كتابات

الشعر اليمني في ملف الموقف الأدبي 

 محمد علاء الدين عبد المولى

تهدف الملاحظات النقدية التالية إلى إقامة مشهد مقارن حول موضوع واحد، الموضوع هو: الشعر في اليمن، كما قدم عبر ملف الأدب اليمني الذي قدمته مجلة الموقف الأدبي في عددها –269- بتاريخ أيلول 1993. أما مشهد المقارنة فسوف نشكله من مقارنة الشعر في هذا الملف بالشعر اليمني أيضاً كما قدم عبر ملف الأدب اليمني الذي قدمته مجلة الكاتب العربي في عددها الأول بتاريخ تشرين الثاني 1981. وإغراء المقارنة يمكن أن يشعر به المتابع لعدة عوامل، منها أن اطلاعنا على الأدب اليمني ليس متوفراً بصورة كافية، وهذه الملفات التي تقدمها هذه المجلة أو تلك تسد ولو جزءاً يسيراً من هذه الثغرة. ومن هذه العوامل:‏

المدة الزمنية الطويلة نوعاً ما، أي هي مدة تقع بين عامي (1981) و (1993) وهي فترة كافية ليعقد القارئ الناقد مقارنة بهدف كشف نقاط معينة حول هذا الموضوع أو ذاك. ومن هذه العوالم أيضاً ما يقدمه الشعر نفسه من إمكانيات لإقامة مثل هذه المقارنة. فأول ما يلحظه القارئ للملف الجديد (وسوف نسميه ملف 93) تلك النقلة الواضحة في أداء القصيدة في بلد عربي: عريق، من مستوى ملف قديم (سوف نسميه ملف 81. وهذه النقلة الواضحة عبرت عن وجودها من خلال الشوط الفني الذي قطعته القصيدة أثناء هذه الفترة المعقولة. كل أولئك أسباب قد تبرر تسمية ملاحظاتنا هنا بالمقارنة، غير غافلين عن أن الشعر اليمني ليس محصوراً في هذين الملفين، وإن اطلاعنا عليه مقصور عليهما، بل إننا لنفتخر بكون أسماء بعض شعراء اليمن أصبح لها حضور ثقافي عربي فعال، أكتفي بذكر أهم مثالين في الشعر والنقد معاً، وهما (عبد الله البردوني- ود. عبد العزيز المقالح)، وإذا كان غياب هذين الاسمين من ملف الأدب اليمني الجديد وحضورهما في ملف 81 فذلك لأن ملف 93 معنيٌ بتقديم نماذج للمبدعين الجدد. بعكس ملف 81 الذي كان عاماً، مع ذلك لا نعدم أن نجد بين الملفين أسماء مشتركة ما زالت تتابع الكتابة.‏

أقصد الشاعرين: (إسماعيل الوريث) و (عبد الودود سيف).‏

وذلك سبب جديد للمقارنة بين نتاجات الملفين.‏

ولنبدأ بتسجيل ما استطعنا رصده وكشفه. مع التأكيد أن الموضوع يحتمل ملاحظات أخرى قد تغيب عنا. فالنصوص الإبداعية لا تفقد قدرتها على تحريض القارئ بشكل دائم. على البحث في أعماقها عما ستغلق على قارئ آخر. وهكذا تكتمل العملية النقدية مع العملية الإبداعية. والنص الذي لا يثير في كل قراءة له فكرة جديدة وملاحظات معه أو عليه، فهو نص ميت في مهده.‏

ملاحظات:‏

1-الشكل الخارجي للكتابة. (الوزن، البحر،….) في ملف 81 تكثر القصائد المكتوبة على نظام البيت الواحد. (وردة من دم المتنبي لعبد الله البردوني- رمال عطشى لإبراهيم الحضراني- فلسطين وطريق القدر لعلي حمود عفيف). وغياب هذا الشكل نهائياً من قصائد ملف 93. لكن هل يعني ذلك نهاية هذا الشكل من الشعر في تجارب شعراء اليمن الذين ما استوعبهم الملف الجديد؟ بالتأكيد لا، بدليل أن عبد الله البردوني مستمر في عطاءاته التي هي جديرة بالوقوف عندها طويلاً، لما تحمله من دلائل على قدرة قصيدة البيت الواحد على أن تنهض بأعباء تجربة الروح والفكر والكون عندما يشتغل فيها شاعر حقيقي يكتشف قدراتها الكامنة ويطور فيها، كالشاعر المهم البردوني.‏

