبيثة” واللفظة عليها شطب يشير إليه الهامش إمعانا في التهكم عبر التقبيح (ص33) ونجده يدعي إخفاء اللفظ القبيح ليعوضه بآخر لكن سرعان ما تتداعى الألفاظ القبيحة من نفس القائمة دون تشابه في الحقول المعجمية أو السّجلات، رابطه الوحيد هو أنّها تبدأ بحرف الخاء أو تحتويه (“خلائق مقلّبة، مخبرين،خرجي الملازم”…)يقول: “تستفزّني المبالغة في لغتكم التي تعتبرونها أفضل اللغات حتّى زعمتم أنّها لغة الفائزين بالجنّة مثلما يهزّني فيها حرف الخاء أو جسد غضّ” (ص149)

 لم يعد حرف الخاء في مدارات القول السّاخر متعدّد اللهجات والأصوات مجرّد صامت من الحروف الصوامت في اللغة العربية، بل هو مسرح متحرك يعجّ بفنون الاستعارة والمحاكاة والتمثيل، فلا يرد على لسانه الروائي معجم من معاجم الروائح إلاّ وكان” مفعما بشيء من التمثيل” إذا استعرنا العبارة من الرواية وهي تعريّ نفسها بمنتهى التجرّد المشوب بالصفاقة، ذاك فنّ الغواية حينما يتفلسف واقعه على نحو مّا (ص86)

  • محاكاة الملق وخطاب “البلّوط”

 

لا يقلّ العنوان قيمة في هذا الإطار حين يشير إشارة واضحة إلى أنّ  رواية حسين الواد مختلعة من متن وقائعها مهتلبّة من مسرد تاريخها ومن زخم أصواتها معتقّة من  أصداء الفساد في الواقع التونسي الذي عشناه مدة سنوات من استبداد الزعيم الواحد والحزب الواحد واقع لا تسمع فيه سوى أصوات تلهج بذكر رموزه فتتجاوب كالمدائح  يمخر عزيفها التاريخ ليعيدنا إلى صورة الآلهة في ميثيولوجيا الشعوب المسحوقة.

 العنوان جملة إخبار لكنها تحتمل معنى  النّداء وفي متن الرواية كثيرا ما تتكرّر صيغ مناداة أصحاب السيادة أرباب السّلطة بخطاب مدّاح مشبع بإطناب الصفات المحمودة في تراكيب بدلية تؤدي وظيفة المنادى وبدل المطابقة فيها يعبّر عن مفارقة ،إذ لا تطابق الذوات  الغارقة في الرّذيلة الأخلاقية والسياسية الصفات المحمودة المنادى بها لينمّ أسلوب النّداء عن إيغال في التملّق وتوقير المنادى الخالي من المناقب  التاي تستحقّ ذاك المديح، فإذا به نداء أقرب إلى “تأكيد ذمّ شخصية “الوزير ” وأمثاله (مبعوث الدولة العظمى، رئيس البلاد، رئيس الوزارء)، بما يشبه مدحها” لا سيّما وهي نكرات تعمّدت الرواية حجب هويتها وشطب أسمائها من سجلّ القول ومقوله لتحتفظ فقط بصفاتها المغالطية المزيّفة، فهي الذّوات الشبحية العائمة على سطح تلك العفونة الآسنة ،وهي الجمع المفرغ المنتفخ بالخواء الخطاب الذي يبادل مناديه لعبة الخفاء والتجليّ فيقول له: لست غير ” بيّاع كلام بارع” ويقول المادح: “لم أتبيّن المدح في هذه العبارة من الذمّ” (ص 76)

فكيف “يصطنع المعروف إلى اللئام” والمناقب تستلهم من تاريخ الأفعال لتبلغ مبلغ الاستحقاق؟ هلاّ يجيز الاستحقاق من الناحية التداولية البجلة التي بموجبها يصبح خطاب توقيرهم “موفقا” في واقعه ومرجعه وتاريخه؟ ألا يصحّ الحديث عن “إخفاقات” ذاك القول  (Mis fiers) و”فساد” مفعوله الإنجازي (Abuses) لو استعرنا المصطلح التداولي لـ”أوستين” في سياق حديثه عن “الإنشاء الإيقاعي واستعاضته عن مبدإ الصدقية بمبدإ “التوفيق” فيقال هذا القول “موفّق” أو “غير موفّق[9]

وكيف يوفق من كان مجبولا من “ملق”؟ تلك أبلغ تجليات الخلع والإزالة لآثار التسمية في الواقع وهي تفضح خطابا كذوبا لطالما مجّته الأسماع ولاكته الألسنة عن غير إحساس بصدقه وفحواه.

