كتابات

قراءة تأويليّة

 

بقلم آمال بولحمام( الجزائر)

صباح بارد،
يبتسم للفزاعة
صبيّ بساق واحدة

آمال بولحمام

“الهايكو ليس فكرة عميقة تحوّلت إلى شكل مختصَر، لكن حادثة مختصَرة وجدت حالاً شكلها الدقيقّ”؛ ربّما من خلال هذا التّعريف سأحاول أن ألج إلى تأويل النّص أعلاه خطوة خطوة
لعلّني سأبدأ بتلك الفزّاعة .فعادة مايستعين الفلاح بها – هذه الدمية المصنوعة من القشّ المحشو في ثيابه، على شكل صليب خشبي طرفه السفلي أطول من الأطراف الثلاثة الأخرى- والتي يرتفع عددها في فصل الصيف؛ فصل القطاف والحصاد…، ليفزع بها الطيور البريّة.
تنتصب هذه الفزّاعة وسط الحقل، فتراها مزهوة سعيدة في فصل الصيف، تعتزّ بنفسها عندما تنتفخ بالهواء الذي يملأ جسدها الأجوف، وتلك الريح التي تحرّكها يُمنَةً ويُسرةً لتبدو كالمارد الجبّار، فتخيف وتفزع بذلك الطيور التي تحاول الاقتراب من الحقل…
إلى غاية هنا يبدو أنّها معلومات عادية يعلمها الجميع منّا، لكن حينما تستأنف الشاعرة نصّها بـ: صباح بارد، وهي عبارة ضمنيّة دالة على فصل الشّتاء، هنا تكمن الدهشة التي تخلقها مفارقة مدهشة؛ هذه الخاصيّة الجوهريّة التي لازمت الهايكو منذ نشأته . يقول فلوبير:” إنّ حسّ المفارقة يجب أن لا يقتصر على رؤية الأضداد في إطار المفارقة، بل القدرة في إعطائها شكلا في الذهن”، يحضرني في هذا المضمار تعريف الشاعر والناقد “سيّد عفيفي”:” باختصار وتركيز شديدين؛ المفارقة هي إحداث منقلب حادّ في مسار النّص الأدبي، وحدّة المنقلب هذه لا تكون بأسلوب رمزي مهم، او مستغلق على عقل القارئ”، وهذا ماحصل بالفعل مع هذا النّص؛ فالنّص أعلاه مبطّن بأشدّ المفارقات جدّة رغم مفرداته البسيطة وقد تمكّنت الهايكست من خلالها تكوين ملحميّة خاصّة.
ألا يوحي لك عزيزي القارئ أنّ فصل الشّتاء يتسبّب في تحوّل تلك الفزّاعة المفزعة للطيور إلى كائن مهمّش قاصر، لا فائدة تُطال منه، لايُغني ولا يُسمن من جوع؟…ليأتي بعدها السطران الثاني والثالث ليفسّرا ذلك بشكل أوضح : يبتسم للفزّاعة/ صبيّ بساق واحدة، فترى ذلك الصّبيّ الذي يبتسم لحال تلك الفزّاعة التي تتشاكل ساقها وساقه المبتورة؛ وبالتّالي فهما يتوازيان دلاليّا من خلال اشتراكهما في كونهما يحملان ساقا واحدة، فشكّلت معادلا موضوعيا بالنّسبة لهذا الطفل، وأصبح الأمر سيان بينه وبين فزّاعة الطيور.
فكأنّ تلك الفزّاعة استحالت من ماردٍ جبّار إلى إنسان مكسور مهزوم مسلوب الإرادة، وذلك الصّبي الذي كان في زمن مضى يرمزللأمل والولادة والوجود… استحال هو الآخر إلى طفل متألّم استباحته الحروب والصراعات فوقع ضحيّة لها ؛ فترجمته بذلك الساق الواحدة.
لعلّ هناك تجاذب بين طرفي هذه المعادلة، أليست حالة العزلة التي يعيشها كلٌّ منهما، أقصد بذلك تلك الفزّاعة والصبي بساق واحدة، هذه الساق ربما التي فقدها أثناء الحرب وساق الفزّاعة التي ترتكز عليها – كما سبق الذّكر- ؛ فاجتمعت بذلك ثنائيّة( الفزّاعة، الطفولة) ضمن جدليّة (الحرب، الحياة)، (الموت، الأمل)…
فالفزّاعة بهذا الشّكل تحمل رؤية ودلالة واقعية ، تُشكل أيقونة تقترن مع الطفولة لتكون مجالا حيويّا وشكلا تعبيريّا للنّص، من خلال ربط هذا الأخيربالواقع ، واستكشاف رمزيتة ودلالاته.