أما القصائد الأخرى فقد توزعت بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر ففي ملف 81، غلبت تفعيلة فاعلن (وفعولن). كان هذا لدى كل من عبد العزيز المقالح (محاولة للكتابة بدم الخوارج) عبد الله سلام ناجي (الموت والشاعر). زين السقاف (من سفر العودة)، إسماعيل محمد الوريث (الحرائق في المدن العربية). عبد الودود سيف (الصعود إلى الوطن من فوهة القصيدة). أما في ملف 93 فقد برزت تفعيلة (متفاعلن) عبد الودود سيف (ذيل الطاووس). أحمد قاسم دماج (أي كائن هو آخر القتلة) شوقي شفيق (الأنثى الانثيان الإناث)، سعيد علي نور (قلادة السيدة بنت أحمد).‏

وثمة قصائد في الملفين نوعت في الوزن. بحيث دخلت في بناء القصيدة الواحدة أكثر من تفعيلة، ففي ملف 81، يبدأ الشاعر عبد الله قاضي قصيدته (لا ترحل أيها الحبيب) بخمسة سطور مكتوبة على تفعيلة فاعلن ينتقل بعدها إلى مفاعلتن ليكمل قصيدته عليها. وينوع عبد الله علوان هو الآخر في (مرسوم يقضي بخطر استخدام النار) بين فاعلاتن وفعولن.. وفي ملف 93 يستخدم محمد حسين هيثم في قصيدته (الجبل) كلا من تفعيلات: (متفاعلن-مفاعلتن- فاعلن).‏

هذا وقد يكون ملحوظاً أن من الشعراء من قطع قصيدته إلى قصائد صغيرة ووضع لكل منها عنواناً، أو قد يكون ذلك بسبب أن الشاعر في الأساس جمع عدة قصائد مختلفة في مادة واحدة. مثلما فعل زين السقاف في ملف 81. ونجيب مقبل في ملف 93. ومما لفت النظر وجود قصيدة النثر مع قصيدة التفعيلة في وحدة متآلفة لدى الشاعر الواحد، كما عند زين السقاف ملف 81 الذي كتب قصيدته الثانية (المقاومة) نثراً، وكذلك شوقي ملف 93 الذي كتب قصيدته الثانية (الأعزل وأشياؤه) نثراً وأهداها إلى قاسم حداد. بل ويذهب شوقي بعيداً في دمجه بين أشكال الكتابة حيث يخرج في القصيدة نفسها (الأعزل…) من شكل النثر إلى تفعيلة فاعلن بعد أن يضع نقطتين في آخر جملة في الفقرة النثرية، لينتقل إلى فاعلن، أما نجيب مقبل فقد قدم قصائد قصيرة مختلفة الأوزان تحت عنوان عريض هو (شواغل الشاعر الشاغر).‏

أخيراً، فيما هو يتعلق بالدمج بين أشكال الكتابة، فقد وضع عبد العزيز المقالح فقرة نثرية بين كل مقطعين من قصيدته (محاولة للكتابة بدم الخوارج).‏

2-وقبل أن أنتقل إلى الحديث عن دلالة هذه الملاحظات، أسجل هنا إشارة تتعلق بالأخطاء العروضية المنتشرة في أوساط قصائد الملفين.‏

وأهم ما يمكن التأكيد عليه هنا انتشار هذه الأخطاء في ملف 81، واستمرارها في ملف 93. في قصيدة زين السقاف مثلاً:‏

/حين كنا صغاراً يصاحبنا ظلك الأسمر يا شجر‏

البرتقال الوديع/‏

يلاحظ المطلع على التفعيلات هنا أن ثمة خللاً عند (الأسمر… يا) وهو الدمج بين فاعلن وفعلن. وهو دمج مهما حاول بعض أعلام الحداثة والإيقاع تبريره فإن له اسماً واحداً في معيار النقد هذا الاسم هو (خطأ عروضي). يقول السقاف في القصيدة نفسها:‏

/كانت اللعبة أيامها في الخيال/‏

إذا قطعنا هذه الجملة نرى ما يلي:‏

/كانت الـ فاعلن- لعبـ فاع ـة أيا فعولن…/‏

نلاحظ وجود تنافر مسببه دخول هذه الـ (فاع) فكسرت الوزن وشوهت الأداء الإيقاعي.‏

نأخذ مثلاً آخر من إسماعيل محمد الوريث ملف 81.‏

/… كان رفيقي معي يشرب الحزن‏

يسكره جرح (حيفا) و (الناصرة)/‏

نلاحظ الخلل في (والنا) فهذه تفعيلة دخيلة على فاعلن التي يكتب قصيدته الشاعر من خلالها.‏

