كتابات

الفضاء في قصيدة النثر رضا العبيدي "فوق رصيف بارد"

ليلى عطاء الله

  • امنح المعزّين ما اصطدت من حريّة ” (أحمد الشهاوي – مصر)

هل البحر فضاء القصيدة أم أنّ الأبعاد تتسع فيفيض النصّ مكانا وزمانا ويتمدّد أفقيا وعموديّا فينثال الحرف وينساب أنهارا تعبر الجبال وتكتسح المدائن، ترتد إلى نبع الماضي تحفر صخر الحاضر وتنظر الآتي من على شرفات الحلم.
حين تنوب الأحوال عن الإستعارات والتشابيه وتتقدّم على الفعل المقيّد تنشأ اللحظة الشعريّة ويدعونا الشاعرالمغترب رضا العبيدي إلى مصافحته فلندخل عالمه.
في الإيقاع وقصيدة النثر:
يقول عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ” الوزن ليس من الفصاحة في شيء إذ لو كان له مدخل فيهما لكان يجب في كلّ قصيدتين اتفقتا في الوزن أن تتفقا في الفصاحة والبلاغة ”
فالشاعر ليس الذي يركب الوزن وإنّما هو ذاك الذي يوقّع على مساحة قد تصير بحجم العالم. يقول رضا العبيدي ”
ألف مرّة اكتفيت بمتر مربّع من الصّوت
لعبت في صداه
بكجّتين ملوّنتين: عيناي إذ تسرحان ”
يتخلّى الشاعر تماما عن البناء العروضي عبر خطاب يؤكّد وحدانيّة التجربة وتدفّقها.
 

إنّه إيقاع الدّفقة الشعوريّة، تطول الأسطر وتقصر حسبها، هي “الطّلق” أثناء الولادة. فعل متواصل لا يجب أن يتوقّف لأنّه إن فعل خنق المولود لا بدّ من الإستمرار رغم الوجع من أجل اقتناص النفس الأوّل: شهقة الحياة، في هذه المرحلة المفصليّة تتداخل الحواسّ وينهض البصر بوظيفة السّمع يصبح الإيقاع بصريّا، ألم يقل المتنبّي قديما
في جحفل ستر العيون غباره
فكأنّما يبصرن بالآذان
فإن جاز للأذن أن تبصر فإنّه يجوز للعين أن تسمع
كيف يوقع الشاعر نصّه على الخبب وهو يسير على الأرصفة والخطوة بسرعة الضوء؟
الإيقاع ابن الحياة فإن فارقها صار لقيطا وقصيدة النثر سيّدة فاضلة لا تتبنّى ولا ترمي رضيعها وإنّما هي تلد وتهزّ من نخلها لتصمد في وجه القبيلة.
البنية اللغويّة هي الإيقاع في قصيدة النثر. يقول عبد القادر الجنّابي ” قصيدة النثر ولدت على الورقة أي كتابيّا وليس كالشّعر على الشفاه لم ترتبط بالموسيقى ولم يقترح كتّابها أن تغنّى…قصيدة النثر تكتسب هيئتها وحضورها الشعري من بنية الجملة وبناء الفقرة…”
ورضا العبيدي يتقن البناء.
” دمعات انحدرت على خدّي
طفلات تزحلقن متلاعبات بالوقت
لمّا تذكّرت طيفك يجري في رمال الساحل
ساحل الصّيف القديم
هاربا مثل طربوش طائر
انتزعته لتحلّق به بعيدا ريح مفاجئة
وأصابع معوجّة تحكّها” ذكرى صيف ص 16
كلّ هذا النصّ مقطع من قصيدة وهو يتعالق نحويّا فيصنع إيقاعه من التركيب والترابط بين الجمل بحكم التلازم الظرفيّ “انحدرت …لمّا تذكّرت ”
يقدّم الشاعر الفاعل على فعله ويفتحه على نعوت عديدة ” طفلات تزحلقن، متلاعبات بالوقت”. يشدّه الظّرف “لمّا” وتتفرّع عنه أحوال ونعوت. هل هو قصر المتاهة في الأساطير اليونانيّة أم هو قصر الدّهشة؟ هذا الإيقاع البصريّ في قصيدة النثر مراوغ لغة ودلالة يجمع بين البصر والسّمع إنّه السّدى اللّغوي بامتياز- لذلك يصعب أن نجد نصّا يرتقي إلى القصيدة وهذا يخالف ما يروج من سهولة كتابة قصيدة النثر-
إنّ الشاعر يقيم نسيجه لا من الوزن والقافية وإنّما من جوهر اللّغة وألق الكلمات. إنّه كمن يبني صرحا في أعماق المحيط عليه أن يجعله متماسكا وفي الآن نفسه شفّافا ينفتح على الأسماك ويطلّ على الحدائق المكسوّة عشبا.
” هادئ هذا الصّباح
دون حاجة إلى حرب
الأحد ملك على جميع أيّام الأسبوع
الحديقة مكسوّة بعشب نظيف

