جمالية النموذج الفني في شعر الحداثة

د. سعد الدين كليب

تأسيس نظري:‏

يعدّ النموذج الفني ARTISTIC TYPE من أهم الأساليب التقنية التي استخدمها شعر الحداثة العربية، في تعبيره عن وعيه الجمالي الذي يتصف بالدرامية DRAMATIC من جهة؛ وفي تعبيره عن الواقع الإنساني من جهة أخرى، إذ إن إنتاج النموذج الفني لايعني التخفّف من الغنائية LYRICISM فحسب. بل يعني أيضاً المعالجة الفنية لأوسع مساحة ممكنة، من الواقع بعلاقاته وقيمه المختلفة. ولهذا، فإن دراسة هذه التقنية هي،في أحد مستوياتها، دراسة لتجلي التجربة الشعرية بشكل درامي، في شعر الحداثة؛ مثلما هي دراسة لطريقة التناول الفني للواقع.‏

فمن المعلوم أن الشاعر الحداثي لم يعد، في الأعمّ الأغلب، يعبّر عن تجربته الشعرية بشكل غنائي صرف، كما كان الشاعر الكلاسيكي ينحو في شعره. بل بات أقرب إلى الموضوعية في تناول تجربته، وفي إنتاجها شعرياً. وهو ماأدى إلى استتار ذاتيته، في بعض النصوص استتاراً تصعب فيه إحالة هذه النصوص على تلك الذاتية، من دون أن يعني ذلك استتار الموقف الذاتي من هذه الظاهرة أو تلك. أي أننا لم نعد نتلقى ذاتية الشاعر من خلال نماذجه الفنية، بقدر مانتلقى موقفه الذاتي منها. ولذلك فإن الكلام على النموذج بوصفه تعبيراً عن تلك الذاتية، سوف يقع في مغالطة نقدية وعلمية في آن معاً. وذلك كما فعل الناقد يوسف اليوسف (1) بنموذج “حفار القبور” للسياب. حيث راح اليوسف يستقرئ نفسية السياب التدميرية السادية، من خلال هذا النموذج السلبي الذي أبدعه السياب تعبيراً عن موقفه الجمالي والأيديولوجي السلبي من ظاهرة اجتماعية محددة (* .

ومن الطبيعي أننا لاننفي أن يكون لنفسية الشاعر أو ذاتيته حضور ما، في بعض نماذجه الفنية. إذ إن شعر الحداثة هو، في نهاية المطاف، شعر غنائي يتصف بالدرامية، ولكن ننفي أن تكون هذه النماذج تعبيراً مباشراً وصرفاً عن ذاتيته. ولو كان الأمر على هذا النحو، لما كان ثمة حاجة للحديث عن النمذجة الفنية بوصفها معادلاً موضوعياً لموقف الشاعر من هذه الظاهرة أو تلك؛ وبوصفها تقنية تستوعب مجمل الظواهر النفسية والروحية والاجتماعية التي يعالجها الشاعر أو يعانيها.‏

إن الميل إلى إنتاج النموذج ينهض، أساساً، من محاولة الشاعر الحداثي، في استيعاب الواقع الإنساني استيعاباً درامياً، يتمكن به من تملك العلاقة الجدلية بين الذاتي والموضوعي، بين الأنا والآخر، وهو مالم يعد ممكناً بالشكل الغنائي الصرف الذي يمكن القول إنه أصبح عاجزاً عن استيعاب الواقع، وعن التعبير عن الوعي الجمالي الحداثي. إنّ عجز هذا الشكل هو الذي دفع الشاعر الحداثي إلى البحث عن تقنية جديدة، تنهض بما عجز عنه ذلك الشكل، فوجده في الأسلوب التقني الذي تتكئ عليه المسرحية والرواية، وهو النموذج أو الشخصية الفنية. إذ من المعروف أن المساحة الاجتماعية التي تعالجها الرواية أو المسرحية، بسبب أسلوب النمذجة، أكثر اتساعاً وعمقاً من المساحة التي يعالجها الشعر الغنائي؛ غير أن الشعر الحداثي، بميله إلى النمذجة، راح يستوعب، إلى حد ما، تلك المساحة. حيث بات يتناول كثيراً من الظواهر التي كان الشعر الغنائي عامة يبتعد عن تناولها.‏

ومما لاشك فيه أن ثمة اختلافاً واضحاً، في أسلوب النمذجة، بين الشعر الحداثي وكلٍّ من المسرحية والرواية. فعلى حين أن هذين النوعين يطرحان حيوات الأشخاص في ظروف اجتماعية محددة، ويصوران تناميها وتبدلاتها في علاقتها بالأحداث، وعلاقتها فيما بينها؛ نجد أن الشعر يميل إلى إنتاج النموذج ـ الموقف في علاقته بهذا المستوى أو ذاك من مستويات الواقع. بمعنى أن النموذج الشعري يتنامى ذاتياً، في إطار سماته النوعية المحددة. إنه لايحتمل التنامي من نوعية إلى نوعية أخرى مغايرة، والسبب هو أن الشعر لايستوعب حياة المنمذج كاملة. بل يطرح موقفه الذي يوضّح سماته. فهو حين ينتج نموذجاً ما، يتكئ على كينونته القيمية، لا على حياته المادية والروحية والاجتماعية، كما نلحظ في الرواية والمسرحية.‏

ويختلف النموذج الشعري عن كلٍّ من النموذج الروائي والمسرحي، في أنه موضوعي ـ ذاتي يحيل على موقف الشاعر من الظاهرة المنمذجة إيجاباً أو سلباً. أما الآخران فمستقلّان عن ذات المبدع. ولهذا فهما أكثر موضوعية من النموذج الشعري. إذ إن طبيعة الإبداع الشعري تجعل الشاعر لايتخلى عن طرح موقفه الذاتي. فموقف السياب، مثلاً، من “حفار القبور” أو “المومس العمياء” موقف واضح وصريح. أما موقف دوستويفسكي، مثلاً، من أفراد العائلة المتهرئة ـ عائلة كرامازوف ـ فليس واضحاً تمام الوضوح. فما موقفه من الأخ الأصغر المترهبن، أو الأخ الأوسط المتثاقف، أو الأخ الأكبر المتهتك، أو الأخ المنسي المصروع… إلخ؟ ولاشك في أن موقف دوستويفسكي السلبي من عائلة كرامازوف جملة، واضح تماماً. غير أنه رسم شخصياته تلك، بشكل موضوعي بالنسبة إلى ذاته. أما الشاعر، بسبب طبيعة فنه، فلايمكنه ذلك. وعلى أية حال، فإن لكل فن طبيعته الخاصة به.‏

إن سمة النموذج الفني الجديرة بالاهتمام تكمن في أنه يستطيع احتواء ظواهر اجتماعية جديدة دائماً(2). وذلك بسبب التعميم المجازي الذي يتصف به، وبسبب اهتمامه بما هو جوهري في الظاهرة المنمذجة. ويمكن القول إن النموذج الذي لاينهض بذلك، لن يتملّك الظاهرة التي ينمذجها، كما لن يتمكن من الإيحاء الجمالي. مما يعني أن النمذجة الفنية لاتتم بمجرد إيجاد شخصية مختلفة عن شخصية الشاعر. فلابد من أن تكون هذه الشخصية ذات إمكانية تعبيرية عن موقف أو تجربة أو ظاهرة ما، وذات إمكانية إيحائية، يمكن بها أن تستوعب ظواهر أخرى مختلفة، وأن تتواصل وما يستجدُّ على صعيد الواقع. ولكن ذلك غير ممكن، إذا ماكان النموذج عبارة عن مقولة عقلية. إذ إن للمقولة نسقاً مغايراً لنسق التجربة التي يسعى شعر الحداثة إلى التعبير عنها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإذا كان النموذج صادراً من تعميم مجازي، فإن ذلك لايؤدي إلى أنه تعميم عقلي للظاهرة. بل إن العلاقة الانفعالية بين الذاتي والموضوعي توجب أن يكون النموذج ذا نسق انفعالي مجازي لايمكن اختزاله بمقولة عقلية. إن هدف الشعر الحديث ـ كما يقول صاحب كتاب شعر التجربة ـ “يتجلى في فتح قناة من الموضوع الشخصي إلى نموذجه الأصلي عبر تجنّب المقولة العقلية للنموذج”(3). ولهذا فإن النموذج بما هو تعميم مجازي، يحيل على الطبيعة الانفعالية للتجربة الشعرية عامة.‏

