محمد الساهل
ـ المغرب
كتاب (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) هو كتاب غير عادي، ليس ﻷن هذا الكتاب كان من بين المنتجات الأكثر مبيعا في متجر أمازون (حدث هذا الأمر عام 2011 ). وإن كان هذا الأمر وحده قد يجعل منه كتابا غير عادي ﻷنه قلما ظهر كتاب في اللائحة الطويلة – بله القصيرة – للمنتجات الأكثر مبيعا على (أمازون). بل ﻷن هذا الكتاب لا يشابه أباه. أليست جميع الكتب تعود بالنهاية إلى كتاب واحد ومجهول؟!. من هنا، فهذا الكتاب هو كتاب طفرة (الطفرة هنا بالمعنى الذي تؤشر عليه في علم الأحياء)، كتاب من دون صنو، وكتاب بدون جينوم، ﻷنه بكل بساطة هو كتاب أبيض في حين أن كل الكتب سوداء (من الداخل طبعا). من ثم، فالبياض، هنا، ليس تعبيرا مجازيا، بل البياض، هنا، حقيقة. لا شيء في هذا الكتاب غير البياض (200 صفحة بيضاء).
****
هل نحن حقا إزاء كتاب؟! وهل يصح أن ندرج (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) في فصيلة الكتب؟ وهل يعقل أن نسمي (شيد سيموف) كاتبا؟
هذه – لا محالة – أسئلة اتهام، أسئلة تشكيك، وأسئلة تجريح، ﻷنها تطعن – دون مواربة – في فصيلة هذا الكائن، أو هي أسئلة ترمي – ضمنيا – هذا الكائن بالمروق عن ملة الكتب والكُتَّاب. لكن، ليس سهلا أن نثبت هذا الأمر ما دام أن الناس قد اشتروه على أساس أنه كتاب وليس شيئا آخر، وما دام أن القائمين على المتجر قد عرضوه في خانة الكتب وليس في خانة أخرى.
لا شك أن هذه الحجج غير كافية لكي يكون (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) كتابا، ﻷن كثيرا من السلع تعرض – خطأ – في غير موضعها، وﻷن الناس يسيؤون – أحيانا – السبيل إلى السلع. من هنا، لن يتوانى المرء في القول إن (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) ما هو بكتاب، فمنذ متى كانت الكراسات البيضاء كتبا؟!. لكن هل البياض حجة كافية لكي ننفي عنه صفة (الكتاب)؟.
في كتاب (بحبر خفي) يرى عبد الفتاح كيليطو أن البياض قد يخفي كتابة غير مرئية، لكنها كتابة قابلة – بحيلة ما – للإظهار، ويؤكد كيليطو – إلى جانب ذلك – أن الكتاب ينهجون هذا السبيل في الكتابة لاتقاء الرقابة أو لإقصاء قارئ غير مرغوب. على هذا الأساس، مَنْ يدري أن يكون (شيد سيموف) قد دَوَّن هذا الكتاب بحبر خفي، وأن يكون هذا البياض (200 صفحة بيضاء) يُخفي كتابة غير مرئية. من هنا، فالبياض ليس حجة لكي ننفي عن هذا الكائن صفة (الكِتَاب) ﻷن ما نراه بياضا قد يُغطي حروفا، وما يبدو فراغا قد يَحْجُب امتلاء، وما نراه عدما قد يخفي وجودا. لكن، لو افترضنا أن هذا البياض يغطي فعلا كتابة، فما الذي يكون قد دفع (شيد سيموف) إلى ذلك؟.
****
ليس هيِّناً، إذن، أن نقول إن (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) ما هو بكتاب، ليس فقط ﻷن هذا البياض قد يكون يخفي مسطورا غير مرئي، بل ﻷن هذا البياض قد يكون، كذلك، جوابا عن سؤال (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟). لا ريب أن كل الذين اشتروا هذا الكتاب – السؤال كانوا يرجون جوابا. لكن، منذ متى كانت البياض جوابا؟.
قد يصعب ألا نرى في هذا البياض جوابا، ليس فقط ﻷنه ليس شرطا أن يجيب المرء دوما بكلمات، ألسنا نستعيض بالإشارة، بالصمت، وبالبياض عن الكلام في أحاديثنا؟، بل ﻷن البياض يكون، أحيانا ، أبلغ من كل سواد السطور، وﻷن البياض أيضا يقتصد علينا مجهود مطاردة الكلمات. لكن، ما الجواب الذي ينزوي وراء هذا البياض؟.
قد يكون هذا البياض يعني أن الرجال يفكرون في (لا شيء) غير الجنس، أليس البياض – من زاوية – معادلا للخواء (البياض= لا شيء)؟، تماما كما قد يكون هذا البياض يعني أن الرجال يفكرون في (أشياء كثيرة) غير الجنس، أليس البياض – من زاوية أخرى – معادلا للامتلاء (البياض = إمكانية كتابة أشياء كثيرة)؟. لو افترضنا أن البياض يعني (لا شيء) فإن الكاتب هنا سيكون قد هدَّأ من روع الفضوليين، ولو افترضنا أن البياض يعني (أشياء كثيرة) فإن الكاتب، والحال هذه، سيكون قد أوكل إلى القارئ مهمة تسويد هذا البياض بالأشياء التي يفكر فيها الرجال غير الجنس. كم سيكون جميلا لو صح الافتراض الثاني، ليس ﻷن هذا الأمر سيجبر ضررا قد يكون قد لحق بالرجال (هذا السؤال ينطوي على حكم قيمة سلبي)، بل ﻷن هذا الأمر سيمنح القارئ الحق في الكتابة. ولربما كنا، والحال هذه، أمام كُتَّاب عديدين لكِتَاب واحد، ولربما كنا، كذلك، أمام (شيد سيموف) القارئ.