متأمّلا المشهد
أتلمّس ستارة النافذة
المنسيّة مفتوحة طيلة اللّيل
متردّدا في أن أبدّلها بأخرى
أكثر شفافيّة ” تأمّلات صباحية ص 121
إنّ الشاعر نفسه يتجّدد من نصّ إلى نصّ لا شيء يعاد مرّتين.
الشعور لا يتكرّر يندفع كموجة البحر تظلّ فيه لكنّها في كلّ حركة تضيف إشراقة جديدة لذلك الملح العالق القديم.
” لقد استطاعت قصيدة النثر أن تحدث ثورة في بنية الكتابة الشعريّة، وتحرّك الماء الرّاكد في محيط الأدب منذ عقود طويلة لتفجّر طاقات اللّغة وتستكنه جماليّتها بوسائل غير اعتياديّة ” أشرف الجمّال مصر.
لقد تجلّى ذلك من خلال التّكرار الصّوتي الذّي يسير جنبا إلى جنب مع المشهد إنّ الإيقاع يتعالق مع صخب الحياة.
” كلّ صباح      كلّ صباح أنا المرآة
كلّ صباح    كلّ صباح
أنا شجرة        من أين لها الصّورة
أنا إبهامي     أحتاج شجاعة بهلول”
فصول الصّباح ص 132
رضا العبيدي متفرّد في إيقاعه يصحّ فيه ما قاله جبران وهو يتحدّث عن ابن الفارض ” يغلق أذنيه عن ضجّة الأرض ليسمع أغاني اللاّنهائيّة”
المشهد فضاء المكان
” منشبا أظفاري في حرارة المصافحة
مثل صقر ينشب مخالبه في لحم جزعه
كنت محتاجا أن تتمهّلي قليلا” فوق رصيف بارد ص 60
لا نملك إلاّ أن نتمهّل كثيرا ونحن نلج عالم النصّ إذ ينطلق الشّاعر من العنوان الذي ينهض بوظيفة العتبة يدعو المتلقّي إلى دقيقة تأمّل قبل قرع الأبواب.
أوّل عناوين الكتاب ” باب” لا تقدر على مواجهته تقف أمامه مشدوها
“الباب المشدود إلى الحائط
ينفتح
وينغلق
دون أن يقدر على المغادرة ” ص 5
هو الشّاعر سجين الغربة يحرّكه المجهول فكيف الولوج إلى عالمه وهو المكابر رغم الوجيعة.
” وحتّى لا تُرى دموعه
لدى كلّ انفتاح أو انغلاق
طلي بالأزرق ” ص 5 باب
الباب إحالة على عالم المدينة واللّون الأزرق هو البحر إن شئت أو هو السّماء في هذا الفضاء يتشكّل النصّ ويتكشّف عالم الشّاعر.
يرتبط شعر رضا العبيدي بالمدينة، عالم المهاجر من الرّيف البعيد ” كيف تنتعل قلبك والمدينة ليست فاضلة”. يقف أمام الزّجاج والنوافذ مغلقة. يرى صورته على الواجهات ليس سوى عابر. هو رسمة على البلّور سرعان ما تزول أمام هبّة نفس واحدة. وهي إمكان ممكن عليه، يخاتل الشاعر الوحيد غفلة العيون ويرسمها. ذاك خلاصه، الرّسم بالإصبع.
” بإصبع واحد
ودون حاجة إلى قلم
رسمت وجهك كأبهى ما يكون
على الواجهة البلّوريّة لبهو المحطّة
بعد أن كنت ألصقت وجهي بالزجاج
وتنفّست بعمق
الآن أنا بصدد مغافلة أعين المسافرين
كي أقبّلك” مخاتلة  ص 87
لا يتصالح الشاعر مع المدينة، إنّه مستوحش حائر يضرب في الأرصفة وبين المحطّات والقطارات التي تمضي ولا تنتظر، هو الذي ينتظر تحرقه عقرب السّاعة
“لو كنت أعرف أن القطار سيتأخّر كلّ هذا الوقت
كنت بقيت في نومتي اللّذيذة ولم أبكّر إلى هذه المحطّة
كنت جنّبت ساعتها الكبيرة نظراتي الحائرة
إلى عقاربها الشبيهة بالسّهام الطائشة” قطار ص 107
يصبح النصّ متنافرا وعلى القارئ أن يستبطن ذات الشّاعر ليدهش من هذا الترتيب الداخلي إذ لا معنى للنصّ بمنأى عن المجازات، تتوالد الدوالّ والمدلولات ويغرق المتلقّي في السؤال والحيرة . إنّه لا يستريح أبدا حالة صدام بينه وبين النصّ وهذه عبقريّة الشاعر، ليس مهمّته أن تنام على ريش من نعام بل يتناثر أمامك وعليك أن تعيد الترتيب وتتحسّس التأويل. إنّ هذا ما يميّز قصيدة النثر إذ تنطلق من الوعي بضرورة التغيير لذلك تتجلّى المشاهد متداخلة في الظاهر تقوم على التشظّي وهو ما يحقّق الدهشة المغرية بالرّغبة في الترتيب.
أرأيت النار وهي تشتعل يأكل بعضها بعضا تحرقك ولا تحترق، تلك قصيدة النثر لها قوانينها وأخلاقها لا تحاول لمسها ولكن عشها يقول رضا العبيدي
” أتجوّل في مدينة
المداخل فيها مخارج
والمخارج مداخل
أينما سرت وقعت في التيه
وكلّما وقعت في التّيه نجوت ” مجنون المدينة ص 133
كيف تتحدّد المتناقضات ولم هذه المفارقات؟
في المدينة الغريبة التي يكسوها الرّماديّ يفقد الشاعر التواصل هو محكوم باليقظة وكلّ شرود قد يكلّفه حياته، لذلك يتحوّل إلى عين راصدة لكلّ ما يحدث فيها.
قصيدة النثر لا تتستّر على فضائح الواقع ولا تسير في شوارع المدينة الفاضلة. إنّها تعبر الأرصفة وتتسلّل إلى الأنهج الخلفيّة.
” ملآن باللّيل
بجدرانه المتداعية
بسرقات شوارعه الخلفيّة
بطعنات منعطفاته
بفضاءاته المخرّبة بالرّصاص” أمّ قديمة ص 105
يتّسع النصّ عبر التمشهد فيفيض على الحيّز الجغرافي ويتمرّد عليه.
“هذه المدينة كبيرة عليّ”….
 
