عبدالعزيز المقالح: شاعر مغلوب بالشعر والحب والانسان

عبدالعزيزالمقالح

الشاعر الباحث عن قصيدة العمر

فيصل الدودحي

ربما يكون من المجازفة الكتابة عن شاعر بحجم المقالح، لمكانته وريادة تجربته ، وعلى الرغم من ذلك فإن شرف مقاربة هذه التجربة الشعرية الرائدة ، يتوق إليها كل باحث ودارس منتمي للشعر ومتلق له، كيف لا  !وتجربة هذا الشاعر الرائدة تعد إحدى أبرز التجارب الشعرية العربية المعاصرة لاسيما في صيغتها التفعيلية والنثرية.

إن قصيدة تقف بثبات الصوت والتركيب والدلالة، وفي انتظام محكم في المبنى والمعنى هذه القصيدة بكل تأكيد تشير بوضوح الى قصيدة جليلة ومبهرة كتبها شاعر متمرس ومتفرد ، ينتمي بعمق فني وعلمي للشعر العربي بتجلياته الرائدة لا سواها، إنه الشاعر والأكاديمي الكبير عبد العزيز المقالح . هذا الشاعر الذي لا يتوقف إسهامه في إرساء دعائم الحداثة الشعرية العربية ، بل يعد واحدا ممن وضعوا أسس الحداثة الشعرية في اليمن لتتموضع بها بقوة منذ سبعينيات القرن العشرين؛ حيث تربى وسار على منهج المقالح واهتدى بتجربته جيل كامل من الشعراء الشباب الذين أصبح للكثير منهم إسهامات واضحة في القصيدة اليمنية والعربية. والمقالح الشاعر بهذا الإسهام والعطاء الإبداعي المتميز قدم الأنموذج الحيوي لمعنى الريادة الحداثية بكل التزام وإخلاص واستطاع بحسه الإبداعي وعمق وعيه بأهمية الخروج من أسر الماضي المحبط والإغراق في النمطية التقليدية أن يرسي دعائم الحداثة الشعرية في الواقع اليمني التقليدي.

امتداد وتواصلا مع جيله فقد بدأ المقالح بالقصيدة العمودية شكلا والرومانسية مضمونا، ثم انتقل للمراوحة بين القصيدة الجديدة من حيث الشكل، وبين الواقعية الرومانسية من حيث الرؤية. وفي المرحلة الثالثة من تجربته اقترب من القصيدة الجديدة (التفعيلة/ النثرية) شكلاً الواقعية مضموناً.

وقد كانت كل مرحلة من هذه المراحل تتبلور ثم تختفي تحت عوامل ثقافية، وقراءات متنوعة في الأدب والتاريخ والفلسفة ثم اتجه نحو منعطف من حياته لكتابة ما يمكن أن نسميه بقصيدة الرؤيا من خلال اللجؤ للقناع/ الرمز للتعامل مع التراث،  فيستدعي شخصيات تراثية متنوعة. وقد تنوعت أقنعة الشاعر بين التراثية غالباً، والمعاصرة نادراً ـ وقد غلب عليها الشخصيات التراثية اليمنية, مثل قناع “وضاح اليمن” ، أما من حيث المضمون الذي حملته شخصيات القناع فقد برز الموضوع السياسي اليمني في أبرز تجلياته.  الجدير بالذكر أن الشاعر المقالح يعد من أبرز الشعراء  العرب المعاصرين الذين وظفوا التراث بأشكاله المختلف في نصوصهم الشعرية؛ وهو ينطلق في ذلك من فكرة أن استلهام العناصر التراثية في التجربة الشعرية المعاصرة يثري المعنى الشعري ويكثفه، ويخرج القصيدة من التعبير المباشر إلى التعبير الرمزي الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام آفاق التأويل. وفي أيامه الأخيرة اتجه لتخليد علاقته بالمكان من خلال قصائد خصصها للأماكن والمدن التي عاش فيها وارتبط بها عضويا وذهنيا.  فضلا عن بروز ملامح التكوين والسيرة الذاتية كما هو واضح في ديوان “الشّمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة” الصادر عن دار الآداب اللبنانية .عناصر السيرة الذاتيَّة في قصائد المقالح ليس رصد فرداني لشخصه، بل هي غوصٌ وتشابك مشترك مع  تاريخ اليمن وسيرورته التاريخية، بكلّ ما تمثِّله اليمن  من تاريخٍ عريق.

الشعر عند المقالح ارتباط وجودي وأزلي بالقصيدة، والبحث عنها هو رسالة الشاعر ووظيفته في الحياة ” فقد كنت -وما زلت- أبحث عن قصيدة العمر، التي يظل الشعراء يحلمون بها طوال حياتهم، وما زال عندي أمل بأن تأتي هذه القصيدة في يوم من الأيام”، وتصل ثقة المقالح بالقصيدة أقصى حدودها فهو لا يخاف عليها من التضخم الهائل في وسائل التواصل الاجتماعي والعولمة بمظاهرها المختلفة “القصيدة ستظل حاضرة في قلب الأزل لأنها الأكثر إدهاشا وإثارة”.

حظي شعر المقالح باهتمام كبير من النقاد والباحثين، فظهرت الكثير من الدراسات العلمية التي تخصصت في دراسة شعره، فضلا عن مئات المقالات والكتابات التي تناولت تجربة الشاعر وحياته وإسهاماته النضالية الوطنية، وبدأها عبدالملك مرتاض بدراسة “بنية الخطاب الشعري ، دراسة تشريحية لقصيدة أشجان يمانية”، ودراسة” النص المفتوح، قراءة في شعر عبدالعزيز المقالح” لمجموعة من الباحثين، و” التشكيل الفني والموسيقي في شعر المقالح” لعناية أبو طالب، و” ظواهر أسلوبية في الشعر الحديث في اليمن” لأحمد الزمر . والكثير من الدراسات النقدية والأكاديمية التي لا مجال لحصرها هنا.

محطات في حياة الشاعر المقالح

عبد العزيز صالح المقالح، شاعر وناقد يمني، ولد عام 1937 في قرية المقالح في محافظة إب، اليمن.

تلقى تعليمه الأولي على مجموعة من العلماء والأدباء في مدينة صنعاء، ثم التحق بدار المعلمين بمدينة صنعاء وتخرج منها عام 1960، وواصل تحصيله العلمي حتى حصل على الشهادة الجامعية عام 1970،

في عام 1974 حاز على درجة الماجستير في الأدب العربي عن موضوع رسالته  ” الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن”، في جامعة عين شمس، ، ثم في سنة  1977 نال شهادة الدكتوراه عن موضوع رسالته”  شعر العامية في اليمن- دراسة تاريخية ونقدية” من الجامعة نفسها. شغل العديد من المناصب العلمية والإدارية حيث عمل أستاذا للأدب والنقد الحديث في كلية الآداب – جامعة صنعاء، ورئيسا لجامعة صنعاء من 1982-2001، رئيس مركز الدراسات والبحوث اليمني، عضو في مجمع اللغة العربية في القاهرة، عضو مؤسس للأكاديمية الدولية للشعر في إيطاليا، عضو في مجمع اللغة العربية في دمشق.

الجوائز والأوسمة التي حصل عليها

حصل على جائزة اللوتس عام 1986م.

حصل على وسام الفنون والآداب – عدن 1980م.

حصل على وسام الفنون والآداب – صنعاء 1982م.

حصل على جائزة الثقافة العربية، اليونسكو، باريس 2002م.

حصل على جائزة الفارس من الدرجة الأولى في الآداب والفنون من الحكومة الفرنسية، 2003م.

حصل على جائزة الثقافة العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 2004م.

حصل على جائزة الشعر من مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية 2010م.

مؤلفاته

أولا: المؤلفات الشعرية

لا بد من صنعاء، 1971م

مأرب يتكلّم، بالاشتراك مع السفير عبده عثمان، 1972م

رسالة إلى سيف بن ذي يزن، 1973م

هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي، 1974م

عودة وضاح اليمن، 1976م

الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل، 1978م

الخروج من دوائر الساعة السليمانيّة، 1981م

وراق الجسد العائد من الموت، 1986م

أبجدية الروح، 1998م

كتاب صنعاء، 1999م

كتاب القرية، 2000م

كتاب الأصدقاء، 2002م

كتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان، 2004م

كتاب المدن، 2005م.

ثانيا: المؤلفات الأدبية والفكرية

الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن.

شعر العامية في اليمن.

قراءة في أدب اليمن المعاصر.

أصوات من الزمن الجديد.

الزبيري ضمير اليمن الوطني والثقافي.

يوميات يمانية في الأدب والفن.

قراءات في الأدب والفن.

أزمة القصيدة الجديدة.

قراءة في كتب الزيدية والمعتزلة.

عبد الناصر واليمن.

تلاقي الأطراف.

الحورش الشهيد المربي.

عمالقة عند مطلع القرن.

الوجه الضائع، دراسات عن الأدب والطفل العربي.

شعراء من اليمن.

حوار مع الأديب والشاعر عبدالعزيز المقالح

                                                            حاورته انتصار السري

الشاعر المقالح أديباً بحجم وطن

خاص مجلة “نصوص من خارج اللغة”

عندما تدخل إلى مكتبه المتواضع يستقبلك بابتسامته البشوشة، يسبقك بالتحية والترحيب حتى و ان كانت تلك زيارتك الأولى له، أنه أب لكل المبدعين ، وهرم من أهرام الأدب والثقافة اليمنية والعربية، يرحب بك دون ضرب مواعيد مسبقة، تجده في مكتبه يوميا يلبي ندا كل طالب علم أو معرفة، يحنوا على كل من وجد فيه بذرة الإبداع.

أنه الإنسان الشاعر المثقل بهموم والوطن المجروح، يحمله بين حنايا ضلوعه وبه يعبق شعرا وحبا.  