*****
لا عجب أن يكون كل الذين اشتروا هذا الكتاب، هذا البياض قد شعروا – على الأقل ﻷول وهلة – أن في هذا الأمر نصبا واحتيالا. ولربما كانوا قد احتجوا، امتعضوا، واستنكروا هذا الخداع البائن. لكن، هل خدع حقا (شيد سيموف) القارئ؟.
ليس سهلا أن نقول إن (شيد سيموف) هو كاتب مخادع وأن (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) هو كتاب خدعة، ليس فقط ﻷن القارئ لا يقول بتاتا الكلام نفسه حين يقتني – أحيانا – كتبا بيضاء (أي تلك الكتب التي – رغم سوادها – لا تقول شيئا)، بل ﻷن أكثر الكتب إفادة – كما يقول فلوبير – هي التي ينجز القراء أنفسهم نصفها. ولا ريب، هنا، أن (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) يفتح باب التأويل، يورط في التفكير، ويمنح الحق في التعبير، على النقيض تماما من بعض (الكتب) التي تحتكر الكلام، وعلى النقيض تماما من بعض (الكتب) العجاف. بالنهاية، لربما سيكون جميلا – أو على الأقل مقبولا – أن نخدع ببياض أصيل على أن نخدع ببياض هجين.
****
كيف يمكن لكاتب أن يخاطر بكتاب أبيض؟.
في (حي بن يقظان) لابن طفيل وضعت الأم رضيعها (حي) في تابوت ثم أسلمته للبحر. بقية القصة معروفة، سيُلقي البحر ب(حي) في جزيرة نائية، وهناك ستتولى ظبية أمر رعايته، وفي هذه الجزيرة سيحاكي (حي) كل الأصوات، سيتكلم كل اللغات – هذا إن صح أن ننظر إلى أصوات باقي الكائنات على أنها لغات – إلا لغة الأم.
لا شك أن (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) قد خرج – وهو صفحات بيضاء – من بين يدي (شيد سيموف) تماما كما خرج الرضيع (حي بن يقظان) – وهو صفحة بيضاء – من بين يدي الأم. مسارهما لا يتشابه هنا فقط، ﻷن (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) سيقع في يد القارئ تماما كما وقع (حي بن يقظان) في يد ظبية. وإذا كان (حي بن يقظان) لم يبدأ بالحديث بلغة الأم، فإن (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) لم يبدأ، كذلك، بالحديث بلغة (شيد سيموف). هكذا، ف(حي بن يقظان) و(ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) قد عبرا معا من حضن إلى آخر، من عالم إلى عوالم أخرى، ومن لغة إلى لغات أخرى. كان يمكن ل(حي بن يقظان) ألا يتكلم إلا لغة واحدة (لغة الأم) لو لم يغترب عن المنشأ، لو لم يُنْفَ صفحةً بيضاء، تماما كما كان يمكن ل(ما الذي يفكر الرجال غير الجنس؟) ألا يتكلم إلا لغة واحدة (لغة شيد سيموف) لو لم يخرج من المنشأ صفحات بيضاء. وفي الإطار نفسه، لا بد من التذكير بأن كتاب (حي بن يقظان) هو كتاب متعدد الأنساب، لقد كتب هذه القصة ابن سينا والسهروردي وابن طفيل وابن النفيس. ولا عجب أن يكون (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) قد كُتِب، كذلك، من أكثر من كاتب أو على الأقل قد أُوِّل من أكثر من قارئ. إن كتاب (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) هو كتاب الجميع وليس ﻷحد تماما كما أن كتاب (حي بن يقظان) هو كتاب مفرد بصيغة الجمع.
لا مشاحة من القول، إذن، إن كتاب (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) هو كتاب يتكلم جميع اللغات إلا لغة (شيد سيموف)،. لكن، هل سيعود هذا الكتاب ليتحدث لغة (شيد سيموف) تماما كما عاد (حي بن يقظان) ليتحدث لغة الأم؟.
*****
قد لا نقول ، بعد الآن، إن (ما الذي يفكر فيه الرجال غير الجنس؟) ما هو بكتاب. وهنا، قد لا نغلو إذا قلنا إن هذا الكتاب هو الكتاب الأحق – أكثر من أي كتاب آخر – بهذه الصفة، ليس فقط ﻷنه يوكل إلينا مهمة الإنجاز، وليس أيضا ﻷنه لا يحتكر الكلام على النقيض تماما من تلك الكتب التي فاتها أن تحتكر الصمت، بل ﻷنه كتاب لا يشابه أباه (أي الكتاب المعهود بين القراء). ولا ريب أن على القارئ أن يُقَدِّر – على الأقل – طرافة الفكرة، وجدتها في حال إذا ما تعذر عليه أن يُصَدِّق (شيد سيموف) الذي يقول – في إحدى المقابلات – إن هذا الكتاب هو حصاد تسع وثلاثين سنة من البحث المضني والدراسة العملية. ما أجمل أن يُكَثِّف المرء خلاصات عمر مديد في كمشة بياض، بياض يقول كل شيء، ولا شيء.
في المقابلة نفسها، وعد (شيد سيموف) القراء بكتاب آخر بعنوان (ما الذي تفكر فيه النساء غير الجنس؟). وهنا، يبدو جليا أن (شيد سيموف) هو صاحب مشروع. لكن، لا أرى أن هذا الكتاب الموعود سيشابه الكتاب الأول، ﻷن الرجل لا يسبح في النهر مرتين، تماما كما لا أرى أن يحظى هذا الكتاب الموعود بالنجاح ذاته الذي حظي به الكتاب الأول ﻷن القارئ لا يلدغ من الجحر مرتين.