وتنبغي الإشارة، في هذا المجال، إلى أن النموذج لايتمُّ، من دون الوحدة العضوية ORGANIC UNITY التي هي سمة أساسية من سمات القيمة الجمالية AESTHETIC VALUE عامة. فالتنافر والنشاز وعدم الاتساق لايمكنها أن تنتج قيمة جمالية. سواء أكان ذلك فيما يتعلق بالنموذج، أم فيما يتعلق بالنص عامة. ولهذا، لابدَّ من أن يكون النموذج المطروح متماسكاً على الصعيد البنيوي لتشكيله الفني، ولإحالاته الجمالية. بحيث لايبدو جمعاً اعتباطياً لبعض الصفات الإنسانية المتنافرة، أو لايبدو خالياً من الاتساق الإيحائي أو الإيحائي الجمالي المتسق.‏

إن النموذج الفني بوصفه حاملاً للتجربة الشعرية، ينبغي أن يمتلك الإمكانية في أن يكون ذا كينونة ذاتية مختلفة، بهذا القدر أو ذاك، عن كينونة الشاعر الذاتية، بحيث يستحقّ الانتباه إليه بذاته، شأنه في ذلك شأن الرمز الفني، بمعزل عن مبدعه. بل كثيراً مانجد الشاعر يدخل في حوار أو تناقض أو صراع مع نموذجه الذي قد يبدو، على الصعيد الجمالي، جميلاً أو قبيحاً، وبطولياً أو تافهاً، وتراجيدياً أو معذباً أو كوميدياً. ومن هنا، فإن النموذج ليس استيعاباً درامياً للتجربة فحسب بل إنه أيضاً يفرض بناء شعرياً درامياً بالضرورة. أي أن النص الشعري الذي ينهض على النمذجة، لابدّ من أن يكون بناؤه الفني درامياً. حيث تتعدد الأصوات وتتناقض، ويتنامى الانفعال، وتتطور الصور من بعضها، وتتواشج فيما بينها، وتصطرع المشاعر والأحاسيس.. إلخ.وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك أن النموذج غالباً مايتصف بتأزم درامي حادّ، فإن درامية البناء الفني للنص تغدو، عندئذ، أوضح من أن يشار إليها، ويغدو التداخل بين الذاتي والموضوعي عاماً في النص كله. “فالشاعر يتحدث عن نفسه عبر الحديث عن آخر (موضوع)، وهو يتحدث عن آخر عبر الحديث عن نفسه، وهو لايخاطب نفسه أو الآخر، كلاً على حدة، وإنما يخاطبهما معاً، فنراه يخاطب الآخر لينبئ نفسه بشيء ما، ومع ذلك فإن الشيء الذي ينبئ به نفسه يتأتى من الآخر” (4). وبهذا المعنى، فإن الشاعر في انتاجه للنموذج يختلق شخصية موضوعية، تكثف موقفه الجمالي ـ الذاتي، ليدخل معها في حوار يبلورها ويبلور موقفه أيضاً.وقد يسند إليها مايسعى إلى أن يقوله. فتقول قوله، على أنه قولها؛ كما قد يسند إليها مايتنافر أو يتناقض وقوله. فتقول، عندئذ، نقيض قوله، على أنه قولها أيضاً. وتبقى هذه الشخصية ـ أو هذا النموذج ـ هي المعادل الموضوعي للموقف الذاتي النهائي للمبدع، من هذه الظاهرة أو تلك. سواء أكان الموقف سلبياً أم كان إيجابياً. مع الإشارة إلى أن السلبية أو الإيجابية، هنا، تبقى نسبية. بمعنى أن النموذج ليس فكرة أو مقولة يمكن أن نصفها بالصواب أو الخطأ. بل هو كائن فني متعدد الأبعاد ومختلف المواقف والمشاعر. ولهذا كثيراً ما يصعب وصفه بالإيجابية أو السلبية المطلقة. وإن يكن للمبدع موقفه النهائي منه. فبما أن للنموذج استقلالاً ما عن ذات المبدع، فمن حقه أن يمتلك الإمكانية الإيحائية في أن يحيل على موقف تقويمي لا يتقاطع بالضرورة وتقويم المبدع له. والحق أن هذا شائع في الكثير من النماذج التي طرحها شعر الحداثة. وهو ما سوف نلحظه في بعض النماذج التي سوف نتعرض لها في هذا المبحث.‏

نخلص إلى أن سمات النموذج الفني، في الشعر، تتحدد بالتعبير عن جوهر الظاهرة المنمذجة تعبيراً مكثفاً مركزاً، من دون الالتفات إلى ما هو ثانوي أو عرضي أو يومي، مما قد يشكّل أساساً من أسس النمذجة في الرواية والمسرحية؛ ويتحدد بالتعميم المجازي القائم على الطبيعة الانفعالية للعلاقة بين الذاتي والموضوعي، وبدرامية الموقف، والتنامي في إطار النوعية المحدّدة، وبالوحدة العضوية، وبالإيحاء الجمالي المتكثّر؛ كما يتحدد أيضاً بالحسية الصورية التي من دونها لا يكون للنموذج كيان قائم بذاته، ولا يستطيع أن يتكثّر إيحائياً. فمن دون الحسية الصورية يغدو النموذج مجرّد رأي مطروح، يتطلب المحاورة الذهنية لا المعايشة الجمالية. أومن اللافت للنظر أن النقد الأدبي الخاص بالشعر الحداثي، لم يلتفت إلى التنظير للنموذج الفني، على الرغم من الأهمية العظمى التي له، في هذا الشعر الذي قام في معظم نصوصه على النمذجة. مع العلم أن ذلك النقد قد تناول هذه التقنية، غير أنه كان يرى فيها نوعاً من القناع الفني (5)، لا نموذجاً فنياً. ونرى أن مصطلح القناع MASK قاصر عن الإحاطة بهذه التقنية التي هي نمذجة بكل ما يعنيه المصطلح. إذ إن الفرق بين القناع والنموذج ينهض من أن الأول يحيل على ذات الشاعر المتقنعة، أما الثاني فيحيل على الظاهرة المنمذجة في علاقتها بذات الشاعر. علاوة على أن القناع يُعنى ـ كما هو مطروح نقدياً ـ بالشخصيات التاريخية والأسطورية، أما النموذج فهو أعم وأشمل. حيث يتناول كل شخصية، على الإطلاق، سواء أكانت تاريخية أم أسطورية أم واقعية أم متخيلة. مع الإشارة إلى أن التخيل أساسي في النمذجة الفنية عامة، حتى لو كان النموذج واقعياً بحتاً.‏

إن أسلوب النمذجة الفنية هو الأسلوب الأقدر على استيعاب القيم الجمالية بشكل تجسيدي تخييلي. حيث تبدو القيمة الجمالية فيه محمولة على شخصية فنية متكاملة؛ كما تدخل هذه القيمة، من خلال النمذجة، في تجادل مع القيم الأخرى. مما يعني أن النص القائم على النمذجة يشتمل على عدة قيم في آن معاً. وهذه القيم لاتتجاور بل تتناقض، ولاتتوالى، بل تتداخل. وهي في كلّ ذلك لاتظهر بوصفها آراء جمالية، وإنما بوصفها كائنات حية تتفاعل وتتصارع وتتنامى. ولهذا فإن القيمة الجمالية التي يجسدها النموذج تتطور وتتعمق بحسب حركة النموذج في النص، وبحسب تجادله مع الأصوات الأخرى. ومن ذلك فإن القيمة الجمالية إذ تتجسّد بالنموذج، لايمكن فهمها أو استيعابها من دون استيعابه. ولعلَّ النماذج الروائية أو المسرحية تكون مثالاً حياً على ذلك.‏

إن استيعاب النمذجة للقيم الجمالية لايعني نفسه بقدر مايعني استيعاباً للظواهر والأشياء التي تتناولها التجربة الشعرية. وإذا ماكان الشعر ـ والفن عامة ـ في جانب منه، تقويماً جمالياً للظواهر والأشياء في علاقتها بالمبدع، فإن ذلك لاينفي أن ثمة أسلوباً أقدر من غيره في استيعاب هذا التقويم. ولعلَّ النمذجة هي الأقدر من بين الأساليب الأخرى، كالصورة والرمز، على ذلك الاستيعاب، لما تتسم به من تعميم وشمول وكلية وتعدّد في تناول الظاهرة المقوّمة. فالصورة الجزئية مثلاً تتناول بالتقويم هذا الجانب أو ذاك من الظاهرة، ولاتتناول الظاهرة في كليتها؛ على خلاف النمذجة التي من سماتها كليّة التقويم وتعدّده. مع الإشارة إلى أن النموذج هو، بشكل أو بآخر، صورة فنية غير أنها كلية. بمعنى أنه الصورة المتحصلة من النص بمجمله. ولهذا، فإن النموذج بوصفه صورة كلية ينطوي على صور جزئية عديدة، تشكّل قوامه الجمالي والفني معاً.‏