في حديث ذي شجون يفتح لنا الدكتور عبدالعزيز المقالح قلبه وينثر كلماته على صفحات مجلة “نصوص من خارج اللغة” والتي تحتفل في عددها هذا بالشعر اليمني، فإلى رحاب أديبا الكبير في هذه السطور…

  • فاتحة حورانا سيكون مع ديوانك الشعري الجديد والذي سوف يصدر قريبا “كتاب الحرب”، دكتور عبدالعزيز حدثنا عنه؟

مازال هذا الديوان في دور الجمع، وما زلت متردداً في إصداره على أمل أن ينقشع دخان الحروب العربية وتكاد قصائده تكون تسجيلاً لأحداث ووقائع ما تزال كوابيسها تلاحق المواطن في صحوه ومناماته. والحديث عن الحروب مثل الحروب نفسها يجرح الروح، وما يؤسف له حقاً أن الحروب الحديثة وأغلبها أن لم تكن كلها عبثية ولا هدف لها سوى قتل أكبر عدد من البشر والأبرياء منهم خاصة، فضلاً عما تتركه من تصدعات عميقة  في الحياة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية .

  • مجلة “نصوص من خارج اللغة” في هذا العدد تحتفل بالشعر اليمني تري ماذا سيقول لنا شاعر اليمن الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح عن حال الشعر في اليمن خاصة وما تمر به بلادنا في هذه الظروف؟

ربما يكون الشعر في بلادنا هو المعافى الوحيد في مجتمع كل ما فيه مريض، الإنسان والاقتصاد والأمن والثقافة والتعليم ، وماذا يؤمل من واقع تطحنه الحرب وتدمر كل بناه التحتية وما كان قد تحقق للشعب على مدى خمسين عاماً عبر الثورة اليمنية من اصلاحات ومكتسبات. وقد يقول قائل:

ولماذا الشعر وحده لم يشمله المرض ويبدو في تقدير يتمتع بشيء من العافية. وردي على مثل هذا القول أن الشعر فن حر يتغذّى من نبع الألآم ويرفض الصمت ويستعصي على الترويض. وربما وجد نفسه في الأوضاع المتأزمة أكثر انطلاقاً منه في الأوضاع الهادئة والمستقرة.

  • دكتور هل يكون الشاعر راضاً عن نفسه وعن ما قدمه خلال مسيرته الأدبية والإبداعية؟

إذا رضي الشاعر الشاب عن نفسه وعما انجزه يكون قد طوى آخر صفحته في مستقبله الشعري، الشاعر الحقيقي لا يعرف الرضا وهو كلما قدّم عملاً ناجحاً طمع إلى تحقيق ما هو أكثر تعبيراً عن أشواقه إلى نجاح أكبر. أنه إنسان قلق شكاك في موهبته وفي قيمة ما ينتجه من إبداعات شعرية ومن إصدارات، أن هذه الحال من المعاناة تشكل الوقود الدائم للشاعرية وتدفع بالشاعر إلى المضي في الكتابة والاستمرار في الإبداع.

  • من يتابع ويقرأ دواوين الشاعر المقالح وخاصة التي تحمل عنوان كتاب مثل “كتاب صنعاء”_ “كتاب المدن” –”كتاب الحب” – “كتاب الأم” – “كتاب الاصدقاء” إلى آخر..، يجد أن هناك ثمة مشتركة بينها، أيضاً يجد روح الكاتب تسكن قصائدها، ترى هل ذاتية الشاعر المقالح محفورة في تلك القصائد؟

إذا لم تكن روح الشاعر مسكونة في قصائده المحقونة بقطرات من دمه فإنها ستولد ميتة وفاقدة لا بسط مقومات الشعر. وقد حاولت في أعمالي الشعرية بما فيها تلك التي أطلقت عليها تسمية “كتاب” أن أنقل إليها شيئاً يكبر أو يصغر من قلقي وتوتري وصفائي. ولست معيناً بعد ذلك أن تتبع مدى ما أخذت مني وما أخذته منها، فالقصيدة الجيدة هي خلاصة حوار بينها وبين الشاعر.

  • من يتابع نتائج جائزة المقالح السنوية سوف يجد أن هناك اسماء لعدد من المبدعين الشباب الذين كان لهم حضور أدبي متميز في اليمن وجميعهم يشيد بأن جائزة المقالح كانت انطلاقة له وتشجيع له، ترى هل كان تشجيع الشباب وتقديمهم هدف من اهداف الجائزة؟ ولماذا حجبت جائزة الرواية والقصة في الأعوام الأخيرة؟

أود أولاً أن أشير إلى أنها جائزة متواضعة جداً، وهدفها كما أشرت أنتِ في سؤالكِ تشجيع المبدعين الشبان، وبعض من حصلوا عليها أثبتوا في السنوات اللاحقة اقتداراً شعرياً لافتاً، ومن هؤلاء على سبيل المثال الشاعرين يحيي الحمادي وزين العابدين الضبيبي.

وفيما يتعلق بحجب الجائزة عن الرواية والقصة القصيرة فتسأل عن ذلك لجنة التحكيم التي تقول أنه ما تقدم إليها في هذا المجال لم يكن في المستوى الجدير بنيل الجائزة.

  • ونحن نحتفل بالذكرى الخامسة والخمسين لقيام ثورة 26سبتمبر ماذا تعني هذه الذكرى للشاعر عبدالعزيز المقالح وهو من كان في منبر الإذاعة أيام الثورة؟ حدثنا دكتور عن تلك الذكريات وماذا تعني ثورة 26سبتمبر للشاعر المقالح وكذلك لشعر في اليمن؟

لم يكن اليمنيون إلى وقت قريب يتحدثون عن ثورتهم كذكرى بل كانت عيداً، وكانت وسائل الإعلام المختلفة لا تتحدث عن ذكرى بل عن عيد، وكنت أعتدت وعدد من زملائي فنقول العيد الخامس والخمسين لثورة السادس والعشرين فالثورة بأهدافها وبالأحلام التي بشرت بها ما تزال قائمة ولم تصبح ذكرى بعد. وأمّا عن ذكريات الأيام الخالدة أيام تفجرت فيه أضواء الثورة فيحتاج الحديث إلى وقت أطول ومساحة أوسع.

  • لكل مبدع وأديب طقوسه الخاصة عند الكتابة، ترى ماهي طقوس أديب وشاعر اليمن عبدالعزيز المقالح؟

لا طقوس لي على الإطلاق ولا وقت محدداً للكتابة والشعرية منها بوجه خاص فالقصيدة قد تفرض نفسها عليك وأنت في قاعة المحاضرات أو أنت تركب السيارة أو تزاحم الجمهور في أحد أسواق الشعبية. وأسوأ صورة للشاعر أن يجلس على مكتبه وهو ينتظر القصيدة أن تنهمر على الورق المنشور بين يديه.  والأسوأ أن يحاول كتابتها وهي غائبة لا تستجيب، وكثير من الشعراء النظامين هم الذين يكدون عقولهم ويسترجعون محفوظاتهم لعلها تمنحهم شيئاً مما يمكن تسميته بالشعر وهو ليس كذلك.

  • الدكتور المقالح رغم الحصار الذي منع وصول عدد من الإصدارات الجديدة من الكتب والمجلات إلى اليمن إلا أننا نجده متابعاً جيد ويقرأ كل ما هو جديد من رواية وشعر وكذلك مقالات أدبية حدثنا عن ذلك العالم الذي يعيشه أديبنا القدير؟

لم يعد في أمكان الحصار المضروب على بعض الشعوب أن يؤدي مهمته كاملة، فقد أستطاع العلم الحديث أن يفتح أكثر من وسيلة للتواصل مع العالم. صحيح لقد  غابت عنّا صحف الوطن العربي والعالم، ولم تعد الدوريات الأدبية تأتي إلينا كما كانت قبل الحرب لكننا جميعاً وعن طريق نافذة “الإنترنت” نتابع الاطلاع على بعض الكتب المهمة والمجلات الأدبية التي كانت تملأ المكتبات العامة والخاصة ولا تخلف مواعيدها، ونحن في هذه الحال نعمل بالمثل الشائع من فاته اللحم فما فاته المرق.

  • هل صارت الرواية هي ديوان العرب كما يقال حالياً؟ أم أن للشعر مكانته وحضوره؟

لكل فن من الفنون القولية والإبداعية قواعده ومقوماته وحاجة الناس إليه. وبما  أن المذياع لم يحجب ظهوره الصحف، والتلفاز لم يحجب الإذاعة والإنترنت لن يلغي الكتاب فإن الرواية: فن له خصوصيته وله قرّاؤه وكذلك الشعر وهو فن يسكن الوجدان الإنساني منذ أقدم العصور فليس في إمكان أي فن أدبي آخر أن يحل محله أو يلغي حضوره، وهو شقيق الموسيقى ولغة الوجدان. والرهانات العبثية الهادفة إلى التقليل من جيش أدبي لصالح جنس أدبي آخر رهانات طفولية فاشلة وجديرة بالسخرية!

  • شهد هذا العام رحيل صديقك شاعر اليمن القدير أحمد قاسم دماج ذلك الإنسان الذي جمعتكم مع بعض مسيرة أدبية حافلة بالعديد من الذكريات، ماذا ترك رحيله من فراغ ووجد؟

أن تقفد صديق عمرك بعد صحبة طالت عشرات السنوات، وتجد نفسك وقد أصبحت وحيداً إلاَّ من الذكريات التي تزيد من مرارة الفقد وشجن الغياب فلابد أن نشعر بأن فراغاً هائلاً يحيط بك من كل الجهات يضاف إلى ذلك الفراغ  الكبير الذي أحدثه غيابه في الساحة الأدبية وبين جيل من الشعراء والأدباء الشبان الذين كانوا يحيطون به ويستمدون من صلابته وقوته القدرة على المقاومة فقد كان يتمتع بشجاعة نادرة وبروح إنسانية في غاية العذوبة والصفاء، لقد فقدناه وخسره الوطن والإبداع.

  • المتابع للمشهد الأدبي اليمني يجد أن النقد مغيب في الأوساط الأدبية؟ دكتور ما مدى تأثير ذلك على الأديب وخاصة الأديب الشاب الذي هو بحاجة إلى من يقف بجواره ويرشده في أول طريقه الإبداعي؟

يبدو أن النقد بمعناه الإيجابي والطليعي في غياب تام ليس في بلادنا وحدها فحسب وإنما في سائر الأقطار العربية، دون استثناء، فالأوضاع الراهنة وما تكشف عنه من هزائم روحية ومادية كفيلة بأن تفرض حالة من الموت الشامل والتام .