أما في ملف 92. فبغض النظر عن بعض الأخطاء الوزنية التي نرجح أنها ناشئة عن أخطاء في الطباعة، حيث سقطت كلمة من هنا وكلمة من هناك، مما خلق خللاً في وضع التفعيلات، فإننا يمكن الإشارة إلى أخطاء هي بالأصل من نسيج القصيدة.‏

ففي قصيدة الجبل لمحمد حسين هيثم:‏

/لجنونه، ما للرياح من اجتياحات، وما‏

للبحر من غمرات، ما للوقت من هجس على الشرفات…/‏

إن غمرات أدت إلى خلل واضح، فإعرابها اسم مجرور بالكسرة، لكن الشاعر لم ينتبه لذلك، فمنعها من الصرف حتى يستقيم الوزن. أي قال (غمرات) بالفتح، وهذا لا يجوز. وعندما نصنف غمرات على أنها خلقت خللاً فسوف يبقى لدينا (ما) التي جاءت بعدها مباشرة، فهذه الـ (ما) ليس لها مكان في سياق الوزن هنا، وفي قصيدته أيضاً (الجبلّ- محمد حسين هيثم):‏

/وليت أن النهر‏

لا يجلس في المقهى.. كعادته‏

يعاتب طفلة الرعد- الرؤى‏

وليت أن القمر المجنون‏

يمضي في فجاءته‏

أليفاً.. مستقيماً/.‏

في هذا المقطع عدد من الكسور الوزنية، أولها /يجلس في/ مستعلن وهذه من جوازات تفعيلة لا علاقة لها بتفعيلة المقطع المنتمية إلى البحر الكامل. وثانيها /وليت أن/ متفعلن. وثالثها /ن القمر الـ/ مستعلن. وهاتان كالأولى تفعيلتان لا تنسجمان مع (متفاعلن) بفتح التاء. التي هي من البحر الكامل. في حين أن التفعيلات الثلاث هنا تنتمي إلى جوازات البحر الرجز (مستفعلن).‏

وفي قصيدة شوقي شفيق:‏

/أعمى‏

وليس سوى يدي تجهزان متاهتي وقلوع نعشي‏

لكأنني أمشي..‏

وأرى الهواء معلقاً… الخ/‏

لنقارن هنا بين (وقلوع نعشي= متفاعلاتن) و (أمشي= فعلن).‏

هل هما منسجمتان؟. لقد جاء بهما الشاعر كوقفتين موسيقيتين مشكلاً بذلك قافيتين. لكن من أبسط المعلومات العروضية أن (متفاعلاتن) يجب أن يلتزم بها الشاعر. أو (فعلن) –التي هي شكل من أشكال عروض وضرب الكامل- يجب أيضاً أن يلتزم بها الشاعر. قد يقال إن ذلك متعلق بقوافي قصيدة البيت الواحد. وهنا أمامنا قصيدة حديثة تفعيلية. نقول طالما وردت الكلمتان على أنهما قافيتان وراء بعضهما فكان مطلوباً من الشاعر إما المجيء بهما على (متفاعلاتن) أو (فعلن).‏

أكتفي بهذه الأمثلة على الأخطاء الوزنية لأنتقل إلى الحديث عن الدلالات التي يمكن أن توحي بها ملاحظاتنا المدونة أعلاه. حيث أننا هناك قدمنا ملاحظات واكتفينا بتسجيلها موضوعياً دون قراءة ما وراءها.‏

3-نستشف مما سبق أن قصيدة اليمن في ملفها الأول 81.‏

تعاني من مشكلة هنا أو هناك، تخص صراعها مع نفسها. هل تبقى على نظام البيت؟‏

أم تتجرأ على اقتحام شكل التفعيلة، بل والمغامرة بقصيدة نثر؟. ويبدو أن الأمر انتهى، وهذا ما استنتجناه من الأمر الواقع أمامنا، إلى الاستقرار بشكل مبدئي على الأشكال الحديثة. بوعي فني واضح المعالم لدى أسماء الملف الجديد 93. حيث تم القبض على مفاتيح التجربة الشعرية الحديثة. سواء في قصيدة التفعيلة أو في قصيدة النثر، وإذا سمحنا لأنفسنا بالخروج قليلاً عن الملفين، وانتقلنا إلى ملف صغير عن (قصائد يمنية –مجلة الناقد –العدد 32، شباط 1991)، لرأينا أن قصيدة النثر موجودة أكثر من الملفين معاً. مع أن قصائد يمنية عددها ستة قصائد، نصفها قصائد نثر… هذا يعني أن جيل الشعر الجديد في اليمن انتصر وأثبت حضوره بصورة إبداعية حقة… ومع وجود ما رأيناه من أخطاء في الوزن، نؤكد على أن قصائد ملف 93- بما فيها من زلات الوزن- كانت خطوة متقدمة مساحة واسعة قياساً لملف 81. إنها قصائد تحمل القارئ المتابع (وأؤكد على صفة القارئ المتابع) على التفاؤل بأن المناطق العربية النائية عن مراكز الإعلام الثقافية، فيها تجارب لا يستهان بها. ويجب الحرص عليها وإفراد المجال لنشرها. بل والبحث عنها وتقديمها، وهذه مهمة المراكز الضوئية التي قد لا يتاح للتجارب البعيدة أن تصل إلى نورها.‏