أنــماط الـنمذجة فـي الـــشعر:‏

لقد طرح شعر الحداثة العربية الكثير من النماذج الفنية التي استوعبت تجربته الجمالية، في علاقته بالواقع. بحيث يمكن القول إنه لاوجود لظاهرة أو قيمة أو حالة في الواقع العربي المعاصر، لم يكن ثمة نموذج فني يستوعبها أو يجسدها. سواء أكان الأمر مرتبطاً بما هو اجتماعي أم سياسي أو وجودي أو نفسي… وهو مايسوّغ التعدد الهائل في النماذج من جهة، وفي القيم الجمالية من جهة أخرى. وإذا ماكان بالإمكان أن نصنّف النماذج بحسب القيم التي تجسدها، وهي غالباً ما تتمحور حول الجمال والقبح والجلال والبطولية والتفاهة والعذاب والتراجيدية والكوميدية؛ فإن طبيعة الموقف من هذه القيم تتباين وتختلف بحسب التجربة الشعرية الخاصة بهذا الشاعر أو ذاك بل بهذا النص أو ذاك أيضاً. وإذا ماكان بالإمكان أيضاً أن نحدد الأنماط العامة التي تنظم هذه النماذج، فإن ثمة صعوبة في الزعم أن النماذج يمكن أن تنصاع كلياً لتلك الأنماط. فلكلّ نص طريقته في تناول النموذج، وفي صياغته الشعرية، وفي إحالاته الجمالية، وإن يكن هذا لا يلغي إمكانية التصنيف العام، من خلال عدة أنماط شاعت بين النصوص.‏

إن النمط الأول، في تقنية النموذج، كما طرحه شعر الحداثة، يقوم على تكشّف النموذج ذاتياً، من خلال الموقف الدرامي المتأزم، مع تدخّل الذات الشعرية، في سيرورة النموذج وصيرورته، من أجل إعطاء صورة متكاملة عنه. أي غالباً ما يكون النموذج هو المتحدّث الأساسي، في النص. أما الذات الشعرية فتغدو وكأنها الراوي NARRATOR الذي يتدخل في سير الموقف، كي يبلور النموذج ويعمقه. مما يحيل على أن ثمة نوعاً من التناغم الفني بين النموذج والراوي، من أجل بلورة الموقف الدرامي المطروح، عبر دخول النموذج في تجادل مع نقائضه. وقد يكون الراوي أحد هذه النقائض، كما قد يكون الراوي على انسجام قيمي جمالي مع النموذج. فالتناغم الفني بين النموذج والراوي لا يعني، إذاً، تناغماً أو انسجاماً على الصعيد القيمي بينهما بالضرورة.‏

ونتوقف عند قصيدة “الصقر” (6) لأدونيس، بوصفها مثالاً على هذا النمط. حيث إن النموذج هو المتحدث الأساسي، على حين أن الراوي لا يتدخل، في سياق الموقف الدرامي، إلا قليلاً، بما يكفل توضيح هذا الموقف، وتوضيح معاناة النموذج أيضاً.‏

تعالج القصيدة شخصية عبد الرحمن الداخل المعروف بصقر قريش، والذي تشكّل حياته سيرة درامية بحقّ. غير أن القصيدة إذ تنطلق من هذه الشخصية التاريخية، تتجاوز السيرة الذاتية لها، لتطرح شخصية البطل الفرد. بما يتلاءم والمثل الأعلى الجمالي للبطولية الفردية التي ينطلق منها شعر أدونيس عامة. ومن ذلك، فإن نموذج الصقر البطولي ليس صياغة فنية لشخصية عبد الرحمن الداخل التاريخية. بل هو صياغة للمثل الأعلى الجمالي للبطولية الفردية. وإن تكن هذه الصياغة تنهض مما هو تاريخي في سيرة صقر قريش. وتقتضي الإشارة، في هذا المجال إلى أن كلّ الشخصيات التاريخية والإسطورية والواقعية التي عالجها شعر الحداثة، وجعلها نماذج فنية، قد عولجت من منظور المثل الأعلى للشاعر. بمعنى أن هذا الشاعر لم يكن يتعامل مع تلك الشخصيات بشكل حيادي أو من منظور مثلها هي، أو بحسب الأيديولوجية التي كانت تعبّر عنها، في واقعها التاريخي أو الأسطوري. ولهذا فإن البحث عن المشاكلة التامة أو شبه التامة بين الشخصية التاريخية والنموذج الذي يعالجها، هو بحث لاطائل منه(7).‏

تتأسس درامية قصيدة “الصقر” على ثلاثة محاور. الأول هو الصقر أو النموذج البطولي. والثاني هو السياق الاجتماعي التراجيدي. والثالث هو الجمال الطبيعي ـ المكاني. ومن خلال العلاقة الجدلية بين الصقر وكلّ من السياق والطبيعة، تتكامل شخصية الصقر، وتتبلور بطوليته، وتتكشف له الحقيقة. وهي أن بطوليته الفردية هي المنقذ الأوحد من السياق التراجيدي، وهي التي سوف تجعله يبني “أندلس الأعماق” (8)، أو يقيم واقعاً إنسانياً يتلاءم وجوهر الذات الإنسانية المبنيّ على الحرية. ومن هنا، فهو ينتقل من “موت” إلى آخر، من دون أن يسقط تراجيدياً، ومن دون أن يتخلى أو يتراجع عن بطوليته لحظة واحدة:‏

هدأت فوق وجهي بين الفريسة والفارس الرماح‏

جسدي يتدحرج والموت حوذيّه والرياح‏

جثث تتدلى ومرثيّه (9)‏

وعلى الرغم من هذا السياق التراجيدي، فإن الصقر يعلو عليه، رافضاً أن يتحول إلى جثة أو إلى مرثية. إنه ينتمي إلى الحياة، ويمتلئ بالرغبة فيها. فإنه في برهة الموت، يتواصل وجلال الفرات، مستمداً منه مايعمّق إحساسه بالحياة وبالبطولية أيضاً:‏

أسمع صوت الفرات:‏

قريش..‏

قافلة تبحر صوب الهند‏

تحمل من أفريقيا، من آسيا للهند‏

تحمل نار المجد (10)‏

بمعنى أن الجلال في صوت الفرات صادر من جلال قريش. حيث نار المجد التي يتمثلها الصقر، من أجل إبداع أندلس الأعماق. وكما راح يتمثل تلك النار، راح يتمثل أيضاً الماء الدافق، في الفرات:‏

وقلت للأشياء والفصول‏

تواصلي كهذه الأجواء‏

مدّي لي الفرات‏

خلّيه ماء دافقاً أخضر كالزيتون‏

في دمي العاشق في تاريخي المسنون(11).‏

وحين يتشرد الصقر، لا ينكسر أو يقع في الضياع والتيه، وإنما يسعى إلى التعرف إلى كل شيء، متمثلاً إياه في تبدّياته الجميلة. فهو يصغي إلى العقارب، وهي تصيء، ويهدي القطا في المجاهل، ويتوحد بالأرض، ويوشوش حتى الحجار (12). بكلمة أخرى: لقد عانى الصقر وعاين كلّ شيء: ذاته، وتاريخه، وواقعه، والوجود من حوله. وفهم السر الكامن وراء كل ذلك، مما جعل بطوليته شاملة. سواء أكان ذلك في علاقته بالموت، أم بالحياة، أم بحلمه الجميل ـ أندلس الأعماق. إن بطوليته هي الكيمياء التي تبدّل في طبيعة الأشياء، فتحوّل الموت وجوداً جديداً، والخوف باعثاً على الحرية:‏

متعب، حملته متاهاته، حملته الصخور‏

فحنى فوقها، يغذّي متاهاته، ويغذّي الصخور‏

والفضاء‏

موقد،‏

والرياح عجوز تقصّ حكاياتها‏

والصقور‏

موكب يفتح السماء (13)‏

وبهذا، فالجسد الذي كان يتدحرج والموت حوذيّه، تحوّل إلى وجه والشمس حوذيّه، فاتحاً العالم، ومتحولاً إلى صقور تفتح السماء. فالبطل غدا أبطالاً، والبطولية غدت جماعية. ذلك هو نموذج الصقر من حيث هو قيمة جمالية تجسّد المثل الأعلى، في البطل الفرد الذي هو أساس المجتمع وأساس التغيير بحسب أدونيس.‏