عبد العزيز المقالح شاعر مغلوب بالحبّ

محمد علي شمس الدين

كنت أوّد أن أصيب في العبارة بوصف لكتاب عبد العزيز المقالح الأخير «كتاب الحب» (أروقة للدراسات والترجمة والنشر 2014). ما هو؟ وما هو نسبه؟ هل هو استئناف عربي معاصر لفن «الهوى» الذي كان أسسه «أوفيد»؟ أم هو دم جار كان وما زال يجري في أصلاب الشعراء قبله من لدن امرئ القيس وابن أبي ربيعة قاطعاً أطوار طوق الحمامة في الأندلس، معرّجاً على ياسمين دمشق وفتاها الجميل، ليصل إلى عروق عبد العزيز المقالح في مكانه السعيد وأناشيده المفاجئة؟

إن خمساً وأربعين قصيدة كانت كافية لتدفعني بعد قراءتها للإصابة بالعدوى، وقلت لنفسي ما لهذا الفتى المخطوف، الشيخ الثمانيني الوقور عبد العزيز المقالح، يقوم بين ليلة وضحاها، على بعد المسافة ما بين صنعاء وبيروت، ويرقص في حضرة الحب كما يفعل صانعو البهجة والدهشة والألفة، ويدعوني للإنغماس معه في أحواله، فأقوم، أنا المقيم في بيروت كالمريد، وأدور معه وأرقص وأردّد أشعاره، ومنها قصيدته الأخيرة: « وأخيراً/ في ظلّ الحب رأيت الله/ وبين يديه نفضت همومي وذنوبي…» .

وقلت لعلّه من أجل سلامة القلب البشري ومن أجل سلامة الحياة على الأرض نشر الشاعر كتابه القديم في الحب، بعد تردد دام ردحاً من الزمن. و لعلّ الشاعر اليمني الكبير قد قطع بذلك نصف عمر إلى الوراء ليكشف الستار عن الأسرار الأولى والكنوز المطمورة لحياة في الحب، هي حياة جميلة وحميمة وخاصة، حتى لتبدو كأنها غير قابلة للبوح بها فظن بنشر عباراتها ( على نضج العبارة وتنوع أحوال القصيدة )، لكنه انتهى مغلوباً بالحب، ومغلوباً بالشعر.

اللحظة المختلطة

كتاب عبد العزيز المقالح ديوان معدٍ، ولكي تكون القصيدة مؤثّرة يلزم أن تكون معدية أي قادرة على أن تخطف القارئ من حاله إلى حالها، فتجعله ينغمس في شروطها وأوقاتها وأماكنها وصورها وحكاياتها ولغتها وأحاسيس شاعرها وهواجسه. وهذا هو الحب بكل حال، مثلما يقول نيرودا «أحبك عن قرب جداً بحيث تصبح يدك التي على صدري يدي/ عن قرب جداً إلى حد أن عينيك تغمضان حين أنام» (القصيدة السابعة عشرة للفؤوس وماتيلدا و القرنفل).

إنّ التواصل مع القصيدة مسألة مركبة. صحيح هي لأول وهلة، تكون لحظة متبادلة بين اثنين: الشاعر ممثلاً بقصيدته (النص) والقارئ وما يمثل. لكنها لا تقفل على هذه البساطة. إنّ عشرات الوسائط الضمنية تتدخل في رسم هذه العلاقة، لذلك حين أقول إن قصائد المقالح في «كتاب الحب» أصابتني بالعدوى، فإنني أعني خصوصيتين كثيرتين جداً ذائقتين ومعرفتين على الأقل.

فالقراءة هنا قراءة خاصة وشبكية في وقت واحد. فلست معه منتقداً، وإن كنت أعول على النقد باعتباره معرفة شعرية بالنصوص وسبراً عميقاً لها. ولعلي منتدب للدخول معه في شراكة النص وشراكة الحب. فالحب «علّة مشتهاة»، على ما يقول ابن حزم الأندلسي، وله (في رأيه) ثلاثون باباً من مبدئه حتى انتهائه بالموت، وهذا من «طوق الحمامة» لشيخ المذهب الظاهري في الحب… أما ابن عربي فأكثر إحراجاً وحضاً على التفكير، بحيث قال: « الحب موت أصغر» ، أما الموت الأكبر فهو الفناء في معراجه الصوفي. ولا غرابة في كل ذلك حين يتعلق الأمر بأمر هو من أمر الله «لأنّ القلوب بيد الله عز وجل» ( على حد ابن حزم/ في ماهية الحب/ في طوق الحمامة).

يكتب عبد العزيز المقالح خمسة وأربعين حالاً من أحوال الحب، وكان ابن قيم الجوزية قبله، في روضة المحبين، أحصى للحب خمسين مفردة تعهدها بالشرح، لعلها خمسون قناعاً مثل العشق والشوق والهوى والصبابة والشغف والوجد والتتيم والغرام… ومع ذلك، يبقى في الحب أمر غائر ومستور أو «سريرة لا تعلم» كما قال المتنبي: «لهوى النفوس سريرة لا تعلم/ عرضاً نظرت وخلت أني أسلم».

ويشدّ ابن الفارض هذه السريرة إلى ما قبل هذا العالم: «بيني وبينك في المحبة نسبة/ مطوية من قبل هذا العالم…».

أما المقالح فيرى أن الحب «برق صاعق»، «إطراق في مقام الحبيب»، «منحة الصامتين هو الحب» ( ص 43 )… و لكن هذه أعراض الحب، أما هو، فما هو؟ ينتهي الشاعر – رغم تعدد الظواهر والأعراض والحكايات التي يرويها عن الحب في قصائده – إلى ما انتهى إليه اسلافه العظماء، من أنّ أمر الحب هو من أمر القدر والغيب، فيصيح في اللحظة السابقة من قصيدته «لو»: «الحب هو الله» ( ص 151).

بساطة وجمالية

قصائد عبد العزيز المقالح في «كتاب الحب» هي للوهلة الأولى قصائد بسيطة، والبسيط غالباً ما هو (حين لا يكون سهلاً) ساحر. لذا فإنّه معدٍ، بينما نسبة العدوى في المعقد أقل. صحيح أن قصائده بسيطة، لكننا لا نلبث طويلاً حتى نكتشف خطورة البسيط التي تفوق في غالب الأحيان خطورة المعقد. فالمعقد يدعوك إلى التفكر في فك عقده، وربما أضعت خلال ذلك الدهشة الأولى للشعر، لكنّ البسيط الجميل مسيطر بالبداهة، وغالباً ما لا تسأل لماذا. يقول المقالح: «لا تخف يا حبيبي من الموت جوعاً/ لديك من الكلمات الكثير من الخبز/ لكنها امرأة في الطريق القديم/ ستدخل مثل الرصاصة من ماء عينيك/ تخترق القلب أهدابها النائمات على الخد/ ثم تغادر ضائعة في شرود المكان»… وعلى هذا المنوال الهادئ القريب جداّ كصمت الأمكنة، وبإيقاع يكاد يختفي من شدة هدوء تفاعيله (فاعلن فعولن)، تترجع مقاطع القصيدة السابقة كما يترجع موج البحر على الشاطئ «لا تخف يا حبيبي من الموت جوعاً… لا تخف يا حبيبي من الموت حرقاً… لا تخف يا حبيبي من الموت في جوف طيارة أو على سطح سيارة لا تخف يا حبيبي من الموت يأتي على شكل عاصفة من رصاص… لا تخف يا حبيبي من الموت في ساحة للنزاع على الشعر…».

هنا لا يذكرك المقالح إلا بذاته. يرسّخ من ذلك ما يبدأ به كتابه من إشارة تشير إلى قدم قصائد الكتاب، فهي تعود إلى سبعينات القرن العشرين، كان أعدها للنشر للمرة الأولى في العام 1991، لكنه تراجع عن ذلك في آخر لحظة، لترقد مهملة في قاع مكتبته في المنزل بين أكداس من الأوراق المهملة.

نصف قرن من الزمان (إلا القليل) تنطوي قبل أن يقرّر الشاعر نشر قصائده القديمة في كتاب. لماذا؟ الشاعر لا يفصح عن السبب. قراءة القصائد وما تكشفه من نضج في العبارة وتأملية هادئة وعميقة في أحوال الحب، وسرد شعري لمجريات لحظاته وحكاياته، تجعلنا نشيح بوجهنا عن افتراض عدم رضا الشاعر (فنياً) عن قصائده المبكرة.

إن هذه القصائد تتمتع بالفعل بخصوصية فنية وتعبيرية هي من علامات المقالح دون سواه. فلماذا إذن؟ نرجح أن طبيعة القصائد هي السبب. فهي لحظات شديدة الالتصاق بالذات والخصوصية كالأسرار أو ذكريات عيش خاص وداخلي جداً وتتعلق بقدس الأقداس (الحب)، في تفتحاته الأولية، ما يجعل العبارة بذاتها تجاهه في حرج، فكيف بنشرها؟ هذا ما يقوله الشاعر نفسه في قصيدة أولى سماها «بين يدي الكتاب»: «ليس في مستطاع الكلام/ وإن شفّ في سحره ورهافته/ أن يضيف إليه/ إلى الحب/ فهو الذي علم الكلمات الرحيل إلى حيث ما لا يرى»… فالحب على تعدد أحواله وحكاياته لا يوصف ولا يُقال. إنّ الكلام في حضرة الأمور الجميلة والجليلة متعذر أو ملزم بالاعتذار. هذا هو شأن الحب والشعر والغيب والقدر وكل ما هو جليل و جميل.

ومع ذلك لا بدّ من العبارة، ولا بدّ من الكلمات، مع ما يضاف إليها (هنا) وبالضرورة من ظلال (مالارميه) أو من الصمت أو من قيمة الإيحاء.

شاعر البدء

يبدو عبد العزيز المقالح في قصائد «كتاب الحب» كشاعر بدئي. جاك بريفير بالفرنسية هو هكذا. نزار قباني أيضاً يشترك الثلاثة معاً في تناولهم الماء من أصل النبع والثمرة عن غصن الشجرة، والكلمة من الفم، بلا وسائط تذكر، أو حيل ومواربات للقول. هذه الحيل التي باتت سمة من سمات الحداثة الشعرية وأدت أحياناً إلى استغلاق في المعنى أو غموض في الحال. لكنّ الفرق بين الثلاثة جوهري. أكتفي هنا بقيمة الإيحاء، أي القيمة المضافة على البدئية، وبها يتقرر أو يتميز صوت الشاعر. فالقيمة المضافة على بدئية كلمات المقالح، أكثر بكثير وبفارق يكاد يكون نوعياً، من القيمة المضافة على بدئية كلمات نزار قباني، التي تبقى ألصق بظاهرها من التصاقها بالباطن. إن بدئية كلمات المقالح ذات باطن عميق. لماذا ؟ لأنه تأملي، في حين ان نزار قباني وصفي.