لقد وجدت في قصائد ملف 81. إن معظم النصوص مستريح إلى الركون. ليس ثمة قدرة على تقديم نص متوتر يطرح مشاكله الخاصة مع نفسه. وأقصد بالمشاكل الخاصة: تلك الجملة من العلاقات القائمة بين النص (بشكل عام) وبين كل من اللغة الشعرية. جماليات الكتابة الحديثة المقتربة من الأشياء والإنسان بروح جديدة. وكان علينا أن ننتظر أن نقرأ قصائد ملف 93. (وملف الناقد الذي أشرنا إليه آنفاً) حتى نطمئن إلى أن النص اليمني، نص قادر على تجاوز ذاته. وإشعال النار في ثيابه القديمة لتتوهج مسافاته بقوة “خلاقة”، ذلك كله تأكيد لنا نحن الأجيال الشعرية الجديدة هنا… إن الآخرين البعيدين لديهم ما يقولونه لنا. ولديهم طاقاتهم التي أكدوا من خلال نصوصهم الجديدة، أن من هذه الطاقات ما قد يعجز عن امتلاكه بعضنا!..‏

4-مع احتفالنا إذن بشعر اليمن الجديد. نؤكد على ضرورة الاحتفال به نقدياً، وهذا هو الأهم. فماذا نحن واجدون على الأصعدة الأخرى، مضافة إلى الملاحظات السابقة؟.‏

لقد سمعت في قصائد ملف 93 صوت اليمن، بأماكنه وأسماء أشيائه.‏

وهذا مهم إذا وضعناه في إطاره العام، من حيث أنه يقدم شاهداً على أهمية حضور الجغرافيا والتاريخ في قلب الشعر. إن هذا مما يعطي القصيدة بعداً حديثاً ذا أصول متحولة، فالشعر في الملفين لم يكن دائراً في فراغ. إننا نقرأ الواقع –أحياناً كما هو في ملف 81- وذاكرة الأرض والتاريخ. من خلال الحواريات المبثوثة عبر القصائد مع الأرض والتاريخ والتراث الخاص والعام. يبدو هذا من قصائد ملف 81. (محاولة للكتابة بدم الخوارج- من تداعيات الليلة الأخيرة للمتنبي في مصر. لعبد العزيز المقالح) و (وردة من دم المتنبي لعبد الله البردوني) و (الحرائق في المدن العربية لإسماعيل الوريث) و (الوطن والشاعر لعبد الكريم الرازحي).‏

وبقية النصوص.‏

نلاحظ حتى من خلال أسماء القصائد أن الشعر ينتمي للتاريخ.‏

وإذا اقتطعنا أمثلة يمكن أن نستأنس بها أكثر.‏

طفلي الخارجيُّ –تقول- مياه النخيل‏

يغادر أنسجتي‏

يرقصُ الآن في دمه‏

طالعاً –كان- من قاع بردية الصبر‏

لا يرتوي.‏

يتكاثر.‏

في عضلات الشوارع يبكي‏

يغني.‏

-عبد العزيز المقالح، ملف 81، الكاتب العربي.-‏

زهراً على جبهاتنا ارتسم الرصاص‏

وضاق بالعبقِ المكان‏

فكيف يرتدُّ المسا خسفاً‏

وتزدحم المسافةُ بالهوانْ؟‏

من صادر الأعصار؟‏

من أسرَ الصواعق في الزنود من استباح الافتتنانْ‏

يا وجه هذا الصمت‏

من أعطى لهذا الغزو خاصرة الزمان؟‏

-أحمد قاسم دماج –ملف 93، الموقف الأدبي-‏

إن هذين نموذجان فحسب، لا يلغيان أن القصائد الأخرى لا يمكن أخذها كلها نماذج على ما ذهبنا إليه. نرى إذن هنا أن الشعر يتحرك بين هم الشعر، وهم التاريخ. وثمة تأكيد على أن الشاعر كائن يعيش زمنه في علاقة مع زمن تاريخه.‏