واضح أن هذا النموذج درامي، من الطراز الرفيع. إذ إنه يتنامى من خلال تجادله مع السياق التراجيدي للواقع، ومع الجمال الطبيعي ـ المكاني. فارتباطه الجدلي مع ذلك السياق أوضح فيه سمة البطولية، وارتباطه بالفرات عمّق فيه هذه السمة، وارتباطه بالأرض وجّه هذه البطولية إلى بناء أندلس الأعماق. فكل شيء كان ينهض ببلورة البطولية في الصقر، حتى تحول الصقر إلى صقور. مع العلم أن بطولية الصقر كانت واضحة منذ أن كان جسده يتدحرج والموت حوذيه. بمعنى أن الصقر لم يتحول من نوعية إلى نوعية مغايرة، على الصعيد الجمالي. بل إنه تنامى في إطار نوعيته المحددة.‏

إن نموذج الصقر هو المتحدث الأساسي، في هذا النص. إنه هو الذي يروي ماحدث ويحدث له، وهو الذي يتقلب من حال إلى حال، من دون تدخُّل من الذات الشعرية أو الراوي إلا في أواخر النص. حيث توقّف الصقر عن الكلام، ليتكلم الراوي بدلاً منه. ونشير، هنا، إلى أن نموذج الصقر كان يروي ما عاناه وما عاينه، حتى وصل إلى إنجاز حلمه، ليتوقف عن الكلام. وكأنه لايصحّ أن يتحدث الصقر عن انتصاراته وفتوحاته. هذه التي أخذ الراوي على عاتقه أن يسردها بتعاطف شديد:‏

الصقر في متاهه، في يأسه الخلاق‏

يبني على الذروة في نهاية الأعماق‏

أندلس الأعماق‏

أندلس الطالع من دمشق‏

يحمل للغرب حصاد الشرق (14)‏

فثمة تناغم، إذاً، على الصعيدين الفني والجمالي، بين النموذج البطولي والراوي. وهو ماجعل الراوي يبادر إلى الكلام عن فتوحات بطله، حين رفض هذا الحديث عنها. وهو ماجعله أيضاً يرى أن الوجود كله يترنم ببطله:‏

كل سماء باسمه كتاب‏

وكل ريح باسمه نشيد (15)‏

إن التناغم الذي نلحظه بين الصقر والراوي، نلحظه أيضاً بين الصقر والفرات الذي يمكن القول إنه الراوي التاريخي الذي يمدُّ الصقر بأنباء الماضي من بطولات وانتصارات ومآس. بمعنى أن ثمة، في النص، ثلاثة رواة. الأول هو النموذج، وهو المتحدث الأساسي في النص. والثاني هو الفرات الذي ينبئ الصقر بما قد حدث ماضياً، وأما الثالث فهو الذات الشعرية أو الراوي المعلّق. ولقد تكامل هؤلاء الرواة من أجل تقديم صورة متكاملة عن شخصية الصقر والمواقف الدرامية المتأزمة التي مرَّت بها. ونشير إلى أن هذا التكامل قد ظهر على النحو التالي: النموذج يروي مايحدث له الآن. والفرات يروي للنموذج ما حدث لأجداده القدامى. والراوي المعلّق يروي لنا ما أنجزه الصقر من فتوحات. ومما يلفت النظر في لغة هؤلاء الرواة أنها تتمحور حول الزمن الحاضر، على الرغم من اختلاف موقع هذا الراوي عن ذاك، واختلاف الأزمنة أيضاً. أي أن زمن النص هو الزمن الراهن. والحق أن راهنية الزمن قد جعلت من الموقف الدرامي يبدو وكأنه يتأزّم الآن، وجعلت من الصقر يعاني ويعاين وينكسر وينتصر الآن أيضاً. فليس ثمة ماض، على الرغم من أن هنالك رواية لما هو ماض. إلا أن هذه الرواية جاءت بلغة الحاضر. وكأن النص يقول من خلال ذلك إن كل ما يمكن استحضاره من الماضي هو حاضر بالضرورة. فالماضي لا يكون ماضياً إذا ما دخل في بنية الراهن. ومن ذلك، فإن حضور قريش في النص هو حضور الراهن لا حضور الماضي. وهو لا يقلُّ أهمية عن حضور السياق التراجيدي الذي يعانيه الصقر:‏

.. أسمع صوت الفرات:‏

قريش..‏

لؤلؤة تشعّ من دمشق‏

يخبئها الصندل واللبان‏

أرقُّ ما رقَّ له لبنان‏

أجمل ما حدَّث عنه الشرق…” (16).‏

ولاشك في أن قصيدة “الصقر” لا يمكن أن تستوعبها هذه الإشارات التي هدفها دراسة النموذج الفني لا دراسة القصيدة. ولكن لا بأس من الإشارة إلى أن الدرامية قد وسمت هذا النص بمجمل مناحيه، في النموذج، والبناء، والصورة، واللغة القائمة على التناقض، وفي الرموز الفنية.‏

أما النمط الثاني، في تقنية النموذج الفني، فهو أن يكون الراوي هو المتحدث الأوحد، في النص. أي أن النموذج ينكشف من خلال رواية الراوي الذي يرصد تحركات نموذجه، والتأزم الذي يقع فيه، مثلما يعلن عن موقفه منه. وهذا النمط يعطي مجالاً أوسع للراوي، في أن يصف ويقوِّم، بخلاف النمط الأول الذي يحدُّ من فاعليته بالنسبة إلى النموذج. ونطرح مثالاً على ذلك قصيدة “حالة” (17) لسعدي يوسف. أما القصيدة فهي:‏

شيخ في العشرين‏

يستيقظ، دوماً، في ساعات الصبح الأولى‏

يمشط شعراً مبلولاً‏

ويدير المذياع، وينصت للباكين‏

يختار قميصاً ورديا‏

وحذاء ذا كعب عال، وكتاباً أبيض‏

يقرأ شيئاً منه، وإذ ينهض‏

يصنع مايقرأ كرسيا‏

في غرفته، حيث العمل المأجور‏

ثلاثة أطفال بدناء:‏

أولهم: لايقرأ حتى نفسه‏

ثانيهم: ضيَّع في مزبله رأسه‏

ثالثهم: يحلم بالفقراء‏

كلَّ مساء، يغلق شيخ في العشرين‏

شقّته، وينام وحيدا‏

أمس استيقظ في منتصف الليل‏

تناول موساه‏

وحزّ بيسراه وريدا‏

وأدار المذياع وأنصت للآتين‏

لقد وصل هذا النموذج إلى الانتحار، حين اكتشف حقيقة وجوده الذاتي. وهي أنه مجرد مخلوق صغير معذب، لايملك حتى ممارسة حلمه. لقد افتقد هذا النموذج الحيوية، في اللحظة التي ينبغي أن يتمتع بها (شيخ في العشرين). وبما أنه قد افتقدها نهائياً، فإن كل محاولاته الشكلية، من أجل الإدعاء بها، هي محاولات زائفة أساساً. وذلك كأن يرتدي قميصاً وردياً ـ دلالة على الحيوية ـ أو كأن يبلُّ شعره بالماء ـ دلالة على الحيوية أيضاً.‏

لقد شاخت روحه، ولم يعد بالإمكان أن يتجاوز ذلك. مما يجعل الانتحار خاتمة مناسبة، لشيخوخة دائمة، في عز الصبا الذي من المفترض أن يكون هو الذروة في الحيوية.‏

يحيل هذا النموذج جمالياً على مفهوم المعذب. حيث نلحظ أنه يمتلئ بالتناقضات الروحية والأمراض النفسية (ثلاثة أطفال بدناء) . ونرى أن هؤلاء الأطفال البدناء ليسوا في الحقيقة سوى طفل واحد بسمات ثلاث. أي ليسوا سوى هذا النموذج المعذب الذي سمته المعلنة هي الحلم بالفقراء، وثورتهم. غير أنه (لايقرأ حتى نفسه) في علاقته بهذا الحلم. ومن هنا فإنه قد (ضيّع في مزبلة رأسه). بمعنى أنه لايمتلك وعياً أصيلاً بذاته، وبحلمه، وبفقرائه المتخيّلين. إن عدم وعيه هو الذي يؤسس لعذاباته الروحية والنفسية الحادة، حيث يعيش انتظاراً صعباً ووهمياً خبر قيام الثورة من المذياع ـ وربما خبر قيام الانقلاب العسكري ـ إنه ينتظر فحسب، مصغياً إلى أصوات الباكين، لعلّها تتحول من تلقاء نفسها إلى أصوات للآتين. أضف إلى كل ذلك أنه لا يقرأ أو يتثقّف إلا من أجل أن يبدو مثقفاً، وليس من أجل أن يعي ما حوله. فهو كلما قرأ شيئاً، جعل منه كرسياً له، يتعالى به. أو لنقل: إن إحساسه بفرديته إحساس متعاظم، لا يكاد يفارقه لحظة واحدة، بدءاً بتسريح شعره المبلول، وانتهاءً بنومه وحيداً، في شقّته. فالفردية، إذاً، هي المزبلة التي ضيع فيها هذا النموذج رأسه. وهذه الفردية هي الحاجز الذي ينهض بينه وبين حلمه، وبينه وبين الحيوية، وبينه وبين وعيه الأصيل لذاته ولموقعه.‏