أقدامه متورّمة لا يملك السير فيها فلتأتي هي إليه يحملها بين أصابعه وينثرها عبر الصفحات ألوانها سوداء ورماديّة، حياد الرّاهن إذ لا وقت للتجمّل فقط عين راصدة للواقع اليوميّ البسيط هنا يحضر السّرد نمط خطاب ضروريّ وكلّ ماعداه عقيم لا يفي بالحاجة الشعوريّة وهي تتدفّق.
” بعد العطل الكهربائيّ الذي حرمك من نهاية الفلم

في ذلك المكان الذي يصعب عليك تحديده
وسط العتمة التي تلفّ كلّ شيء
تأمّل جيّدا تلك الشّعلة
إلى أن يكمل سيجارته ذلك الشبح المجهول
تأمّلها إلى أن تنطفئ في عينيك
وبعدها أغلق النّافذة
اختل بجسدك
واكتب ما شئت” نقطة ضوء ص 129
حين تتسع المدينة على المهاجر الغريب يلوذ بذاته ووحدته، أمّا الشاعر فيه فيهذي على الصّفحات، تتوالى الصور وتتعالق المشاهد ممزوجة بالإبصار والبصيرة لا فصل بين ما يراه وما يعيشه، حمّى الوحي التّي تدثّره حين ترتفع درجة الحرارة ويغطيه الصّقيع يعيش الجسد مفارقة الولادة والموت كم يلزمه من الموت ليحيا وكم يلزمه من الحياة لكي يقهر كوابيس الظلام.
أداء سرديّ شعريّ يحيل على مشهد السينما في بداياتها وما عليك أيّها المتلقّي سوى إعادة المونتاج لتستوي الحكاية . المدينة تلهث والشاعر يجمّعها على الورق هو حرّ وأكبر من تلك التي تروم سجنه إنّه ابن الجنوب الآتي من الشرق وعبر التّداعي يرحل إلى الوطن .
 