(المقالح) يحضر رمز (الخارجي) ليجعله معادلاً موضوعياً (إن جاز لنا التعبير) لما يريد نقله عبر القصيدة. لا يخفي علينا ما يضمره (المقالح) في المقطع السابق من تعلق بفكرة (التحول)، فالخارجي لا يخرج على سلطة الواقع (ومن جهة مقابلة: الشاعر لا يخرج على سلطة القصيدة) فحسب، بل إنه يتلبس حالة بديلة ينتقل بها من ماضيه (أو حاضره المتشبه بالماضي) إلى مستقبل نتلمس عناصره من خلال: (لا يرتوي، يتكاثر في عضلات الشوارع يبكي يغني). إن هذا الطفل الخارجي هو الشاعر في الجهة المقابلة، إنه يبكي ويغني. وهو لا يرتوي (مثل الطفل) وهو يتكاثر (وهذا هو الشاعر).‏

هكذا من خلال الفعل الحركي وتطوره من داخل القصيدة، وارتباط هذا الفعل بحركة التاريخ والذاكرة، يتوضح لنا عبر أول مثال استناد الشعر إلى معنى التاريخ.‏

أما المثال الثاني، فيذوب الخارج، الواقع، في تجربة الشاعر الذاتية. إن ذات الشاعر تتحقق من خلال حوارها مع المكان والزمان والمسافة. وهذا يجري على أرضية رؤية تاريخية لا تغفل علاقة الذات بالموضوع داخل القصيدة. لذلك يأتي السؤال (من أعطى لهذا الغزو خاصرة الزمان) معبراً بوضوح عن الهم التاريخي المحرك لمناخ القصيدة.‏

5-مع ملاحظتنا حول اهتمام شعر اليمن بالتاريخ، كعنصر مكمل وأساس للذات، لا نغفل ما يعنيه هذا الكلام من علاقة ممكنة بين السياسة والفن الشعري… لقد قدم الهم الأيديولوجي نفسه من خلال قصائد كثيرة. وقد كان هذا الهم طاغياً في ملف 81. بحيث أخلى الشعر مكانه للأيديولوجيا. وخسر شروطه، لم يكن ثمة تكافؤ في اشتغال الشاعر على محوري السياسة والشعر… كذلك كان يجب أن ننتظر حتى يأتي ملف 93 ليستعيد الشعر كرسيه الخلاق. ويعامل الشاعر موضوعه الفكري، الوطني، السياسي، بوعي فني بالدرجة الأولى، لتصبح هذه العناصر أجزاء مساندة لتدعيم الرؤيا الشعرية العميقة.‏

إن طغيان السياسة على الشعر في الملف الأول، استتبع طغيان العنصر النثري البارد على كثير من جمل الشعراء، لأن الأساس كان على ما يبدو هو التعبير عن الفكرة قبل أي اعتبار آخر. في الملف الجديد تمركزت القصيدة حول ذاتها وصارت هي التي تحدد ماذا تقبل من الواقع والسياسة، عبر طرحها لنفسها بشروط فنية مكتملة، أو قريبة من التكامل. فغاب الأداء المباشر للفكرة. وصارت كيفية القول عنصراً أولياً… وهذا أهم ما يمكن دعم رأينا حول القفزة التي حققها الشعر عبر هذه السنوات. إن المشكلة في ملف 81 كانت مع أسلوب القول. مع لغة التعبير وكذلك كانت مع ملف 93، لكنها هنا مشكلة جسمت بعد زمن لا بأس به.‏