إن درامية الموقف الذي يعانيه هذا النموذج، تتأتى من التعارض الحاد بين فرديته وحلمه، وبين الحيوية المفقودة والرغبة فيها، وبين تصوره لذاته وتكشّف حقيقتها له، وهذه هي البرهة الدرامية العليا، في هذا النص. حيث ينهض الصراع بين مواصلة الحياه كما هي، وبين الانتحار المنقذ من العذابات الروحية والنفسية. ومن خلال ذلك، تنامى النموذج، وتبلورت ملامحه وسماته. فهو بإحساسه الدائم بالموت (شيخوخته) اندفع إلى خوض تجربة الموت التي هي آخر تجاربه المؤلمة. وبفعل تناميه، لاحظنا كيف استيقظ في بداية النص على قناعه الشكلي (أناقته الشكلية)، في حين أنه استيقظ في نهايته، على ذاته الحقيقية غير المزيفة أو المقنعة. مع العلم أن ذاته واحدة، في الحالتين، فقد كان في البداية عاجزاً عن مواجهة قناعه؛ وفي النهاية كان عاجزاً أيضاً عن مواجهة ذاته الحقيقية. وبهذا فهو لم يتطور نوعياً، بل تنامى وعيه لذاته.‏

إن هذا الشيخ الذي في العشرين لم ير الحقيقة سوى برهة واحدة، وهي برهة استيقاظه منتحراً. وماتبقّى من حياته، فممتلئ بالوهم والزيف. حتى في برهة انسراب الدم من عروقه، خيٍّل إليه أن أصوات الآتين راحت تنسرب من المذياع، فراح ينصت إليها متخيلاً أن حلمه يتحقق؛ تماماً كما كان ينصت إلى أصوات الباكين متخيلاً أنها سوف تتحول بما يتلاءم وإنجاز حلمه.‏

نلحظ أن هذا النموذج مبني بشكل درامي داخلي. فصراعاته في داخله أكثر منها في الخارج، وإشكاليته ذاتية في الدرجة الأولى. ولعلّ هذا ماجعل العالم الخارجي باهتاً في النص. صحيح أن الاستلاب وانتفاء العدالة الإجتماعية، وشيوع القبح في العالم الخارجي، هي التي انعكست سلبياً في ذات النموذج. غير أنه، بما يعانيه من إشكالات روحية ونفسية، عجز عن أن يكون فاعلاً لا منفعلاً. لقد عجز عن المواجهة فانكفأ إلى ذاته التي مااستطاع أن يواجه حقيقتها أيضاً.‏

وعلى الرغم من أن الدرامية في هذا النموذج هي درامية داخلية، إلا أنها تنطوي على تأزم حاد جداً، تأزم ظهر في العزلة التي يعانيها النموذج (ينام وحيداً)، كما ظهر في استيقاظه منتحراً. وعلى الرغم من السردية التي اتصف بها النص، غير أنها لم تَضِعْ في الأمور الثانوية الجانبية. فحتى الإشارة إلى حذاء هذا الشيخ المعذب على أنه ذوكعب عال” هي إشارة إلى ما هو جوهري في ذات النموذج. إذ إنها تحيل على سمة التعالي فيه على كل ماهو حقيقي. فحذاؤه ذو كعب عال، مثلما أنه يصنع من قراءاته كرسياً له. أي أن ثقافته ذات كعب عال أيضاً. وهو مايؤكد أن ثمة وحدة عضوية في هذا النموذج. فكل السمات والملامح المطروحة تتكامل منتجة نموذجاً ذا نسق جمالي، يتسم بالوحدة العضوية. فليس ثمة تنافر أو نشاز في بنيته الفنية، وفي مضمونه القيمي، وفي إحالاته الجمالية.‏

كما نلحظ أن الراوي هو المتحدث الأوحد، في هذا النص. فقد تعرفنا إلى النموذج من خلال الراوي، لامن خلاله هو، ولكن إذا ماتساءلنا عن هوية الراوي، وعن موقعه من النموذج، فإننا لن نجد جواباً دقيقاً في النص. وكل ماهنالك أن للراوي موقفاً مسبقاً من النموذج. وقد تبدّى هذا الموقف ببعض التعبيرات الشعرية من مثل (شيخ في العشرين)، و(ثلاثة أطفال بدناء) و(ضيع في مزبلة رأسه). حيث إن في هذا التعبيرات موقفاً تقويمياً واضحاً، يمكن أن نفهم منه أن الراوي على تناقض مع النموذج، ويمكن أن نفهم منه أيضاً أن الراوي يعرف كل شيء عن نموذجه. وكلّ من هذه المعرفة وذلك التناقض، يتيح له أن يتخذ هذا الموقف الذي يبدو سلبياً بشكل عام. غير أن هذه السلبية لاتمنع أن يكون ثمة تعاطف ما، بين الراوي والنموذج. فالراوي، وإن اتخذ ذلك الموقف، يتعاطف مع الحالة الإنسانية التي يعانيها النموذج، ولاسيما حين وصل هذا إلى لحظة الانتحار، فبدت لغة الراوي محزونة منكسرة. ويكفي توكيداً لتعاطف الراوي مع النموذج أن هذا النموذج يحيل جمالياً على المعذب، ولايحيل مثلاً على القبيح أو الكوميدي أو التافه. إذ من المعلوم أننا لانستطيع أن نقوّم المعذب بمعزل عن مشاعر الأسى والحزن، ولكن أيضاً لانقوّمه بمعزل اللوم والنقد. وهو مابدا بوضوح، في موقف الراوي من النموذج، في هذا النص.‏

إن مالمسناه في قصيدة “الصقر” نلمسه في هذه القصيدة، من حيث هيمنة الزمن الحاضر، مع اختلاف هام، وهو أن هذه القصيدة إذ تطرح النموذج وهو يتنامى في الزمن الراهن تنقلب في نهايتها لتطرحه من خلال الزمن الماضي. بمعنى أن النص ابتدأ بالراهن وانتهى بالماضي. وهو ماجعل من حركة النص حركة مرتدة إلى الوراء فقد كان النموذج (يستيقظ، يمشط، يدير، ينصت، يختار، يقرأ، ينهض، يصنع)، وأصبح فيما بعد (استيقظ، تناول، حزّ، أدار، أنصت). وهو ما يتلاءم وحركة النموذج الدرامية من معاناة الحياة إلى الدخول في الموت، من الوجود إلى العدم.‏

وإذا كان هذا الراوي فرداً، لا نعرف موقعه تماماً من النموذج، وإن يكن يحيل على ذات الشاعر؛ فإن ثمة نصوصاً تطرح رواة واضحين من حيث الهوية والموقع، كما أن ثمة نصوصاً لا تطرح الراوي الفرد، وإنما الراوي ـ المجموعة أو الكورس الذي يحيل غالباً على الذات الاجتماعية. ونشير إلى أن الراوي الكورس يبدو أكثر موضوعية من الراوي الفرد، لأن السرد يكون عندئذ صادراً من مجموعة، لا من فرد. وغالباً ما تفسّر المجموعة هويتها وطبيعتها وموقعها من النموذج، في أثناء السرد الشعري. وإذا ما استخدمنا، هنا، مصطلح السرد NARRATIVE ، وهو مصطلح خاص بالنصوص السردية لا الشعرية، فإننا لا نقصد به أن ثمة أسلوباً سردياً في النص الشعري الدرامي، إذ إن للأسلوب السردي طبيعته وخصائصه وشروطه؛ وإنما نقصد به أن الراوي يعرض بشكل شعري مكثف حالة نموذجه والموقف الدرامي الذي يدخل فيه. أي أن السرد الشعري لا ينبغي أن يبدو قصصياً. وإن حدث هذا، فإنه يعني الانحراف عن الشعرية POETICS. والحق أن بعض النصوص الحداثية وقعت في مثل ذلك. حيث انقلب السرد الشعري إلى سرد قصصي، وتحولت اللغة الشعرية الانفعالية المكثفة، إلى لغة نثرية عادية أو حيادية.‏