فما هو” الملق” لغة؟

جاء في نهج البلاغة لابن أبي حديد قول الإمام علي – كرّم الله وجهه- ” الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق والتّقصير عنه حسد” وقوله إنّ “كثرة الملق يحدث الزهو ويدني من العزة” بينما “التملق فهو الزيادة في التودد والتضرع والدعاء فوق ما ينبغي وإظهار الود فوق ما هو موجود، سواء كان هناك ود بدرجة ضعيفة أو لم يكن هناك ود أصلا.

وكذا كان خطاب المديح في الرواية”لسانا ذليقا ولفظا أنيقا”  يحاكي بسخرية حقيقة ما كان يجول في دولة حكمتها عصابة من السرّاق ولم يكن فيها أي وجه للاستحقاق.كهذا المثال:” ” يا سيّدي الوزير ،يا صاحب العقل الرّشيد والفكر السديد ، يا صاحب القدرةوالجاه، ..يا صاحب اليد الطّويلة والقلب الرّحيم والأخلاق الفوّاحة.. يا ملاذ الملهوف يا كهف المظلومين يا الأمل الذي شعشعت أنواره في قلوبنا” (ص ص 70-71)

تتسع حينئذ، دوائر الخطاب المستعير صيغ آداب قوله التسلّطية من الجهوي الى الوطني المحلي إلى العالمي الكونيّ، ويلقي التاريخ البعيد  لوطن السارد بظلاله على تاريخه القريب المعروف بنهب خيرات هذا الوطن وتعريضه للانتهاك “هل الذّنب ذنبي يا سيدي الحاكم إذا كان بلدنا يقع من أقدم عهود التاريخ في صميم أطماع الدول؟ ما من دولة في القديم أو الحديث كان لها في الغزو شأن إلاّ رمت علينا شرّها”(ص 113)

 (نذكر هنا “مؤتمر الشحّ المائي” المنعقد بإسبانيا وما في المكان من رمزية تتوهّج أبعاده التاريخية الثقافية ،فقد كان شاهدا على حقبة مجد وامتداد انحسر إلى حد أصبح فيه شهوة تلبّى داخل علبة ليليّة (ص121-122) لتؤكد في النّهاية ان الرواية لا مرية في كونها من النوع السياسي” الضارب بجذوره في عمق الفساد حينما يستحيل تاريخا متتاليا من النّكسات.

– مخطوط الخطوط الرّديئة

لم تتخل الرواية عن أصولها الحوارية حينما انتهجت نهج” التناص” والكتابة على الكتابة، “قلّبت الملفّ ورقة ورقة فصادفت فيه فقرات منسوخة حرفيا بخط رديء” (ص117 )فكان رجع صدى الصوت مكتوبا يجمع فيه المخطوط الكبير مخطوطات أخرى كتبت بخطّ أياد مرتعشة، من الخوف والفقر والمهانة، فاقدة لقيمة الكرامة تستعطف وتتوسل أرباب السلطة ليمنّوا عليها ببعض فتات أياد احترفت مهنة التصفيق “أياد تصفّق وتمتد الي بالرسائل” (ص71)ونستحضر هنا خاصة المشهد الحواري لاجتماع الوزير بعوام إحدى القرى وتسلّمه رسائل من عندهم كتبت جميعها باليد على ورق رديء بخطوط رديئة

معظم الرّسائل من إنشاء كاتب واحد الخطّ هو هو والعبارات متشابهة عدا بعض الصيغ” (ص71)

رأيت أن أحتفظ بها.. لأنظر فيها بين الحين كلما خنقني ضيق“( ص 72)

[1]  حسين الواد، “سعادته  السيد الوزير،تقديم شكري المبخوت، دار الجنوب للنشر،تونس ،2011

[2]G. Genette,.Figures II, Seuil, coll. Poétique.1969,p63

[3]  تزفيتان تودوروف،”ميخائيل باختين المبدأ لحواري “، ترجمة فخري صالح،المؤسسة العربية للنشر، بيروت،1996،ص16

[4] Françoise Rullier- Theuret, Approche du roman, Hachette, Paris,2001,p7

 

[5]  ” ميخائيل باختين، “الكلمة في الرواية، ترجمة يوسف حلاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق ، 1988،ص 12

[6] O. Ducrot, Le dire et le dit, 1984,

[7]   Danielle Forget, L’IRONIE STRATÉGIE DE DISCOURS ET POUVOIR ARGUMENTATIF, Études littéraires, vol.33, nº 1,2001,p.41- 54.

[8] Ali Assad, L’ironie polyphonique dans le discours   verbal et iconique, Tishreen University Journal for Research and Scientific Studies – Arts and Humanities Series Vol. (33) No. (1) 2011,p

[9] Austin J.L,How to do thins whith words ,Oxford,Oxford University Press,pp14-15

ذكره شكري المبخوت، نظرية الأعمال اللغوية، ص ص 40-41