لنقرأ بعضاً من الجمل الواردة في قصائد ملف 81. ولنقارنها بجمل قصائد ملف 93.‏

/العشقُ سيدتي،‏

أن نموت احتراقاً لمعركة فاصلة،‏

البنادقُ: أغلى الحبيباتِ في زمن القهر‏

يأمدنَ الحلم.. إن زوارقنا لا تخافُ الوحوش،‏

وراء البحار،‏

وإن كتب الموتُ للعاشقينْ‏

مشرعات سيوفُ الضحايا.. وتمتد وتمتد.. الخ/‏

-إسماعيل الوريث- ملف 81-‏

/ابتدعْ سيدي لغةً للكلامْ‏

غير تلك التي علك السلفُ‏

إيه صنو الهلامْ‏

مرةً لو تفكر أن تطلق الروح من أسرها‏

في ركام الرغامْ‏

أو تذودُ… عن رقعةٍ فوقها تقفُ/‏

-محمد حسين الجحوشي- ملف 93، الموقف الأدبي-‏

ما يعلنه خطاب الشعر في المثال الأول، متراجع بوضوح في المثال الثاني. هناك الفكرة جاهزة. الغضب الذي يلائم قصيدة الحرب التقليدية المثال الثاني يعي منذ بدايته (وهي بداية القصيدة على كل حال) أن المطلوب قبل كل شيء (لغة جديدة للكلام غير تلك التي اجترها السلف). وهذا السلف صالح ليعني السلف البعيد والسلف القريب معاً، طالما أن القصيدة تريد أن تؤسس نفسها بنفسها دون الاتكاء على ابتكار سلف ما، لا نجد هنا صوت البنادق، وصليل السيوف، بل نجد دعوة للغة عالم آخر. فيها إطلاق للروح وقواها الفاعلة، وفيها تأسيس لأرض تدافع الروح عنها لتقف عليها. ثمة فكر هنا وهناك، أيديولوجيا هنا وهناك، لكن، يبقى الفكر هناك مقحماً، خارجياً، بينما ينصهر هنا في داخل الشعر لينتج معه لغة شعرية عميقة…‏

اللافت للنظر أن إسماعيل الوريث، صاحب المثال الأول من ملف 81 لم يتخلص في ملف 93 من أعباء طغيان الهم الأيديولوجي على الشعر… وذلك يتوضح عبر الأمثلة. يقول في قصيدته الجديدة:‏

/ في “عدنٍ” صنعنا للردى فخاً‏

طردنا من شواطئها الغزاةَ الحمر‏

شيدنا بها صرح الهوى اليمني‏

رغم الجرح ينزفُ‏

والبلاد جميعها مزقُ/‏

***‏

/مشينا فوق حد السيف‏

من موت إلى موتٍ‏

ومن أشلاء “ذي يزنٍ”‏

نسجنا رايةَ التوحيد ثانيةً‏

تحيطُ بنا المنايا‏

غير أنا من ثنايا الموت ننبثقُ/‏

إسماعيل الوريث –ملف 93- الموقف الأدبي‏

أعتقد ألا داعي للتعليق. فالشعر كما هو واضح، موغل في الشعاراتية ولغة الإنشاء.‏

وعلى العكس من الوريث رأيت عبد الودود سيف. الذي اشترك هو أيضاً في الملفين فقد قدم في الملف الجديد نموذجاً شعرياً عالياً يرقى ليكون من النصوص المهمة على صعيد اللغة والصورة وتأكيد علاقة القصيدة بالجذور والحداثة معاً. أركز على هذا الكلام لأن قصيدته القديمة في ملف 81. لا تختلف عن غيرها من حيث الوضوح في تغليب الخارج على جوهر الشعر الداخلي بشكل عام خاصة في النصف الثاني من القصيدة التي يختمها بقوله:‏

/أيها المتربع عرش الفظاظةِ‏

والمتخذي بدون حدودٍ‏

تورعْ، فدمعُ الضحية دين على قاتليهِ‏

إلى أن يحين السداد/‏

أن تجربة الشاعر مع اللغة هنا غير متميزة. وعلاقة الكلمة بالشيء، أو بالواقع، ليست علاقة شعرية. وتسود العقلانية في أشكال تركيب الجملة. هذا كله يتراجع في قصيدته الجديدة (ذيل الطاووس) في ملف 93.‏

حيث تنهض لغة الشعر منتصبة بقامتها الواثقة. ويتحدد شكل العلاقة بين اللغة والعالم، في أفق يؤسسه الشاعر بوعي قادر على إخضاع هذا العالم لشروط الشعر، وليس العكس.‏

قد يكون صحيحاً القول إن رؤيا الشاعر في حالة خضوع الشعر للخارج، هي رؤيا بشكل عام جزئية، مسطحة، على حين تكتمل هذه الرؤيا عندما يتمكن الشعر من القبض على عناصر الخارج وتنظيم دخولها إليه.‏

في (الصعود إلى الوطن من فوهة القصيدة) –ولندقق كيف يوظف حتى العنوان ليصعد إلى الوطن من القصيدة، إن القصيدة هنا موظفة للخدمة –يقدم الشاعر لغة منسجمة مع بدائية الرؤيا. فيها قناعات وحقائق يسلم الشاعر بها.‏