ومثالاً على الراوي الكورس الذي يحيل على الذات الاجتماعية، نتوقف عند قصيدة “شهريار الزمن الأخير” (18) لمحمد عمران، التي تعالج شخصية شهريار الخيالية.‏

تنقسم هذه القصيدة إلى نصين اثنين: الأول بعنوان “شهريار والمرايا” والثاني بعنوانمذكرات شهريار الملك”. وهما نصّان مستقلان عن بعضهما بنيوياً. وقد كُتبا في فترتين مختلفين، ولا يجمع بينهما إلا الحديث عن شخصية شهريار. وعلى الرغم من أن الحديث عنه متسق في النصين، إلا أننا سوف نتوقف عند النص الأول الذي يقوم على الراوي الكورس. أما النص الثاني فيقوم على النمط الأول من تقنية النموذج الفني، حيث النموذج هو المتحدث الأساسي، على حين أن للراوي فيه دوراً ثانوياً.‏

يطرح النص، من خلال شخصية شهريار الرمز، نموذج الديكتاتور الذي يستعبد كل شيء، محوّلاً إياه إلى مادة للاستلاب والقمع، وإلى مادة لاستهلاكه الشخصي ورفاهيته الفردية. إنه يتعامل مع شعبه أو “رعاياه” تعامل الذئب مع الخراف، يسبي ويروّع ويقتل ويأكل، فلا يكاد ينجو شيء من بطشه أو من استلابه:‏

وشهريار‏

بيت بلا جدار‏

ليل من العهر، من الجنون، والدمار‏

وشهريار‏

محارب. أبوه من فوارس التتار‏

وأمه من سبي هولاكو‏

وشهريار‏

قرصنة في عتمة البحار‏

جموح راعي بقر.‏

وشهريار‏

سيد هذي المدن الخرساء (19).‏

ولأنه على هذا النحو من الصفات اللاإنسانية، فمن البدهي أن يكون الدم لذّته الأولى. إنه يلتذّ بالدماء، مثلما يلتذ بالموائد العامرة والأجساد العارية. بل يمكن القول إنه لايلتذّ بالجنس والطعام، إذا لم يكن قصره مشبعاً بالدماء:‏

ياشهريار‏

صففنا الموائد من كل لون‏

أتينا بناقر دفٍّ،‏

براقصة من وراء البحار‏

فرشنا سريرك بالعري..‏

يا شهريار “‏

ويعبق بالدم قصر الأمير‏

يطير على شفتي سندباد (20)‏

واضح أن شهريار، في هذا النص، هو نموذج للقبح والفظاعة، لابالمعنى السياسي فحسب. بل بالمعنى الإنساني عامة. ولأن هذا النموذج مرهون بعلاقته بالآخرين الذين هم مادة استلابه، فلم يكن بدٌّ من أن يكون الآخرون هم الراوي. أي أن هذا النموذج يتوضح وتتكامل صفاته، من خلال سرد الراوي ـ الكورس الذي لايخفي موقفه منه؛ لأن هذا الراوي لايسرد، في الحقيقة، سوى المعاناة التراجيدية التي يعانيها تحت هيمنة شهريار. بمعنى أن سرد الراوي ذو منحيين: المنحى الأول هو تبيان المعاناة الاجتماعية التراجيدية التي يعانيها، والمنحى الثاني هو تبيان الأساس الذي يقف وراء هذه المعاناة، ويكمن في وجود شهريار الديكتاتور الذي حوّل الجماعة إلى صدى له، وإلى مرايا لأفعاله:‏

وحوش الرياح نحاس.‏

تسيل الأناشيد نهراً،‏

جرفنا مع الموج.‏

هذا مدانا السحيق يرنُّ،‏

السنا الصدى والمرايا؟ (21)‏

إن كون الجماعة هي الصدى والمرايا، يعني أن هذه الجماعة لا تسرد إلا ما حدث فعلاً لكنها تسرده من خلال انعكاسه فيها (مرايا)، فهي الشاهد العدل، وهي المدّعي المظلوم في الوقت نفسه. ومن ذلك فإن موقع الراوي، من النموذج واضح تمام الوضوح، وكذا هي الحال في طبيعته وهويته. إنه “الرعية” المسبية التي أراد لها شهريار أن تكون خرساء، أو مجرد، “صدى” فحسب.‏

لقد قام هذا النص، إذاً، على الراوي ـ الكورس بوصفه المتحدث الأوحد. مما يعني أن كل التقويمات التي طرحها الراوي، ينبغي أن نفهمها على أنها موقف الراوي من النموذج، لا على أنها رأي النموذج بنفسه. فلا شك في أن للنموذج رأياً مختلفاً إلا أن الراوي لا يُعنى بذلك الرأي، مهما تكن مسوغاته. والسبب يكمن في أن القتيل لن يُعنى، بحال من الأحوال، بمسوغات قاتله.‏

إن كون الراوي ـ الكورس هو المتحدث، قد جعل النص ينحاز إلى صف الجماعة المقموعة المستلبة، كما جعله يهاجم الاستلاب والقمع من خلال هذا النموذج. وفي هذا يبرز الموقف الاجتماعي ـ الجمالي للذات الشعرية التي غابت فنياً عن النص، وحضرت جمالياً. بمعنى أن الذات الشعرية قد طرحت كل ما تعانيه وتريده، من خلال الراوي ـ الكورس. فثمة موضعة للذاتي من خلال الراوي، بحيث يبدو أن لا علاقة للذات الشعرية بالراوي، والنص عامة. غير أن واقع الحال أن الراوي لا يحيل على الذات الاجتماعية، إلا من خلال الذات الشعرية التي تعاني ما تعانيه تلك الذات. وهو ما يسّر موضعة الذات بالراوي، في هذا النص.‏

أما النمط الثالث، في تقنية النموذج الفني، فيقوم على أن الراوي هو المتحدث الأساسي، والنموذج هو المتحدث الثانوي. أي أن هذا النمط عكس النمط الأول الذي يكون فيه حديث النموذج أساسياً، وحديث الراوي ثانوياً.‏

ويتفق هذان النمطان في سمة التناغم الفني ـ لاالجمالي بالضرورة ـ بين الراوي والنموذج من أجل تقديم صورة متكاملة عن الموقف الدرامي الذي يعانيه النموذج. ويختلفان في أن النمط الأول يعطي للنموذج الحق الأكبر في قول مايريد. مما يعني أن النص هو في معظمه صوت النموذج جمالياً وأيديولوجياً. أما النمط الآخر فإنه يعطي الحق للراوي الذي يهيمن صوته جمالياً وأيديولوجياً على النص. والحقيقة أن هذا الاختلاف أساسي، لاثانوي. فعلى حين أنه مطلوب منا أن نتفاعل، في النمط الأول، مع النموذج؛ فإنه مطلوب منا، في النمط الآخر، أن نتفاعل مع الراوي ونصغي إليه، ونندمج فيه أحياناً.‏

إن اختلاف دور الراوي والنموذج، في هذه التقنية، لايعني نفسه بقدر مايعني اختلاف المنظور الجمالي والأيديولوجي اللذين ينطلق منهما النص، ويسعى إلى طرحهما. فحين يكون النموذج هو المتحدث الأساسي، فإن النص يكون تعبيراً أساسياً عن منظور النموذج. وحين يكون الراوي هو المتحدث الأوحد، فإن منظوره هو الأوحد في النص. أما حين يكون الراوي هو المتحدث الأساسي، فإن منظوره يكون هو الأساسي أيضاً ، في النص. وذلك بصرف النظر عن إمكانية أن يكون ثمة تناغم جمالي ـ وأيديولوجي أيضاً ـ بين الراوي والنموذج في هذا النص أو ذاك. مع الإشارة إلى أن هذا التناغم يفرض رؤيا موحَّدة بالضرورة. حيث لايكون هنالك اختلاف جمالي أو أيديولوجي بينهما. أما في حالة عدم التناغم، أو في حالة التناقض والاختلاف، فإن النص غالباً مايطرح نسقين مختلفين من الرؤيا: نسق الراوي، ونسق النموذج. وإن يكن النص لايمكن إلا أن ينحاز إلى رؤيا بعينها، في نهاية المطاف.‏

ومثالاً على النمط الثالث، نتوقف عند قصيدة “قصة الأميرة والفتى الذي يكلم المساء” (22) لأحمد عبد المعطي حجازي. حيث نلحظ أن الراوي قد أخذ معظم السرد الشعري، وحتى صوت النموذج غالباً مايأتي محمولاً على صوت الراوي. وثمة صوت آخر يأتي أيضاً محمولاً على صوت الراوي. وهو صوت الأميرة التي هي أحد أسس الموقف الدرامي، في هذا النص.‏