مثلاً، يقول المقالح: «للعيون الجميلات/ تلك التي خرجت من سكون الظهيرة/ شاهرة حسنها/ وبدت لي أكثر قربا/ وفي متناول روحي/ لها ان تكون حديث المكان/ وأن تتدلل وهي تحدق في الأفق/ باحثة عن ضحايا/ لها أن تقول لأقرانها إنها لا تراني» (من قصيدة في مديح العيون ). ويتضح ان الشاعر هنا لا يلجأ إلى وصف لونها أو اتساعها أو أهدابها ( وهو مذهب نزار قباني في الجمال الظاهري)، بل إلى ما هو خلف ذلك: خروجها من سكون الظهيرة، قربها (في متناول روحي) التحديق في الأفق (بحثاً عن ضحايا) ثم الادعاء بأنها لا تراني. الفارق إذن هو فارق في الإيحاء، وهو فارق جوهري رغم المقلع البدئي الواحد للكلمات عند الشاعرين.

بريفير وقباني من مقلع واحد تقريباً. يترك كل منهما الكلمات لذاتها ترسم دوائرها مع أقل ما يمكن من التدخل. المقالح، على العكس، شديد التدخل وتأملي وموحٍ. يقول: «من وردة الوجد/ ومن ندى أوراقه/ يخرج ماء الضوء و الهواء/ ماء النهر/ تأخذ الجبال شكلها/ والبحر سمته/ وتبدأ الأرض إذاً تواجد العشاق/ دورة الحياة « ( من قصيدة صوفية).

وإنّ إضافة الوجد للوردة وخروج الماء من الضوء والهواء وخروج الجبال بشكلها والبحر بسمته إلى الوجود… كل هذه الحركة الكونية للعناصر والأرض وما حولها، كلها هي في خدمة وجد العشاق.

التفاصيل والحكايا

السمة الأخيرة التي أرغب في الكلام عنها في قصائد «كتاب الحب» هي السرد الشعري والتفاصيل والحكايا، إذ تظهر القصائد وكأنها لحظات مقطوفة من عقد حقيقي متعدد الحبات، موصول بخيط واحد، ومحسوس ومؤرخ، تلعب فيه التفاصيل والأماكن دورها، ومن نساء يكاد ينطق الشاعر بأسمائهن، وحوادث يحكيها بسرد روائي، غالباً ما هو متقطع كتجميع لقصص حب صغيرة ومتنوعة. فمن ناحية التفاصيل، يرقم الشاعر مثلاً في إحدى قصائده الحب بأرقام: الحب الأول والحب الثاني والحب الثالث، ذلك في اتجاه ما يسميه الحب الخالص، ويعدد النساء ويرقمهن أيضاً. ففي قصيدة «نساء» هنّ سبعة: «الأولى كانت لا تقرأ « والثانية «كانت أكبر مني» والثالثة قالت «علّمني الشعر» والرابعة «تجلس في الصف الثاني لم تترك لي وقتاً لاقول لها إني أحببتك» والخامسة «في باريس بلون اللبن الصافي حيث الحب فضاء مفتوح» والسادسة «سمراء بشروخ غائرة في الخدين»، أما السابعة فالطيبة التي اختارتها له أمه.

إنها حكاية رحلة في الحب المتعدد، مروية ومعززة بمحطاتها. فهي إذن وصف لأنواع من الحب وانغماس بها في وقت واحد. ومن أطرف الاستعارات القريبة التي يستعملها الشاعر قوله في قصيدة اشتياق «الغرفة أنت»، ولا يخفى ما للبيان القرآني وسحر المثنى في العربية، من أثر في قصيدة «عينان»، وما لفن الهوى وقربه من أن يعاش ويمارس على شاطئ اسكندرية حيث للبحر توسطه بين الفتى العاشق والسيدة الغامضة وحيث البحر والحب والقصيدة كل واحد في الإيقاع، وحيث على الرصيف الموصل للبحر بائعة ورد: «كيف يبيع الورد الورد» …. كل هذا وسواه، وليست المعاني والتفاصيل والمواقف هي وحدها الأساس في الصنيع الشعري لعبد العزيز المقالح في «كتاب الحب»، بل الإيقاع الهادئ والطقس الجواني للكلمات الذي يرن كما يرن جرس في كنيسة، والتأمل العميق الذي تظهر معه الكلمات مشحونة بأكثر مما نعرفه من طاقة، وأنّ تركيبها بين يديه يمنحها وجوداً جديداً فهو في قصيدة بعد الحب يقول : «ذات هنا … وذات هناك». وما أجمل أن تجمع الكلمات في مثل هذه الصيغة المبتكرة للوقت والمكان. وهو قادر أن يكتب بصيغة حديثة معاني أزلية وأن يكون ذاته مثلما كان الآخرون ذواتهم.

أما المقالح فيقول لاعباً على وتر الحب والعمر المحدود والموت وهو عين ما لعب عليه المتنبي في لاميته الشهيرة: «تعالي لنشرب قهوتنا/ ونداعب أحلامنا/ مثل كل الشباب/ فإن الزمان يمرّ بنا مسرعاً/ والليالي تشد الرحال/ إلى حيث لا يدرك السائرون».

صحيفة الحياة، الثلاثاء، 12 سيتمبر/ أيلول 2017

المقالح: لابد من صنعا.. التي تقيم في الصدر

د.حاتم الصكر

خمسة عشر عاماً من البعد عن مدينته صنعاء جعلت الشاعر عبد العزيز المقالح يسترجع الصرخة المضمخة بأقدام قاصديها المتعبة وهي تقترب منها في معزلها الجبلي القصي: لا بد من صنعا وإن طال السفر، والتي غدت مثلا سائراً يقال في الإصرار على بلوغ الهدف على الرغم من المشقة والعناء. وبالكيفية التي يقرؤها اليمنيون قاصرين المد في اسم صنعاء؛ كأنما ليقرّبوها من قلوبهم أو من لمعان كينونتها في ضمائر قاصديها الذين أتعبهم الطريق إليها، وطال بهم السفر؛ فواجهوه لغوياً بصبر لفظي يقصر همزة صنعاء لتغدو صنعا، وليعززوا أمل الوصول باستخدام (لابد) المتركبة من لا النافية للجنس ومنفيِّها ؛ كي لا يظل شك ما في الوصول.

لكن المقالح لم يغادر صنعاء منذ وصوله الثاني إليها عام 1978، وعودته المصحوبة بالاستقرار الروحي والنفسي بعد معاناة سيروي لاحقاً جزءاً منها.. ويرضى بها مقاماً بعد أن كان ـ كما يقول لاحقاً ـ جوالاً في مدن متنوعة الهالات: جميلة متوهجة ومشوهة سوداء، (وفي نهاية الرحلة وجدت صنعاء تقيم في صدري/ تفتش في جوانبه المضيئة عن ألعاب الطفولة/ قلت لها ضعي أحزانك في وعاء مرمري/ وادفنيه عند حوافي الليل).

هنا تمنح اللغة للشاعر فرصة الاستبدال والتبادل: فأصبحت صنعاء هي التي تقيم في صدره، وتفتش عن ألعاب الطفولة. بينما كان الشاعر في الواقع اللا شعري ـ خارج النص ـ هو الذي يقيم نهائياً في صنعاء بعد اعتزال التجوال؛ فراح يبحث في صدرها الذي استراح له عن ألعاب طفولة ابتعدت بغربته واقتربت بالإقامة.

يأخذ المقالح المثل عن الوصول الأكيد لصنعاء ويضعه عنواناً لديوانه الأول “لابد من صنعاء” 1971 والذي ضم قصائد الستينات المتجهة موضوعياً صوب تمجيد الثورة اليمنية على الحكم الإمامي المتخلف والانتقال إلى النظام الجمهوري؛ لذا وجد الشاعر أن العنوان ـ وهو عنوان أولى قصائد الديوان ـ يوجز أمرين: حنينه للمدينة التي عاشت في وجدانه وأطّرت غربته الدراسية، وإصراره على الوصول إليها بمعنى تحررها، لا سيما والثورة لم تستقر بعد، والإمامية لم تستسلم تماماً وقت كتابة القصائد وظهور الديوان.رحيل بلا دليل

يهدي المقالح ديوان لابد من صنعاء (إلى صنعاء.. مدينة الثورة والأمل) ليوجزها في قيمتين: الثورة المتحققة سياقياً عام 1962 الذي لا يبعد كثيراً عن زمن كتابة القصيدة، والأمل الذي يهبه التوقع واليقين معاً بما تكون عليه بعد أن تنهض من كبوتها الحضارية المفروضة عليها. ويكتب مقدمة تلي الإهداء بعنوان (إلى القارئ) يصارح فيها قارئه بأنه آثر أن يرحل إلى قلبه من دون دليل ولا مكبر صوت، ويتقدم إليه بلا تعريف من ناقد أو صديق، وكأنه يعمم ذلك على رحلة رمزية أخرى لمدينته سينجزها خلال مسيرته الشعرية التي أخذت صنعاء فيها بعداً فنياً، تمتزج فيه الأسطورة بالواقع والحقيقة بالرمز. المقدمة المذيلة بمكان كتابتها وتاريخه (الإسكندرية 9/8/1971م) تؤكد أن القصائد تعكس المزاج الستيني في كتابة القصيدة الحرة التي سيقترح المقالح لها من بعد مصطلحاً معبّراً: القصيدة الجديدة لتكون قصيدة النثر هي القصيدة الأجد.. فالقصائد ذات موضوع منكشف يؤطرها خطاب مباشر وتحدّها تفعيلات بحور صافية، كما تتضمن التجربة المبكرة للمقالح شأن زملائه المجددين من جيل الستينات العربية نصوصاً من الشعر البيتي: قافية موحدة وبيت بشطرين وتفعيلات كاملة العدد لبحر واحد.