وهذا مما يتنافى مع طبيعة الشعر. (فأسمع مدَّ هتاف/ وأبصر عاصفة تتطوع) (إننا نتماوت، لكننا لا نموت، /وتشتط فينا الحماسة للرد، لكننا نتحامل). هذه ليست لغة شعر. إنه رصد لما يجري، أو لما جرى. حتى حديثه عن الآتي يجيء بلغة وثوقية لا تلبي طموح الشعر.‏

أما في قصيدة ذيل الطاووس (ملف 93، الموقف الأدبي). فتتوتر لغة الشعر، وتهتز القناعات، وتتسع الرؤيا، تدخل الكلمة حيز الجمال المتولد عن صهر العالم كله في مختبر الشعر. وتكثر المفردات التي تعبر عن قلق الشاعر، وتلح الذات المبدعة على الحضور من حيث أنها الأولوية الدائمة في العمل الفني. لكأن الشاعر يعي أن ذاته الفنية كانت غائبة عنه في تجاربه السابقة وها هي قد عادت.‏

/وأنا أعود إلي مبتكراً/‏

/ هذا رجوعي من سواي إلي/‏

/وأنا أسير إلي محتشداً،‏

وأدخل في هواي/‏

إن العالم هنا بعناصره، ليس جاهزاً، إنه قابل لأن يكون هكذا، وربما هكذا.‏

وذلك من منطلق أن كل شيء مبني بصورة ناقصة، وإلا فلماذا نكتب عما هو منجز مكتمل؟.‏

/وعليَّ أنْ آتي إلي‏

وعليّ أن ألج الهوينى، أو أصول كمديةٍ‏

وأسير لا ألوي إلي‏

وعليَّ أنْ أصل النراجسَ للبروق على براق‏

فراشةٍ، وأسيرُ‏

أهدي الأقحوان بتاجها للأقحوانْ‏

وعليَّ أن أهذي وأقتنص الفضاء بغمضةٍ‏

أو رشفةٍ أو ياسمينْ/‏

-عبد الودود سيف- ملف 93، الموقف الأدبي-‏

إن هذا شعر حقيقي، يتشكل بثقة وقوة. يدرك كيف أن الشاعر الحديث يقف من العالم حائراً. مندهشاً، مقتنصاً منه ما يتمكن به من بناء هيكل شعري ما. لا يتناول الأشياء المكتملة كما ذكرنا. إنه يبحث عن أقحوان بحاجة للأقحوان، ولا ينظر إلى العالم بعين العقل، بل (أهذي). ففي هذه اللحظة المجنونة يمكن اقتناص الفضاء بلمحة عابرة. فالفضاء بالنسبة للشاعر قد يبدأ من رشفة، أو ياسمين.‏

إن عبد الودود سيف يؤكد –عبر مقارنتنا لقصيدتين له تفصل بينهما سنوات كثيرة- إنه شاعر متمكن من مسافة الشعر بخطوات تبدأ ولا تدعي الكمال، وإلا لما تطور بأسلوب كتابته من مرحلة كان هو أسيراً للشروط، إلى مرحلة صار فيها هو من يحدد هذه الشروط وينتجها..‏

6-إذا كانت عوالم الشعر في ملف 81، قريبة من بعضها، لوحة تأخذك إلى لوحة، شعار يتولد من شعار، هم وطني يصلك بهم وطني، فإن عوامل التطور التي أثرت على ملف 93 الجديد، خلقت عوالم جديدة تتميز بتنوعها.‏

إن تشابه المناخ بين عدة شعراء قد يلغي إمكانية الفرادة والتمايز، إلا على الراسخين في الشعر، أما التعدد والكثرة، فيعطيان أفقاً للإبداع يبرز كل شاعر ما لديه… هذا ما حصل في ملف 93، فنادراً ما ترى قصيدة تتشبه بقصيدة أخرى. لهذا فنحن أمام تجارب واعية، يعمل كل على تشكيل فضائه الشعري الذاتي. فهذا يطيل قصيدته. وهذا يكتبها نثرية.‏

وذلك يكتبها قصيرة، هذا يذهب في أسئلة الكون، ذاك يبدأ من الأشياء المحيطة به. يبني منها عوالم خاصة. هكذا فعل (نجيب مقبل) في: شواغل الشاعر الشاعر… يكتب قصائد قصيرة عن أشياء المنزل مثلاً:‏