ونشير في البداية إلى أن الراوي يرى في نموذجه ” الفتى” تعبيراً عن مفهوم المعذب؛ ولهذا فإن مشاعر الأسى والحزن واللوم واضحة في سرده، لما يجري مع نموذجه. غير أننا نرى أن هذا النموذج أميل إلى أن يكون كوميدياً، من نمط دون كيشوت، منه إلى أن يكون معذباً. ويكمن السبب في ذلك، أن هذا النموذج يقع في تناقض حياتي حاد حيث الوسيلة التي تقصر عن إنجاز الغاية، وحيث التوهم الذي يبعد الغاية عن الإنجاز؛ تماماً مثلما حدث مع دون كيشوت الذي كانت غاياته نبيلة ورائعة، في حين كانت وسيلته لاتتلاءم ومايسعى إلى إنجازه، علاوة على التوهم الذي سببه غاياته، وقصور وعيه الواقعي. وفي ذلك إشكاليته الكوميدية.‏

لقد وقع الفتى في الشرك الذي نصبته الأميرة لأمثاله من “الأبطال” الحالمين بأن “تصبح الحياة عشّ حب، به رغيف واحدوطفلة ضحوك”(23). وذلك بأن راحت تعلن أنها “نصيرة الجياع”، و:‏

قلبي على طفل بجانب الجدار‏

لايملك الرغيف(24)‏

لقد كان لهذا الإعلان وقعه الإيجابي المباشر، على الفتى الذي كان يتكلم مع المساء عن أحزانه وأحلامه بعالم جميل، قوامه الحب والسعادة. ولأن وقع ذلك الإعلان كان إيجابياً عليه، فقد اندفع إلى عشق الأميرة التي بدت منقذة له مما هو فيه من معاناة، وراح يكيل لها المدائح والعواطف. ولكن:‏

فابتسمت له قائلة: “لا أنت شاعر كبير‏

ياسيدي أنا بحاجة إلى أمير‏

إلى أمير”‏

وانسدَّ في السكون باب (25)‏

لقد كان الفتى طوباوياً بحقّ (شاعر كبير)، حين توهّم أن أحلام الفقراء يمكن أن ينجزها السادة الأمراء. وهو لم يكن طوباوياً فحسب. بل كان أيضاً منخوراًمن الداخل. فعلى الرغم من أنه كان يحلم بالعدالة الاجتماعية، ظاهرياً فإنه كان في شكّ من إنجازها مما يعمّق التناقض بينه وبين حلمه، تماماًكما كان نموذج سعدي يوسف:‏

وفي ليالي الخوف طالما رأيته يجول في الطريق‏

يستقبل الفارّين من وجه الظلام‏

ويوقد الشموع من كلامه الوديع‏

ففي كلامه ضياء نجمة لاتنطفئ‏

ويترك اليدين تمشيان بالدعاء‏

على الرؤوس والوجوه‏

وتمسحان مايسيل من دموع‏

الصبح في الطريق‏

ياأصدقائي إنني أراه‏

فلاتخافوا … بعد عام يقبل الضياء”.‏

وعندما يمشون تمشي فوق خدّيه الدموع‏

ويفلت الكلام منه، يفلت الكلام‏

هل يقبل الضياء حقاً بعد عام”(26)‏

ولأنه لم يكن واثقاً من حتمية الضياء، فقد توهم أن الأميرة يمكن أن تنهض بما عجز هو عن الوثوق بحتميته. إذ الأميرة” جوهرة نادرة في تاج عصرنا”(27).‏

لقد كان هذا الفتى ـ النموذج يرى أن ذروة السعادة الإنسانية تكمن في أن يملك المرء الماس والحرير واللآلئ. وهو لم يكن يحلم برغيف واحد، إلا أنه لايملك الرغيف. وعلاوة على ذلك فهو يحسّ بضآلته وتفاهته بسبب فقره، أمام تلك الأميرة الشرقية التي تهوى الغناء، تهواه لاتحترفه(28). أما حين يجد نفسه أمام الفقراء فلايحس بالانتماء إليهم، على الرغم من كونه واحداً منهم، بل يحس بالشفقة على وضعهم. مما يجعله يدعي أن الضياء سوف يأتي بعد عام. أي أنه يموّه الحقيقة. فالضياء لن يأتي بعد عام. ولأنه يعرف هذا فقد سارع إلى إنقاذ نفسه، ولكن من دون جدوى. فالأميرة بحاجة إلى أمير لا إلى مدّع صغير. وبهذا يتوضّح أن حلمه برغيف واحد، وطفلة ضحوك، لم يكن في أساسه إلا حلماً بالماس والحرير، وبالأميرة الشرقية. فثمة إذاً، تناقض حاد بين مايبطنه وما يعلنه، بين حلمه الفردي وادعائه بالحلم الجماعي، بين رغبته وواقعه، بين غاياته ووسائله. وهذا التناقض لايحيل على التراجيدي أو على المعذب كما أوحى إلينا الراوي. وإنما يحيل على الكوميدي على الرغم من عذاباته. بل إن هذه العذابات ذات طبيعة كوميدية، في المقام الأول . إذ إن بعضها صادر من عشقه الواهم لأميرته الشرقية التي تهوى الغناء، تهواه لا تحترفه. والحقيقة أن هذا الفتى لم يكن أيضاً يحترف الغناء ـ أو الحلم الجماعي ـ بل كان يهواه فحسب. غير أنه لم يكن أميراً، حتى يبدو موقفه مسوّغاً مثل موقف الأميرة. إنه شخصية موهومة منفعلة. ولم يكن فاعلاً في أي سلوك أو موقف قام به. سواء أكان ذلك مرتبطاً بالرغيف ـ الحرير، أم بالطفلة ـ الأميرة، أم بدموع الفارين من وجه الظلام، أم بمخاوفه وهواجسه، أم بتصريح الأميرة، أم بطرده من قصره ـ الحلم، حتى وصل إلى نهايته المحتومة:‏

يجاهد الحنين يوقفه‏

كان الحنين يجرفه (29)‏

وهكذا، فإن الفتى ـ النموذج راح يتنامى، من خلال تناقضاته التي كانت أساس الموقف الدرامي، في هذا النص. وتكمن ذروة ذلك الموقف في طرد الفتى من القصر الذي هو، في الحقيقة، حلمه وغايته. بمعنى أن هذا النموذج راح يتكامل ذاتياً، في سماته النوعية المحددة، حتى لحظة سقوط الكوميدي.‏

ولقد كان الراوي هو المتحدث الأساسي الذي وضّح تلك السمات، وذلك السقوط. أما الراوي، فهو الذات الشعرية التي على صلة ما بالنموذج، تتيح لها أن تعرض وتسرد. حيث إنها كانت تشهد تناقضاته وتناميه، مثلما شهدت سقوطه.‏

ونلحظ أن الراوي هو محور السرد الشعري، في هذا النص، على حين كان النموذج هو محور الموقف الدرامي، علاوة على دوره الثانوي في القول. وعلى الرغم من أن الراوي حاول ألاّ يقوّم النموذج تقويماً جمالياً مباشراً، غير أن أسلوبه في العرض والسرد، وفي طبيعة الصور الفنية المستخدمة، انطوى على ذلك التقويم الذي ينهض من مشاعر الأسى والحزن أولاً :‏

أعرفها، وأعرفه‏

تلك التي مضت ولم تقل له الوداع .. لم تشأ‏

وذلك الذي على إبائه اتكأ‏

يجاهد الحنين يوقفه‏

كان الحنين يجرفه (30)‏

أما بالنسبة إلى الأميرة التي تشكّل أحد محاور هذا النص، فلولا وجودها، لما كان بالإمكان الحديث عن تأزم درامي، في هذا النموذج. وكأن الأميرة هي العامل الدرامي الذي جعل من النموذج يتأزم ويتنامى ويسقط. مع الإشارة إلى أن الأميرة هي الصوت الذي يحاوره صوت النموذج بشكل حوار خارجي (ديالوج)، مثلما كان يحاور صوت المساء بشكل حوار داخلي (مونولوج). إلا أن حواره مع المساء أكثر شعرية من حواره مع الأميرة. حيث بدا نثرياً في الكثير منه.‏

تلك هي الأنماط الثلاثة التي يمكن أن تستوعب تقنية النموذج الفني، في شعر الحداثة، من دون أن يعني ذلك أن لاوجود لأنماط أخرى، وإن تكن أقل أهمية وشيوعاً في ذلك الشعر.‏