الشاعر حبل غسيل والوطن ثوب غائب.
“حبل غسيل
بين شجرتي توت
منسيّ في حديقة بيت مهجور
الريح في غياب الأثواب
تجفّف عريه”
ماذا يبقى من الإنسان إذا لم يكن مستورا بوطنه لا شيء غير الفضيحة حين تسقط ورقة التوت
هذا الوطن البعيد الذي يحمله حصاة في جيبه  ولا يعرفه.
“تعبت من تفصيل جسدي
على مقاس ظلّ لا يهدأ
بلادي لا أعرفها
يعرفها رسّام الشّارع”
الوطن الذي غادره ذات حلم في هجرة سريّة بينه وبين البلاد مسافة حبل أيشدّه إليها أم يخنقه لوعة لفراقها؟
يختار رضا العبيدي الرّسم ومرّة أخرى يرسم قلبا على الزجاج لكنّه للأسف ينتهي دائما بسهم مغروس فيه فهذه مدينة من زجاج لن تعانقها إلاّ لحظة انكفائك على جرحك من أثر بلّورها المنكسر على الأصابع.
“التقطت شظيّة الزجاج
تأمّلتها برهة
ومحاذرا أن تجرحني
مسحتها من التراب المبلّل
وأحدثت بها خدشا في الجدار”
 
الغربة اغتراب وتغريب
أيّها الغريب على أيّ جنبيك تميل؟
تشتدّ العزلة في المدن الرّماديّة المزدحمة بالأجساد ويفقد الشاعر التواصل يصير شظايا من وهم الوجود هو الأنا الظلّ الآخر:
” أكيد – ثمّة من أسكرني
غيّبني عن الوقت والمكان

أيكون أنا؟
ماذا أقول؟
أكتفي بالغثيان
أكتفي بالصّمت
أبسطهما فراشا وغطاء
على رصيف من أرصفتها
وأنام” مجنون المدينة ص133
هكذا تبدوا المدينة عالما مجهولا لا ينتمي إليه الشاعر إنّها الوحشة وانكسار الحياة وتلاشيها على أرصفتها الباردة.
عند هذه اللّحظة يوقف الشاعر الزّمن يحصره في لحظات حميمة يستعيدها حيّة، صوت ابنته بلكنة فرنسيّة.
“المكواة صباح الغد، ستعيد إلى البنطال
شكله الطّبيعي
والشمس الجديدة
ستغريني بالخروج مرّة أخرى
أصابعها ستداعب شعر رأسي
وشفتاها ستتحرّكان لتقولا الجملة ذاتها
Moi aussi je t’aime papa ” بيت ص 48
يتجلّى الحلم ممكنا وإن كان الصّوت الآتي بلكنة فرنسيّة. عبارتها مظهر من مظاهر الغربة لعلّه كان يشتهي أن يسمع “أحبّك” بالعربيّة الجميلة .
أيّ قدرة على الإبداع يملكها رضا العبيدي حين ينتصر على الغربة؟ هذه غرفته
” وفي المساء تغرب الشمس

أعود أدراج ريح خامسة
تعبث بقميصي الرّهيف
محاولة تعريتي
إلى بيت مغلق في عمارة
من سبعة طوابق
لا أنتهي أبدا
من تزويق جدرانه
البيضاء
والباردة
بصور”
تحضر المدينة كفضاء أساسيّ في قصيدة النثر يرسمها الشّاعر على صفحاته وهو يصعد إلى الطابق السابع يقول شريف رزق ” إنّ الوعي المديني و هو وعي حداثي بآمتياز هو ما يؤسس شعريّة القصيد المديني وهو المسؤول عن تأسيس استراتيجيّات نصيّة”
من هنا يتجلّى شعر رضا العبيدي مؤسّسا لعالم نصّي مدهش، هاهو يصل الطّابق السّابع ويغادره إلى سماء سابعة عبر استدعاء مشهد متشابك يشدّ القارئ شدّا إلى المعنى يقول في نهاية نصّه: بيت ص 48 وهو يستشرف الغد المشرق داخل الغرفة الباردة ويستحضر صوت ابنته
” Moi aussi je t’aime papa
التي تدمع عيناي لسماعها
ويرتجف لها قلبي مثل عصفور
أحسّ حركة مفاجئة من حوله
تلفُّتَ:
البيت في مكانه
وأنا حقّا غادرت إلى غابة  من الكرز ”
هذا الصّوت الصغير القادم من بعيد يتلبّس الشّاعر يفيض بحنان الأبوّة “تدمع عيناي” لكنّ الصور تتداعى تنثال رقيقة طفوليّة حالمة، الطّفلة، العصفور.
عبر لعبة الأفعال تحدث المفاجئة “تلفّتَ” مسند إلى هو، العصفور نحويّا لكنّه استعاريّا ودلالة مسند إلى الشاعر إذ يحضر ضمير المتكلّم “أنا’. من هذه “الأنا” حتما ليست الرّجل المسحوق في عالم المدينة إنّه (أنا / هو) المحلّق بعيدا عبر الثابت والمتحوّل “البيت في مكانه” والشاعر العصفور كان حقّا غادر.
” أنا حقّا غادرت إلى غابة من شجر الكرز” بيت ص48
في الغرفة الضيّقة المعزولة تنبت الغابات وينقلب الغريب طائرا ناريّا يبعث من جديد فالشّعر هويّة وطفولة وبهاء فكيف تقتله المدن الباردة.
هجرة الوطن إلى الشاعر
يتمترس الشاعر خلف الحدائق ويتحصّن بوعيه الريفيّ لمقاومة المدينة ولاستدعاء الوطن الذي يعجز عن العودة إليه.
ينخرط في سرد استرجاعيّ، يرحّل “هناك” إلى “هنا” قريته، النّهر والأمّ التي لا تزال عند المصبّ تغسل ثياب الطّفل الذّي كانه.
“ملآن بروحي التي كريشة بدمها
مازالت تحوّم في فضائه
ملآن بأنهاره الفائضة بالغرقى
أقطعها وحيدا