هكذا يمكن قراءة “لا بد من صنعاء” التي افتتح بها المقالح ديوانه الأول وأعطى اسمها عنواناً للديوان؛ لتكون تلك الجملة الشعرية قوساً ينفتح ليضم التجارب النصية اللاحقة والتي ستشهد عودة إلى تمثل المدينة شعرياً بوعي أنضج فنياً وموضوعياً فتكون قصائد صنعاء، أو تمثيل صنعاء شعرياً في شعر المقالح، مادة لدراسة ـ أو لرصد ـ صلة الشاعر بالمدينة، وهو ما سيصل ذروته لدى المقالح بتخصيصه ديواناً كاملاً لها هو “كتاب صنعاء” (1999) الذي ضمت قصائده المتسلسلة من القصيدة الأولى حتى القصيدة الأخيرة التي يختتم بها الكتاب مرائي ومظاهر للمدينة كما برزت في الوعي والذاكرة.

تتوافق “لابد من صنعاء” موضوعاً وبنية، فالحماسة التي تطلبتها تلك اللحظة الشعرية وأثمرت بؤرتها الدلالية والفنية معا تلائم المحمول الدلالي للقصيدة التي تفتتح بظرف زمني (يوماً) بينما الفعل (تغنّى) مسند للقدر، والمكان هو المنافي. هذه الجملة الشعرية الافتتاحية في الشطر الأول من بيت القصيدة الأول تعمل على تثبيت السرد في النص؛ فالشاعر يروي بضمير الجماعة ويسند الأفعال إلى ضمير الجماعة (نا) ـ منافينا ـ ويحافظ على تلك الزاوية من النظر حتى تنتهي القصيدة. وتقوم صيغة (لا بد) المكررة في البيت الثاني والجار والمجرور (منها) بتأكيد الإصرار على الوصول إلى صنعاء بعد تلك القطيعة الاضطرارية والبعد عنها. كما يثير السؤال: إلى أين المفر؟ الحيرة التي تنتاب المنفيين والمغتربين وهم يحسبون الأعوام التي تتسرب كالرمل من بين أصابعهم، بعيداً عن أوطانهم التي اختزلها المقالح في مدينة ليستثمر الإشارة التي تنطوي عليها صنعاء في القراءة الشعرية. ويستمر النشيد أو النشيج الجماعي الذي يعبر عنه الشاعر بالضمير المؤكد (إنا) ليسند إلى المتكلمين فعلَ حمل جراح صنعاء وحزنها فأورقت. ويتمثل الأمل الذي أشار إليه الشاعر في إهداء الديوان في البيتين الأخيرين فصنعاء التي تغفو على أحزانها زمنا سيثور صباحها ويغسل المطر جدب أيامها.

ولن تغفل عين القارئ إشارة الشاعر إلى رغبته في الاستقرار النهائي في صنعاء؛ فقد عبّر عن السفر بتهشم سفن الرحيل في الشاطئ (شاطئنا) الموصوف بالبر بساكنيه بمقابل قسوة الغربة عليهم.

امتدادات صنعاء

لا ينغلق القوس ـ قوس الصلة بصنعاء ـ بصدور كتاب مخصص لها يستعرض إحساس الشاعر بها كصورة متشكلة من تداعيات الذاكرة، ومعايشة الطفولة والوعي المتكون في أفيائها؛ ليكبر فيستوعب صورتها ويعيد تشكيلها رمزاً يرقى من بعد ليغدو أسطورة، كما سيصرح الشاعر في أولى قصائد “كتاب صنعاء” متسائلاً: (هل هطلتْ من كتاب الأساطير/ أم هبطتْ من غناء البنفسج؟).

سوف تتمدد صنعاء رمزياً لتغدو مدينة روح أو هي (عاصمة الروح) كما يقول في أولى قصائد الكتاب راسماً لها صورة أسطورية تتمثل مختصرة في أبوابها السبعة التي تشبه أبواب الفراديس، ورقمها السحري الأثير.. راح مؤرخون وقراء متعجلون يجادلون حول حقيقة عدد أبوابها كما جادلوا حول اسم الجبل المشرف عليها: نُقم كما هو شائع أم نِعَم كما يقترح المقالح مستنداً إلى مدونات ووثائق.

لكن ذلك الجدل يغفل الحقيقة الشعرية أو الصورة المتخيلة لها والتي ترفعها إلى مصاف الأساطير، وهو ما عبّر عنه الشاعر حين جعل خاتمة كتاب صنعاء استعادةً لخاتمتها مع تحوير متعمد:

الاستهلال:

كانت

امرأة

هبطت في ثياب الندى

ثم صارت

مدينة.

الخاتمة:

كانت

امرأةً

هبطت من ثياب الندى

هطلت

ثم صارت قصيدة

يمكن للقارئ ملاحظة التحوير في الأفعال (هبطت وهطلت) وفي حروف الجر: (في) ثياب الندى و(من) ثياب الندى، والنهاية: (صارت مدينة) في الاستهلال، و(صارت قصيدة) في الختام.. فارتفعت إلى أقصى درجات الأسطرة، وتحولت إلى كلمات عذبة، بعد أن كانت امرأة آتية من الغيب في ثياب الندى؛ فخرجت منها لتهطل في صورتها الأخيرة. هنا نجد تمثلاً ظاهراتياً للمدينة ممزوجاً بشيء من توثيق جغرافيتها وبشرها وثقافتها بعد إسقاط المعاينة الذاتية في ذلك كله لتكون صنعاء خاصة بالشاعر لكنها بسبب التأليف الشعري توحي للقارئ بأنها تعنيه هو أيضاً.

“واضحة كالكف غامضة كالأساطير”

تلك الصورة الأسطورية لصنعاء لم تمنع أن يصورها الشاعر في حالات أخرى تجتمع فيها قيم الجمال والمعاصرة والشباب، إلى جانب القِدم والعراقة والشيخوخة.. فهي (واضحة مثل كف صغير لطفل/ ومبهمة كالأساطير/ وسيدة ترفض أن يقرأ الليل أوراقها…/ والشاعر: يمشي على قلبه/ ويسافر فوق بساط من الشطحات الجميلة/ لا أصدقاء له غير توت البيوت/ يناوش أطفالها وعجائزها بالأساطير). كما يرسم لها صورة ضوئية في قصيدة قصيرة، وتلتقي فيها أول الأشياء في نص آخر: الصبوات والبراءة وهي آخرها أي ختامها كذلك. سيدة في الثلاثين لم تنم منذ قرنين، يقرأ في تجاعيدها قصة العشب والماء والبرق والشمس.. ولدت بعد مخاض الطوفان، فعرفت بمدينة سام، لكنه لا يطيق الفراق لأنه عاشق، وجهها يضحك له كجد عجوز حناه الزمان لكنه واقف؛ فيرى فيه وجوه الذين مضوا والذين سيأتون متلألئة تحيله على التربة البِكر (مقتطفات من صنعاء القصيدة). وثمة أخيراً صنعاء الأخرى ـ عنوان قصيدة ـ يبحث عنها في الكلمات والكتب الخضراء: عن ألق وسرب حمام وأحلام وبستان للروح وأغنية هائمة في كبد الصحراء.

أليست تلك مبررات مقنعة ليلازم الشاعر مدينته غير مفارق، لا لسبب سوى الحب والامتزاج الروحي حدّ التماهي والتلاشي في المحبوب والإقامة في كنفه؟!

لا بد من صنعاء

يوما تغنّى في منافينا القدرْ

لابدَّ من صنعا وإن طال السفرْ

لابدّ منها.. حبُّنا، أشواقها

تذوي حوالينا.. إلى أين المفرْ؟

إنا حملنا حزنَها، وجراحَها

تحت الجفون فأورقت وزكا الثمرْ

..هي لحن غربتنا ولون حديثنا

وصلاتنا حين المسرّة والضجرْ

مهما ترامى الليل فوق جبالها

وطغى وأقعى في شوارعها الخطر

وتسمّر القيدُ القديمً بساقِها

جرحاً بوجهِ الشمس، في عين القمرْ

سيمزق الإعصار ظلمة َيومها

ويلفُها بحنانهِ صبحٌ أغرْ

..إنا كسرنا وجه غربتنا، وما

أبقت ليالي النفي من زيف الصورْ

وتهشمتْ سفنُ الرحيل، وأسلمتْ

أنفاسَها في حضن شاطئنا الأبرْ

صنعا، وإن أغفتْ على أحزانها

حيناً، وطال بها التبلدُ والخدرْ

سيثور في وجه الظلام صباحُها

حتماً، ويغسلُ جدبَها يوماً مطرْ.

المقالح… الباب الثامن لصنعاء

حسن عبدالوارث

ارتبط المكان بذاكرة الشعر ووجدان الشعراء بصورة وثيقة منذ القدم. وفي الشعر العربي كانت ثمة تلازمية بين القصيدة والمكان، بدءاً من المضارب والأطلال في البادية، إلى القرية في عصر مضى، وصولاً إلى المدينة في العصر الحديث. وبرغم أن التيارات الأدبية اختلفت في التعاطي مع مفهوم «المدينة» في القصيدة المعاصرة، بين مرموز «الانحطاط القِيَمي» أو الدلالة على الصراع بين الخير والشر، أو بمعنى «الحلم الساحر» إلاَّ أن المدينة، بمختلف مدلولاتها، ظلت حالة شعرية حميمية في الديوان الشعري المعاصر. ولا يكاد شاعر ارتبط بالمكان وتوحّد معه ، كما ارتبط عبدالعزيز المقالح بصنعاء، وتوحّد معها.. وكأنّ هذا الارتباط، حبلاً سُرّيَّاً وصل بينهما منذ ما قبل لحظة الولادة، واستمر موصولاً خلال حَلِّه فيها وترحاله عنها: «حين جئتُ إلى الأرض/‏‏ كانت معي، في قماطي/‏‏وكنتُ أرى في حليب الصباح/‏‏ بياض مآذنها.. والقباب/‏‏ وحين هجرتُ البلاد،/‏‏ ابتعدتُ إلى قارورة المسك /‏‏كانت معي» (كتاب صنعاء)
يبلغ الدكتور عبدالعزيز المقالح هذه الأيام عامه الثمانين. وهو أقام في مدينة صنعاء أكثر من ثُلثي هذا العمر بكثير. لم يفارقها إلاّ للدراسة الجامعية في القاهرة أواسط الستينات. لكنه منذ عاد إليها (بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة عين شمس أواخر السبعينات) لم يغادرها قط، إلاّ نادراً جداً إلى بعض مناطق اليمن.
فقد اختار المقالح صنعاء مصيراً، لا إقامة.. وصار كلٌّ منهما وجهاً للآخر، حتى لا يستطيع المرء أن يفصل بينهما، فإذا قيلَ صنعاء وردَ المقالح إلى الخاطر، والعكس صحيح:

«فهو مجنونُ صنعاء/‏‏‏ وعاشقها في زمان الجفاف/‏‏‏ وعاشقها في زمان المطر»

بل إن هذا المجنون بحبها يأبى أن يُشرك أحداً في هذا الحب المتفرد لها وحدها، فالحب كله مبذول لها ومرهون بها:

“سامحيني/‏‏‏ إذا كان قلبي/‏‏‏ أشركَ غيركِ في حبّه”

(كتاب صنعاء)

إنه حقاً «العاشق المتوحد في حبها» الذي يتمنى لو أنه «آجُرة تتبتّل في شرفة» من شرفات بيوتها أو «نافذة يتشوّق من خلفها العاشقون» حتى أنه وهو يعيش حياته اليومية بكل تفاصيلها في عمق تفاصيل الحياة اليومية لمدينته الحبيبة، يعاني الشوق ويكتوي بالحنين إلى المدينة التي زُرعت فيها «أشجار طفولته» فهي «عاصمة الروح» التي يراها في غاية الجمال لأن «الله لا يكف عن إرسال ملائكته/‏‏‏ ليغسلوها من الأحزان والصدأ/‏‏‏ ولكي يرسموا على أسوارها تجليات العشق والعذوبة».

ويرفض المقالح بشدة الابتعاد عن حبيبته تحت أي ظرف. وقد تخلّف عن عشرات الفعاليات التي دُعِيَ إلى حضورها أو المشاركة فيها في عدة عواصم ومدن عربية وأوروبية، بما فيها دعوات خاصة بتكريمه أو تسليمه جوائز (كجائزتَيْ اللوتس والعويس).

وحين أقام في مدن وجال في غيرها، وزار أخرى في سني شبابه الأولى (من القاهرة وبيروت وبغداد إلى مكة والقدس ودمشق، شرقاً.. ومن أثينا وبرلين وفيينا إلى باريس ولوجانو وروما، غرباً) فإنه ظل في كل مدينة منها يرى صنعاء.. وفي كل شارع أو مقهى أو منعطف درب، كان يعيش حضور مدينته في وعيه ووجدانه وذاكرته وخاطره، حتى لكأنّه لم يفارقها ولو للحظة واحدة:

“جسدي يتنقل/‏‏‏ بين البلاد الكثيرة/‏‏‏ والروح واقفةٌ عندها”

(كتاب المدن)

العشق من النظرة الأولى

ولد عبدالعزيز المقالح في عام 1937 في قرية تُدعى «الشَّعِر» بمحافظة «إب» وسط اليمن، في عهد الإمام الطاغية يحيى حميد الدين، الذي حبسَ البلاد والعباد في كهف قروسطي، لم تعرف خلاله غير الفقر المدقع والجهل المطبق والوباء الفتاك، مصحوباً بالمجاعة والمخافة والتخلف في أشمل صوره.

وحين بلغ الشاعر السادسة من عمره، بعث به أهله إلى العاصمة صنعاء، حيث فرصة التعليم الوحيدة، برغم بدائية ذلك التعليم الذي لا يتعدّى حفظ القرآن ومبادئ القراءة والكتابة والحساب، وحيث المجتمع يخلو من كل أشكال المدنيّة والتحضّر، ولو في أطوارها الأولى، فلا مكتبة ولا دار سينما أو مسرح أو صحيفة أو نادٍ.
يصف المقالح لحظة دخوله صنعاء لأول مرة بلغة مكتظة بالدهشة الطفولية وبمشاعر البراءة الحالمة “كانت تبدو لعينيّ القرويتين حلماً طفولياً عجيباً، فقد رأيت المآذن تتهادى في الفضاء كأنّها الأذرع اليمنية الممتدة إلى الله، ونوافذ القصور الزجاجية تبرق في ضوء شمس الظهيرة. ولحظتها شعرت أن هذه المدينة العجوز تتخلل كل مسام جسدي وترحل إلى أعماق روحي، فعشقتها من أول نظرة، وما زلت، رغم ما وجدته فيها من طفولة معذبة وبائسة، فقد كانت المدينة الوحيدة التي قاسيت فيها البؤس الحقيقي”.

)ثرثرات في شتاء الأدب العربي(

وفي هذه المدينة العجوز تفتّت أولى بذور المعرفة، بل وأول معالم الطريق إلى عالم الشعر لدى شاعر ستكون له الشهرة والريادة في حقله وبين أبناء جيله، ليس في بلده فحسب، وإنما في العالم العربي كله. وهو يُعيد أول علاقته بأول ملامح المعرفة ثم الأدب والشعر إلى ما كان يحفظه من أناشيد ونصوص مدرسية، ومن أشعار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد الوريث، وإلى كتاب ألف ليلة وليلة، وسيرتَيْ عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن.

ولم يكد يبلغ الحادية عشرة حتى قامت في صنعاء حركة ثورية تطلّعت إلى إقامة نظام حكم دستوري يتحرر به اليمنيون من ربقة نظام ديكتاتوري شمولي متخلف أطبق على أعناقهم بقبضة فولاذية لا أمل في ارتخائها ولو قليلاً. وقد كان السواد الأعظم، حينها، يسمع كلمة «دستور» لأول مرة، الأمر الذي دعا أعداء هذه الحركة من موالي الإمام الطاغية إلى بث شائعة بأن الدستور عبارة عن «امرأة ماجنة» بُغية إثارة حفيظة الشعب الجاهل والمطبوع على التديُّن المطلق والجهل المطبق على السواء.

غير أن هذه الحركة سرعان ما انتكست وسيق قادتها إلى ساحات الإعدام وغياهب السجون. وبالانتكاسة الوطنية أُصيب الفتى الحالم بانتكاسة على الصعيد الشخصي، لاسيما وهو يرى الجحافل التي أطاحت بالحركة وهي تغزو صنعاء، فتعيث فيها قتلاً وسلباً وحرقاً وخراباً، في صورة تراجيدية قاسية الوطأة على النفس، بَدَتْ للفتى كمشهد اغتصاب الحبيبة على أيدي التتار: “لقد رأيتُ بعينيّ الصغيرتين التتار وهم يهاجمون بغداد قبل أن أقرأ عنهم في الكتب”

(ثرثرات….)

وظلت صنعاء الحلم الذي يأتلق في عيون الفتى الحالم، والوعد الذي يتوهّج في خاطر الشاعر الموهوب، فيما يتنامى العشق في وعيه ووجدانه تجاه الحبيبة التي صارت مرتبطة بمصيره، أو أنه ارتبط بمصيرها. وبرغم ما يعتور هذه المدينة من ملامح تشوِّه مفاتنها، وتقلِّل من مزاياها في نظر آخرين، إلاَّ أن عيون العاشق المتيَّم والشاعر الولهان لا تراها كما يراها الآخرون:

«لا تخافوا عليها من الشيخوخة/‏‏‏ فهي تمتلك السر الذي يجعلها/‏‏‏ تخلع شيخوختها وتغادر سن اليأس/‏‏‏ تذكَّروا دائماً/‏‏‏ أن أخطاءها الذهبية/‏‏‏ أفضل من صوابكم العقيم/‏‏‏ ونوافذها المفتوحة على كل الاحتمالات/‏‏‏ أقدر على التعبير من أفكاركم الموصدة»

(كتاب صنعاء)

إن لصنعاء سبعة أبواب.. غير أن عبدالعزيز المقالح بابها الثامن.

 مختارات من شعر المقالح

قصيدة (الحرب)
_________
أيها الجائعون
ابشروا
لن تجوعوا
فقد أذّن المتوضّون للحرب
وانهمرت في الشوارع والطرقات
شظايا الأناشيد،
هيا ابشروا
لن تجوعوا
كلوا من لحوم المدافع
من شحم دبابةٍ
لا تخافوا من الموت
فالموت أغنيةٌ عذبةٌ
والشهادة واجبةٌ
وهناك وراء القبور المغطاةِ
بالزهر مائدةٌ ،
لن تجوعوا
ولن تظمأوا بعدها أبدا.
* * *
أيها الجائعون
أقول لكم : آه …
معذرةً لم أجد ما أقول لكم
غير أن تصبروا
وإذا أفلس الصبر
في ردع صوت البطون
وإسكات ِ أحشائها
صابروا
انتظروا نعمةَ الحرب
فالحربُ قادمةٌ
وموائدها مثقلات
بما لم تروهُ
ولم تسمعوهُ
ولم تقرأوا مثله
في كتابْ .
* * *
أيها الجائعون
أصمدوا
واصبروا
وإذا أحرقَ البردُ
أجسادَ أطفالكم.
فأحرقوا كلمات الجرائد
والقنوات
وما دَبّجَ الخطباء ،
من الشعر والنثر
والحكمة المتوخّاة
تكفي وقوداً
لطبخ الكلام
وتشييد سورٍ سميكٍ
من التدفئة .
* * *
أيها الجائعون
أفيقوا…
ولا تصبروا
كل شيءٍ سيمضي
كما يشتهي الجوع
ليس كما يشتهي الجائعون
هكذا قالت القنواتُ
فلا تصبروا
واحذروا
ليستِ الحرب باباً لصبحٍ جديدٍ
كما يزعمون
ولكنها ظلمةً
أعيدوا السيوف لأغمادِها،
إنها الحرب بابٌ إلى الموت
بابٌ لقتل المشاعر
بابٌ إلى المحرقةْ.
* * *
ليستِ الحربُ حلاً … إذاً
ليست الحرب باباً إلى الله
باباً إلى جنةٍ
في اتساع السماوات
والأرض ،
لا بـِدمِ الأخوين اللدودين
يكتبُ شعبٌ وثيقتُهُ
للبقاء
وللانتماء إلى العصر
ترسمها جثثُ الأبرياء
يوقّعها الظافرون الأشاوس
أو لا يوقعها غير غربانِ قابيل
بعد انقراض الرجال
وموت شهود القبيلةْ.