البنية التوليفية للنص: اتّخذ هذا النص الذي بين أيدينا بنية “توري أواسيه” والتي تترجم تقسيم النص إلى قسمين أو مشهدين؛ مشهد أمامي يتمثّل في: صباح بارد، ومشهد خلفي في : يبتسم للفزاعة/ صبي بساق واحدة، ومن خلال ازدواجهما تنفجر الدلالة.
الكلمة الفصليّة (كيغو): فمن أهمّ شروط الهايكو الكلاسيكي هو تلك الكلمة الدالة على الفصول، وقد استعانت الهايكست بكيغو صغير (غير مباشر) والمتمثّل في قولها: صباح بارد الذي يوحي لنا بفصل الشتاء، والغرض منه هو الإحالة إلى كثافة لحظة من لحظات الحياة.
القطع (الكايرجي): تمثّل في تلك الفاصلة(،) التي أثبتتها الهايكست في آخر السطر الأول لأجل تقسيم الهايكو إلى قسمين ،وذلك لدعوة القارئ بطريقة غير مباشرة لاكتشاف العلاقة بين المشهدين وتهيئته للولوج إلى جوهر ولبّ الفكرة العميقة.
الآنيّة: ربّما يتّضح لنا من خلال الفعل المضارع “يبتسم” الدال على استخراج لقطة مميّزة بنظرة ثاقبة لحظويّة في غاية الجمال والبهاء.
الدّهشة: كنتُ أفضّل أن ترسم لنا الشاعرة علامة تعجّب الكانا (Kana) في آخر السطر الأخير، ولو أنّ الشاعرة ربّما رسمتها ضمنيّا؛”فكلّما كان مكمن الدّهشة أعمق (أقلّ وضوحا )كان الهايكو أفضل وعلى القارئ أن يجد هذا العمق”ن وهذا فعلا ماشعرنا فقد جعلتنا نتساءل عن سبب هذه الابتسامة التي رسِمت على محيا الصبي.
التّنحي: غُيّبت الذات الشّاعرة في نقل هذا المشهد؛ فقد تمكّنت الشاعرة ومن دون أن تقحم ذاتها في مجريات الحدث، أن تنقل لنا وبكلّ موضوعيّة مأساة ذلك الصبي الذي يشكو من إعاقته وتشاركه شعور العزلة مع تلك الفزّاعة الوحيدة في ذلك الحقل.
الاستنارة (الساتوري): تتمثّل في التّدرّب على عيش لحظة التّماهي والذوبان الكلّي في عناصر الطبيعة،ولعلّ هذا ما استشعرناه عبر تلك المشهديّة التي تتّسم بالتّأمّل العميق ومن ثمّ القبض على هذه اللّقطة الجماليّة المنشودة.
الوابي: هو استشعار ذلك التّغيّروالوهن الذان يطالان الكائنات مع مرور الزمن والتّأثّر بالطّبيعة وعناصرها،وأظنّه واضحا في هذا النص من خلال ثنائيّة: الفزاعة/ الصبي.
السّمات الجماليّة عند المعلّم الأول للهايكو الياباني “ماتسو باشو”: (الشوفو): وهي أربعة: السابي ، الشيوري، الكارومي، الهوسومي، كما يمكن إضافة اليوغن.
السابي: يرتبط بنفسيّة الطفل بعد الإعاقة المتأثّرة بحالة الحزن والعزلة مع الغبطة الخفيفة التي كان يشعر بها عندما رأى الفزاعة؛ أي أنّ هناك ما يشاطره الشعور ذاته.
الشيوري: استطاعت الشاعرة أن توصل لنا ذلك الإحساس والشّعور بالتّعاطف مع الكائنات والموجودات ومن ثمّ إشعارنا بنوع من الرّحمة والرّأفة و…تّجاه ذلك الصبيّ ذو الساق المبتورة، وفزّاعة الطّيور، ومن دون أن تعبّر عنها صُراحاً في هذا الهايكو.
الكارومي: روح الطرفة التي تخفّف من الرّصانة؛ فالهايكو بالنّسبة لـ”باشو” لا يقع في محمول الرسالة ولكنّه في القلب من خلال مخاطبة حساسيّة القارئ والتّعبير عن ذلك الجمال المقيم في أبسط الأشياء.
الهوسومي: التّعبير بطريقة بسيطة خفيفة وعن طريق مفردات سلسة تميل كثيرا إلى البساطة.
اليوغن: هو ذلك التّخفي والغموض الشفيف، أو العمق الروحي لإظهار الجمال الداخلي للفن والطبيعة.
لعلّ هذا النص وما يحمله من خصائص وتقنيات وجماليات للهايكو، بعيدا عن التّقريريّة والمباشريّة، يجذب من خلالها القارئ المتلقّي ليبحر في أعماقه، لتجسيد واقع طفوليّ أليم، متأثّر بما خلّفته الحرب من تداعيات ومآسي…