/هكذا البيتُ يجلو بأشيائه‏

الهواء ثبوب الحديقة‏

فأرٌ بقطته النائمةْ‏

المياه بصنبورها‏

والأواني بآخر ما قد تطاير من كسرات الزجاج/‏

إن (نجيب مقبل) يرصد العناصر الجزئية لأنها قد تحمل طاقة شعرية في حال استطاع أن يكيفها بلغة الشعر. فالأشياء (المقعد- النوافذ- الغبار- الدوري-) لا تعني شيئاً وهي في معزل عن القصيدة، وهي مهمة بقدر ما تشكل نوافذ يطل منها الشاعر برؤيا بعيدة يصنع، اعتماداً عليها، عالماً شعرياً من هذه الأشياء الجامدة.‏

/عندما تتهيأ أشجار دفلى معلقة في الجدار‏

لتأتي قذالي بصفعة اصبعها الماكرة‏

وأنا أتململ في مقعد خربِ‏

والنوافذ تعلن مزحتها‏

ثم ترفض مشرعة لحوار الغبار‏

دوري الصباح يشاغلني بالرواح‏

ويمعن في بهجة الصوت والقفزة الطائرة/‏

-نجيب مقبل، ملف 93 –الموقف الأدبي-‏

وتأتي قصيدة (سعيد علي نور) لتتخذ من لغة الزمن القرآني محاولاً بذلك ربط كيان قصيدته الجديدة بجذر تراثي أصيل.‏

/وقفت هنالك وحدها، تنشق عن بطل يغازل صدرها‏

تتعلم الأسماء، لا التفاح أنقض ظهرها ثمراً‏

ولا نالت على يدها الحياءْ/‏

/إن القلادة وحدها تكفي لتنشق السماء‏

يا أيها الثقلان.. هذي الكبرياء قلادة/‏

/ولقد تكون حياتنا الدنيا جناح بعوضةٍ/‏

-سعيد علي نور- ملف 93 –الموقف الأدبي-‏

ليست لغة القرآن وحدها العنصر الأصيل الذي يؤكد الشاعر على أن تستند قصيدته إليه. ثمة نصوص ومواقف أخرى تتداخل مع نسيج القصيدة مستفيداً الشاعر بذلك من عملية (التناص) التي يشير إليها النقد الحديث.‏

وقد ركز الشاعر على التراث ليوظف من أجل منح قصيدته هوية ما.‏

نجد عنده النص القرآني، والنص النبوي: (كلهم راع) والرمز التاريخي (ليلى).‏

وإذا ما رحنا بعيداً في الاستناد إلى مفهوم التناص في هذه القصائد لعدنا من جديد نفتش في بطون النصوص، من أين جاءت هذه العبارة وكيف هربت هذه الصورة من التراث أو التاريخ (الخارجي عند المقالح. المتنبي عند البردوني، الرموز القادمة من أرض اليمن وتراثه: صنعاء، بلقيس، مأرب، فأر السد، وهذا وارد لدى كثير من النصوص). لكن والحق يقال، فإن القصائد بمجموعها تطرح موضوع التناص بشكل بارز فلا تكاد تخلو قصيدة من إحالة دينية، شعرية، روحية، تاريخية، مما يطول الكلام فيه… وهذا مما يؤكد على مسألة مهمة، وهي أن شعر الحداثة في اليمن شعر مؤسس على ثقافة تراثية ووعي بضرورة خلق الهوية الشعرية المستقلة عبر استنهاض التراث الثقافي والروحي ومحاورته إبداعياً في النص الحديث.‏

هكذا يقول أبو القصب الشلال:‏

/الليلُ والإسفلتُ‏

ينتعلان من جلدي حذاء للسفر،‏

والحزنُ يا أطفال قريتنا كسنبلة الربيع‏

تضاجع الأمطار‏

تنمو في الحقول المأربيهْ‏

والسدُّ رغم المحل يعتصرُ الحجارة…/‏

أبو القصب الشلال –ملف 93 الموقف الأدبي-‏

إن توظيف لحظة التاريخ كما هو ظاهر بحاجة إلى قدرة خاصة، تؤهل الفنان لأن يكتشف كيف يتمُّ تحويلُ هذه اللحظة إلى طاقة مدار الصيرورة، لتأخذ دورها في التدرج من الجمود إلى الفعل. وهكذا نلاحظ في النص السابق.‏

7-إن قصائد اليمن كما هي مقدمة في ملف الموقف الأدبي، وكما هي بالمقارنة مع شقيقاتها في مجلة الكاتب العربي، تنبئ بالخير والسعادة، وهي غنية بتنوعها وإشاراتها المختلفة، وغنية بممكنات الدرس والنقد وهذا ما استجبنا له في هذه الدراسة المقارنة، آملين أن نكون قد أعطينا الشعر حقه، والنقد حقه كذلك.‏