أَبعدوا الشعر عني

_________

أَبعدوا الشعر عني
خذوه بعيداً ،
بعيداً
فقد رابني ،
أثقلتْ روحي الكلمات
وأجهدني البحث عن لغةٍ
لا تموت إذا هطلت
في سطور الكتابةِ
من فضلكم :
أَبعدوا الشعر عني
لقد حال بيني
وبين الفضاء الذي
كنت أمشي عليه بقلبي
وأصطاد ما أشتهي
من نجومٍ ،
ومن سُحبٍ شاردةْ .
* * *
أَبعدوا الشعر
هذا الذي كاد يسلمني للهلاك
حين خانتنيَ الشطحات
وألقت ظلال كلامي
إلى حيث ما كنتُ أدري
ولا أَشتهي .
يا لخوفي من الليل
ليلِ النفوس المليئة بالشك
تلك التي ليس تدرك ما الشعر !
ما الكلمات !
وما ذا وراء المعاني
وخلف شرود الكلام .
يا لخوفي من الشعر
في زمنٍ حاقدٍ
يذبح الشعراء .
* * *
أَبعدوا الشعر عني
ما عاد يطربني صوتهُ
وانثيالاتهٌ
كان بالأمس يزرع ذاكرة الأرض
حلماً ويملأها غبطةً
ويحررها من قيود المخاوف
يغسل من صدأ الرمل
أخشابَها ،
فجأةً صار مثل كلام الإذاعةِ
مثل كلام الجريدةِ
لا روحَ فيه
ولا ماءَ في نِسغهِ
وردهُ ذابلٌ
وحديقتهُ يابسةْ
* * *

أَبعدوا الشعر عني
دعوني أُتابعْ ما ابقتِ الشمس
من ضوئه في القمرْ .
وما أبقت الأرض من لونهِ
في الشجرْ .
وما استودع البحر من سحره
وغموض معانيه
في الليل ،
ما حمل الفجر من عطرهِ
وصلاةِ تسابيحهِ المؤمنات
دعوني أنم
فإذا عاد هذا الذي
كنت أحببتهُ
أَيقظوني .
* * *

أَبعدوا الشعر عني
لقد شاخ
شاخت أساطيرهُ
وخيالاتهُ
شاخ فيه الندى
والصدى
شاخ ماءُ المعاني
تَكسّرتِ الصورُ المورقات
على صخرةٍ من جفاف الزمان
ورعب المكان
وما عادتِ الروح تنبت
منذ اختفت شمسهُ
غير أصداءَ باكيةٍ
ورؤى شاحبةْ .
* * *

أبعدوا الشعر عني
دعوني أداعب قيتْارةَ
الصمت
ألهو بقبض الفراغ
أُتابعْ ما كان ،
تحدس روحي بهِ
وبما سيكون .
دعوني أُتابعْ في دفتر العمر ،
عمري .
ما اقترفته يداي
من الشعر
والنثر
ما حصد الزمن المتقلب
من حسناتٍ قِلالٍ
ومن سيئات كِثارْ .
* * *

أَبعدوا الشعر عني
لقد صار دمعاً
سخيناً … دماً
بعد أن كان صُبحاً
وأغنيةً تترقرق فوق الشفاهِ
تداعب ليل الصبايا
نداوي القلوب من الوجد ،
كان سماءً يلوذ بها العاشقون
وتأوي إلى ظلها
شقشقاتُ العصافير ،
لكنه بعد أن نادتِ الحرب
صار كسيحاً كئيباً
تطارده ثرثراتُ الأفاعي
وصوتُ الرصاصْ .
* * *

أيها الشعر
يا صاحبي ورفيقي
أنت في القلب
صوتك صوتي
وحزنُك حزني
وأنت سراجي إذا أظلمتْ
وانتشائي إذا أشرقتْ ،
فلا تَخشَ من غضبي
وأنين اكتئابي
هي الحرب ألقت بظلمتها
فوق صدر البلاد
وصدريْ .
وليس لها بعد أن
أتْخنت كاشفهْ .
* * *

أخيراً ،
أقول لكم إخوتي الشعراء
اعذروني
إذا ما نفرت من الشعر
أبعدته عن أجندةِ وقتي
وألقيته جانباً
وهو حبي القديم
وحبي الجديد
فإبعادهَ كان خوفاً عليه
وحزناً علينا
وحزناً على شاعرٍ
يشتوي في قصائدهِ
ينهش البؤس أحشاءه
والجماهير من حوله لا تراه
ولا تتبين ماذا يقول
ولا في غدٍ أين يُلقي عصاهْ.

سمر قند

_______
هل رأيت سمر قند
أو زرتها في المنام
وقبّلْتَ مثلي مآذنها
والتراب الذي جَبَلَتْهُ
ملائكةُ الله
من ذهبٍ خالص
وسقاه الغمام
بماءٍ تنزَّل من تحت عرش الإله
نقياً
يحوِّطه ضوءُ تعويذةٍ
مورقةْ.
* * *
هل رأيت سمر قند
أو زرتها في المنام ؟
سمر قند جاءت إليَّ
وصلَّت معي
وقرأنا معاً وِرْدَ منتصف
الليل
كانت كما كنت أحلم
سيدةً يشتهيها الجمال
ويخشى عليها من الشعراء غوايتهم
وهي تسخو عليَّ إذا جفَّ حبري
بأعذب ما تملك الكلماتْ .
* * *
هل رأيت سمر قند
أو زرتها في المنام
هَبَطتَ إلى ساحة الشعراء
وأصغيت تحت الدجى
للتسابيح حالمةً
قبل أن يغسل الفجر
أضرحةَ المؤمنين
بضوء الندى،
قبل أن يتوضأ صبحُ سمر قند،
بعد الأذان
وتورق فا تحةُ الذكْر
فوق بياض القِبابْ؟
* * *
هل رأيت سمر قند
أو زرتها في المنام
تجوَّلْتَ منفرداً
في حدائقها المورقات
رأيتَ النعيم الذي تكتسيه الوجوه.
وتوشك أن تتكلم
في وجنات الصغار
ومن حدقات الكبار
إذا كنت لم ترها
في الحقيقةِ أو في المنامِ
فقد ضاع يا صاحبي
نصف عمرك منك
سدى
وفقدت لذيذ الكلامْ
* * *
سمر قند
كانت هناك بمفردها
تستحم بشمس الظهيرة
تسأل عن لغة العابرين
وأسمائهم
وتلوِّحُ لي بيديها المربربتين …
تجاهلتُها
وكتمتُ اضطرابي
ولكنها اخترقت خلوتي
وأرتني عجائبها
الخارقةْ .
* * *
سمر قند هذي التي
كتبتني
وكانت تعيش معي
وتقاسمني الصحوَ والنوم
ليست هنا
لا مكان لها في الخرائط
ليست من الشرق
ليست من الغرب
لكنها استوطنت لغتي
مثل جوهرةٍ تتوهج
حاضرة في دمي
وكما الوردة انفلقت
عن سماءٍ مزركشةٍ
بنجوم من الياسمين
وأخرى من البشر الطيبين .

يوتوبيا
_____
سأترك في وطن الحرب
ما أبقت السنوات العجاف
من الجسد المتهالك
أتركه ،
وأطير بروحي إلى عالمٍ
ليس فيه بكاءٌ
على طللِ الوقت ،
أو تتغشّاه حربٌ ضروسٌ
تسوق القرابين
نحو مذابح لا شيء فيها
يباركه الله
لا شيء فيها لخير البشرْ .
* * *
سأترك بين يديه
ذنوبي
وما اقترف القلبُ
من حلمٍ
وعواطفَ جيّاشةٍ
وأمر بقلبي على قبرِ أمي
لأُوَدِعَها ما تجدّد من ذكرياتيَ مُذ رَحَلَتْ
وأنجو بجلد القصيدةِ
تلك التي هي نبض دمي
وأفِرُ إلى عالمٍ ليس تُسفكُ فيهِ
الدماءْ .
* * *
تلك أرض الحروب
ولا شأنَ للهِ في ما جرى
فوقَها أو سيجري ،
هنا أرضهُ وسماواتهُ
حيث تجري شؤونُ الحياةِ
كما شاء سبحانَهُ
بين ناسٍ هم الناس ،
في مدنٍ يعجز الشعر أن يتخيلَها ،
وقرىً كاللآلىء منثورةٍ
في سفوحِ الجبال
وقربَ الشواطئ
غير ملوثةٍ بالسياسةِ
صافيةٍ ومبرأةٍ
من قذى الانتماءات
والتفرُقةْ .
* * *
أرض “يوتوبيا”
لم تلدها القصائدُ والأمنيات
ولا أبدعتها من الغيب أشواقنا،
هي قائمةٌ منذ بدءِ الوجود
ولكننا لا نراها بأعيننا الكابيات ،
هنا الصبح ما زال فيها طرياً
نقياً شفيفاً كما كان
ساعةَ أن بدأ الكون رحلتهُ،
والسماءُ التي اقتربتْ من أصابعنا
كلَّ ليلٍ توشوش للأرض
تمنحها بعض أسرارها
لا تخاف رقيباً
ولا طلقةً سوف تدركها
من هنا أو هناكْ .
* * *

آه “يوتوبيا”
كنتِ طيفاً جميلاً
يرافقني في الطفولةِ ،
ضوءَ كتابٍ يداعب اخيلتي
في الشباب ،
و أغنيةً تترقرق ألحانُها
في انسيابٍ بديعٍ
يضيء ليالي الكهولةِ ،
والآن جئتُ إليكِ
بروحي
فمدي يديكِ
خذيني ولا تتركيني
على حافة الهاوية .
* * *