أقطعها كالظلّ
نحو أمّ قديمة جدّا
مازالت إلى الآن تغسل قميصي
عند المصبّ” أمّ قديمة ص 105
ولا يكتفي الشاعر باستدعاء الأمّ بل يمرّ إلى أستاذ الجغرافيا العظيم إنّه الوحيد الذّي دعاه من بين أساتذته.
فالجغرافيا نصّ سندباديّ ساحر هو الممكن لتجميع العالم على الصفحات وعلى الخرائط والطّفل الذي صار رجلا شاعرا يسقط ديكتاتوريّة الحدود وسطوة المدن عبر بعثها قصائد على صفحاته كلّ ما في المدينة هامشيّ والشاعر وحده يتقن الإقامة على الهامش.
هاهو يرسم البلاد ويتعرّف عليها وقد أنكرته
“مشغول بالنظر إلى السّحاب العابر
أنا كلّ صباح
مولود الصّدفة
ومسقط رأس قديم ينساه البريد
ومع ذلك
بلادي أعرفها
يعرفها رسّام الشاعر” سحاب عابر
إنّ الشاعر يحضن الوطن ويسير إليه بقلبه وحبّه، لم يعد مجرّد حائط مبكى تتذكّره القصائد حين كلّ عزاء.إنّه مسافة يطويها الشاعر رضا العبيدي.
“هذه المسافة التي تقطعها الآن
مشيا على قلبك دون رأفة
من شمالك البارد
إلى جنوبك الحار” ألوان
يطلقه على الصّفحات، فالوطن يعشق الحريّة والشاعر يحرّره. إنّه لا يكتفي بالتغريد خارج السّرب بل هو السّرب ذاته الذي يمنح المعزّين بعض ما اصطاد من حريّة إنّه مسكون به ولا يريد له موتا بل حياة أبديّة.
” أشتهي أن أجدّد العهد معه
على الأقلّ أن أراسله
(لا بدّ أن يكون قد تعلّم القراءة والكتابة
بعد كلّ هذه الأعوام)
أن أبعث إليه بجميع الصّور
التي التقطتها الشّمس لشبحي
في صباحات غيابه
لكن…
من لي بعنوانه؟ ” طفل ص 135
النصّ موجّه إلى “الطّفل الذّي كنتُه” والشاعر يستحضر وطنا طفلا لا يريد له أن يشيخ إنّه يعيده إلينا عبر ساحة المدرسة وظلال الأشجار، وبالونة العيد الحمراء.
عنوانه “فوق رصيف بارد” وغرفته في الطابق السّابع ولكنّ نصوصه نابضة بحرارة الحنين ورقّة الشعر ودفء الكلمة تنساب شامخة في غير غرور.
“لو انتظرت كان سينفتح
على مصراعيه على مشهد الغابة
حين عبرت تلك الطريق دون التفاتة إلى الوراء
حين هززت كتف اللامبالاة
حين تركت هكذا
أكثر من سماء تسقط من عليائها
فوق ذلك الرّصيف البارد” فوق رصيف بارد 60
هي سقطة سماء يجيء بها الشاعر لتشرق الشمس على الرّصيف ولتزهر أنجم تلك التي تركته ولم يتركها: بلاده. رغم الثلوج التي تقرعه ينفجر بركانا. إنّه الشّعر حين يغادر الحلم السماويّ لتصير النّبوءة فعلا وعملا على الأرض.
 
شاعرة و باحثة