ولكن لابد من القول، في هذا المجال، إن هذه التقنية لاتفرض حجماً محدداً للنص الشعري. فقد يكون النص مجرد مقطع قصير جداً، وقد يكون قصيدة عادية الحجم، كما قد يشغل ديواناً بكامله. ومن البدهي أن ذلك يعود إلى طبيعة الموقف الدرامي الذي يطرحه النص. فكلما اتسع النص اتسع بالضرورة الموقف الدرامي، واتسعت أيضاً حركة النموذج، وتعددت جوانبه، وتعمقت سماته. غير أن ذلك لن يضيف شيئاً إلى هذه التقنية، وإنما إضافته تتمحور حول طبيعة النموذج وخلفيّته، وإشكالاته وأطروحاته الجمالية والأيديولوجية. ولابأس من التمثيل على النص ـ المقطع الذي يقوم على هذه التقنية بنمطها الثالث، حيث الراوي هو المتحدث الأساسي.‏

يقول فايز خضور،تحت عنوان “اغتيال”(31):‏

عندما ودّع أهله‏

ولفيف الرفقاء‏

كان في يمناه ورده‏

وعلى الثغر الرماديّ رفيف لابتسامه‏

حذراً كان، ولم تسعفه نأمه‏

خوف خوف الصبح من غدر المساء…‏

قال: بعد الفجر آتيكم‏

فيا أمي افرشي طرّاحة الصوف لأجلي‏

كافر برد الشتاء..‏

أوصد الباب بيسراه وشدّه‏

شاء يهمي دمعة الشوق، ولكن خنقتها الكبرياء‏

غير أن الشمس ماوافته.. قبل الفجر جاء..‏

لم يكن يحمل ورده‏

كان تابوتاً، وحمالين مبتلين دمعاً ودماء‏

والرصاصات علامه‏

إن درامية هذا النص تنهض أساساً من المفارقة بين ماكان عليه النموذج، في البداية، وبين ماصار إليه، في النهاية. فمن النبض بالحيوية والإشراق، إلى النبض بالدم والموت. غير أن هذه المفارقة لم تأت بشكل مفاجئ. بل جاءت بشكل متنام. إذ إن النموذج كان يخاف الغدر، ويتوقع أن يحدث في كل لحظة. ولكن قسوة المفارقة تكمن في أن النموذج قد ودّع أهله ورفقاءه، وهو يحمل بيمناه وردة، ولكنه حين عاد، عاد محمولاً على تابوت أو عاد تابوتاً.‏

لن نطيل الوقوف، عند هذا النص، إذ إن ماسلف من حديث عن النصوص السابقة قد يضيء الموقف الدرامي فيه، مثلما يضيء علاقة الراوي بالنموذج، ونتوقف أخيراً عند أحد النصوص التي لم تنجح في صوغ نموذج منسجم فنياً وجمالياً؛ لتبيان أن هذه التقنية ليست مجرد جمع اعتباطي لبعض السمات. فلابدّ من وجود الانسجام في شخصية النموذج، وفي تمثيله لما ينمذجه. والحق أن الانسجام الفني هو أحد شروط القيمة الجمالية للفن عامة، لا للنموذج فحسب. على أن لا نفهم الانسجام فهماً شكلياً. بل على أنه المنطلق الداخلي المتوازن والمتكامل، للعمل الفني (32).‏

أما النص الذي سوف نتوقف عنده، فهو قصيدة “كلمات سبارتكوس الأخيرة” (33) لأمل دنقل. مع الإشارة إلى أن دنقل قد أنتج الكثير من النماذج المنسجمة المتكاملة فنياً وجمالياً. والوقوف عند هذا النص، لايعني أن دنقل لايجيد تقنية النمذجة، بل شأنه شأن شعراء الحداثة الذين أخفقوا حيناً، ونجحوا حيناً، في هذه التقنية.‏

يظهر سبارتكوس في المقطع الأول من النص، مثلاً أعلى في البطولية الجماعية. حيث يعلن الرفض المطلق، لكلّ أشكال الاستلاب والقمع واليأس والعبثية. فيقول:‏

المجد للشيطان… معبود الرياح‏

من قال “لا” في وجه من قالوا “نعم”‏

من علّم الإنسان تمزيق العدم‏

من قال “لا” فلم يمت‏

وظلّ روحاً أبدية الألم(34)‏

تلك هي كلمات سبارتكوس الأولى، أما كلماته الأخيرة، فهي:‏

ياأخوتي: قرطاجة العذراء تحترق‏

فقبّلوا زوجاتكم‏

إني تركت زوجتي بلاوداع‏

وإن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها.. بلا ذراع‏

فعلّموه الانحناء،‏

علّموه الانحناء، علّموه الانحناء (35).‏

قد يبدو أن ثمة تحوّلاً، في سبارتكوس، من البطولية إلى التراجيدية. غير أن الأمر ليس على هذا النحو. فالبطولي لايتحول بسقوطه التراجيدي، إلى شخصية ضئيلة تافهة وإنما يتحول إلى بطل تراجيدي، نتعاطف معه، ونشفق عليه من السقوط؛ لأنه يدعونا إلى تجاوز ماوقع فيه من خطيئة سبّبت له السقوط؛ ولأننا أيضاً نفتقد بسقوطه ماهو قيّم اجتماعياً. أما سبارتكوس ـ النموذج فهو بطولي في البداية، قبيح تافه، في النهاية. وهو الذي لم يحن جبهته حياً، يطالب بشيوع الانحناء، ويفلسفه إيجابياً، حين وصل إلى المشنقة.‏

إن دنقل لم يتخذ موقفاً محدداً من نموذجه، ولهذا، فقد وقع نموذجه في التناقض الجمالي والبنائي والإيحائي، في الوقت نفسه. ومايوضّح ذلك هو البنية الفنية للنص، التي تتألف من أربعة مقاطع مستقلة شعورياً، فيما بينها، تمام الاستقلال. ففي المقطع الأول نجد النموذج بطولياً، يعلن رفضه للقبح والتفاهة. وفي المقطع الثاني، نجده يطرح رؤياه التي تؤكد استفحال القبح في الواقع، وأن الناس جميعاً معلّقون “على مشانق القيصر”(36). وبما أن “الانحناء مرٌّ” فإن النموذج يدعو الناس إلى أن يرفعوا رؤوسهم عالياً. وبعد ذلك مباشرة ـ أي المقطع الثاني نفسه ـ نتفاجأ بالنموذج البطولي وهو يقول:‏

فالانحناء مرٌّ‏

والعنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردى‏

فقبّلوا زوجاتكم.. إني تركت زوجتي بلاوداع‏

وإن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها بلاذراع‏

فعلّموه الانحناء‏

علّموه الانحناء (37).‏

إن هذا الانتقال المفاجئ، من الرفض المطلق للانحناء، إلى الدعوة إلى الانصياع له، هرباً من الموت، لايجد، في النص، مايسوّغه شعورياً وفنياً. فكيف إذا كان الذي يدعو إلى الانحناء هو البطولي سبارتكوس الذي لم يحن جبهته، وهو حيّ؟‏

ويجيء المقطع الثالث، لنجد فيه سبارتكوس يقدّم آيات الخضوع والاعتذار، إلى سيده العظيم:‏

ياقيصر العظيم: قد أخطأت … إني أعترف‏

دعني ـ على مشنقتي ـ ألثم يدك (38).‏

ثم يرجوه أن يرحم الشجر والجذوع من القطع والبتر، بما أنه يسعى إلى شنق الجميع. أي لقد تاب البطولي عن بطوليته، وبات واحداً من الداعين إلى شيوع الثقافة القمعية التي يفرزها القيصر. وهي الانحناء، وإن يكن بشكل ساخر وتلك هي الحال، في المقطع الرابع الذي مرَّ بنا سابقاً.‏

إن هذه التناقضات التي اتصف بها النموذج قد أفقدته الايحاء الجمالي المنسجم، مثلما أفقدته الوحدة العضوية. ومن ذلك، فإنه لاينمذج شيئاً، لأنه ليس سوى أمشاج سمات ومواقف متناقضة ومتباينة.‏

ونعتقد أن دنقل قد سعى إلى أن يصور شخصية تراجيدية، من حيث الأساس؛ ولكنه لم ينجح في ذلك، حين جعل نموذجه ينقلب رأساً على عقب، جمالياً وأيديولوجياً، من دون تسويغ هذا الانقلاب فنياً.‏

ويبقى أن نقول إن النموذج الفني، في شعر الحداثة، قد أسهم إسهاماً فعالاً في توكيد سمة الدرامية في الوعي الجمالي الحداثي، مثلما أسهم في توسيع دائرة المساحة الاجتماعية التي يعالجها الشاعر، وفي الميل إلى الموضوعية في فهم العالم شعرياً. وهو مالم يكن موجوداً، على هذا النحو، في الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر.‏