بَشراً ما أرى
أم ملائكةً ؟
نورُهم يتقدّم أجسادَهم
وأحاديثُهم مثل همسِ
الطيور
وهم يعملون كثيراً
ويستمتعون كثيراً،
حالُهم مثلما حدثتنا الرسالاتُ
عن جنةِ الخلد
أشجارُها لا تشيخ
وأزهارها تتحدى الذبولْ .
* * *
هدوءٌ
أرقُّ من الصمت
أحنى على الروح
من همسات الكمنجةِ
في الليلة القمريةِ
يوشك أن يتعالى
صدى قطراتِ الندى
حين تسقط ناعمةً
فوق ما افترّ
من ورق
الوردة النائمةْ .
* * *
كل أرضٍ على الأرض
أو في السماوات
مغمورةٍ بالسلام
كما ينبغي
هي “يوتوبيا”
وإليها تسافر أحلامنا
تورق الكلمات
وتنثر أنداءَها،
السلام الذي تتلألأ
في ظلهِ الكائناتُ
وليس كلاماً تردده ألسنَ
العابرين
وتكتبه صحفُ اليوم
بالأحرفِ البارزةْ .
* * *
دعِ الكلماتِ بعيداً
وعِشْ حالةً من نعيمٍ
ومن غبطةٍ
لا توفرها رعشة الكلمات
ولا شطحات الخيال
فأنت هنا ضيف “يوتوبيا”
حيث لا ندمٌ يعتريك
ولا خوفَ يتبع ظلكَ
يرصد أنفاسك الذابلات
كما كان حالُك
في بلدٍ لا ينام
ويرقد تحت أزيز
الرصاص.
* * *

إنه عالَم ٌ فاضلٌ
وفضيلتهُ أنه لا سلاح بهِ
لا خناجرَ
لا شيءَ يومي إلى الحرب
كل النفوس أنابتْ
إلى ربها
وارتضتْ بالتعايش
في أُلفةٍ ،
وكذا الجنة الأم
تلك التي وعد الله من خلقهِ
المؤمنين .
* * *

لن أعود إلى العالم الدنيوي
إلى العالم الدموي،
سوف أبقى هنا
حيث روحي معلقةٌ بفضاءٍ
من الأمنيات ،
يصلي لأهلي
ويبكي على وطنٍ
أثخنته الحروب
وخانته حكمتهُ
ثم ألقت به حيث لا أملٌ
يرتجى
أو غدٌ واعدٌ
تتجلّى إذا ما دنا
آيةُ المعجزاتْ .

بالقرب من حدائق طاغور
_____________

مُذ صباي
تعلّق روحي
بشيءٍ من الكلمات التي
كتبتها يداكَ
على حائط الكون
ظلّت ترافقني
وتقود خطاي إلى الشعر
هذا الذي كنت أجهله
وأهاب الدخول إلى أرضهِ
الفاتنةْ .

سلامٌ عليك
سلامٌ على وطنٍ
كنتَ عنوانَهُ
صوتَهُ
وإليك تحدّق أشجارُه
وتمد يديها إليك عصافيرُه .
وهي تنطق إسمك ،
“طاغور”
حين تطيل التبتل
والرقص
تغسل قمصانَها
في حدائقك المثمراتْ .

كلما زرتُ بيتَكَ
في الحلم
ألفيت بوذا هناك
يصلي
ويقرأ من شعرك العذب
ما يجعل الناس يقتربون
من الله
ينسون أحزانَهم
يخلعون مواجعهم
ويزيدون حباً وعطفاً
ككل البشرْ

ذات حلمٍ
رأيتك تركض ياشاعري
حافيَ القدمين
تتابع أصداء أغنيةٍ
حملتها الرياح الأليفة
عن عزف نايٍ بعيدٍ
وكان تلاميذُك الواصلون
يسيرون خلفك منبهرين
وأعينهم للطريق تعدّ خطاكْ .

أنت طاغور
أم أنت بوذا ؟
كأنك أمثولةٌ منه
تعكس نبلَ اهتماماتهِ
حَبهُ للطبيعةِ
والفقراء
وإيمانَه بالذي خلق
الكائنات
وعلمّها كيف تدرك
كُنه الحياةْ .

أيها المتبتل
في معبد الكلمات
نقياً .
ولم تتلوث –وقد طفح القبح في الأرض-
روحُكَ
من أين يأتيك وردُ
الكلام ؟
ومن أي نجمٍ هبطتَ
فأنت غريبٌ إذا ما كتبت
غريبٌ إذا ما جلسْتَ
إلى الآخرينْ .

ليتني عشتُ في زمنٍ كنتَ فيهِ
وشاركتُ بعضَ تلاميذك
الواصلين
وهم يركضون وراءك
خلف الجبال
ووسط البراري ،
لكنه سوءُ حظي
تأخرّ بي عن زمانك
باعَدَ ما بيننا .
بيد أني وجدتُك
جالستُ روحَكَ ،
تابعتُ ما خطّه عقلُك المستنيرْ .

في البدايات
كان الكلامُ على ألسِن الطير شعراً
وكان الحمام يموت إذا لم يتابع أغاريدَهُ ،
هكذا قال طاغور
ثم أضاف : أقول لكم
ليس بالخبز نحيا
ولكنّ بالشعر والحب
تحضّر أرواحُنا ،
بهما يستقيم عمود الحياة
وقال : كأنيَ بالكائنات الكبيرةِ
والكائنات الصغيرة
أكثر توقاً إلى الشعر
مني ومنكم
ومن كل هذا الأنام .

قال طاغور :
قد كنتَ من قبل أن تهبط
الأرض
أسطورةً وملاكاً
تطير
وتمشي على الماء ،
ما زلت يا صاحبي
قادراً أن تعود ملاكاً
إذا ما رجعت نقياً
شفيفاً
وحررتَ روحَكَ
من شبق اللحظة الفانية

ليس من يدلق الحبر
فوق بياض الورقْ .
شاعراً ،
قد يجيد السباحةَ
في بحر “طنجةَ” .
أو في بحور الخليل
ولكنه –قال طاغور-
سوف يظل بعيداً عن الشعر
مهما احترقْ .

عند منتصف الليل 
__________
-1-
عند منتصف الليل
في هدأةِ الكائنات
وصمت الحجارة
تدخل -تواً- إلى حارة الفقراء
ملائكةُ الله
تغسل بالحب أكواخَهم
وتضمِّد جرحى المجاعة،
تمسح دمعَ النوافذِ في شجنٍ
وتُصلي على ما تبقى لهم
من سجاجيدَ ناصلةٍ ،
وهي قبل الرحيل تبشرهم
أنهم أقرب الكائنات إلى الله
إن صدقوا
واستعدوا ليوم النزال
مع سارقي لقمةِ
الجائعينْ.

-2-
عند منتصف الليل
من كل يومٍ
تكون السماءُ بكامل
زينتِها
وتكون أُخَيَّتُها الأرضُ قد فرغت
من عناءِ النهار
وأعبائهِ،
حينذاك تجيء ملائكة الله
حاملةً للخليقة أرزاقها
وكتابَ مصائرها
وهي تَحملُ في كفها
شمسَ منتصف الليل
تنثر أضواءها
في حنايا نفوس
تَطَاوَلَ حرمانها
واكتوت بالمزيد من المضنيات
وكانت لها الهدفَ
المستديم .

-3-
عند منتصف الليل
تبدو السماءُ ضحوكاً
وصافيةً
تتبرّج مفتوحةَ
الصدر
وهي تداعب أبناءَها
من صغار النجوم
وترقب فارغةَ الصبر
حين يعود ملائكةُ الله
من رحلة الأرض
تسألهم عن بني آدمَ الأشقياءِ
وهل غادروا هاجس الحرب
أو سئموا قتل إخوانهم.
السماء الحنونُ تخاف علينا
على البشر العابثين
تخاف إذا فتحت عينها ذات يومٍ
على الأرض
أن لا تراها
أوترى بعدها من أثرْ .

-4-
عند منتصف الليل
يستفعلُ البحر
يأوي إلى نفسهِ
بعد يومٍ ثقيلٍ
ويأمر أمواجَهُ أن تنام
وحين تمر ملائكة الله بالبحر
يسحرها صمتُهُ،
ويقول ملاكٌ لصاحبه
كل شيء على هذه الأرض
-حين يجيء الظلام- ينام
الجبال تنام،
القرى،
والحقول تنام .
وحده اللص في الليل لا يعرف النوم
شأن الضباع وشأن الثعالب
تبقى إلى آخر الليل صاحيةً
لا تنامْ .

-5-
منذ وقت طويلٍ
وعيناي -من أمل- تَحْلمان
بمرأى ملاكٍ
أحدِّثه، ويحدثني
أصطفيه صديقاً
أحدَّثه عن معاناة روحي
وغربتها
عن بلادٍ مخضّبةٍ بالدماء ،
يحدثني عن سماواته الخضر
تلك التي ليس تعرف للحقد والدَّم معنى ،
وهي مزروعةُ بالورود
ومحروسةُ بالعصافير ،
لكنني ذات ليل سمعت حفيفاً رهيفاً
لأجنحةٍ ،
كان أعذبَ ما سَمِعَتْ أذناي
فأسكر قلبي ، ودوّخهُ
وأعاد له أملاً شارداً
في لقاء الملاكْ .

-6 –
ما الذي يفعل الفقراء
إذا باغتتهم ملائكةُ الله
منتصف الليل؟
أحسب ساعتَها
أنهم يولدون
وتأخذهم رعشةٌ من جلالٍ
وتورق أكواخهم فَرحاً،
وتضيء القناديل من غير زيتٍ
وتبدو موائدهم مترعاتٍ
بما لذَّ ،
تغمرهم حالةٌ من حنينٍ إلى زمن يتساوى
به الناس
يحتكمون لما شاء خالقُهم ،
كلهم في الحياة سواءُ ،
سواسيةُ في البكاء
سواسيةُ في القبور
سواسيةُ في الوقوف عرايا
إذا حان يوم الحساب.

بكائية لعام 2016م
_________
دثّرِيني
وشدِّي على كفني
ودعي فتحةً فيه
أرقب منها
رفيف الفراشات
أسمع صوتَ المياه التي تتحدر
-في ضحوةٍ- من أعالي الجبال
وأشعر في لحظةٍ
أن شيئاً جميلاً
سأفقده حين أطوي
بساط الحياة.
* * *

دثّريني
فإني سئمت الوقوف
بمنعطفٍ لم يعد آمناً
والصعود إلى جبلٍ
لم يعد عاصماً
وسئمت الرفاق الذين
بأوهامهم خذلوني
وباعوا خطابَ المودةِ
للريح
في زمن العاصفةْ.
* * *
دثّريني
وشدِّي على كفني
واكتبي فوق قبري:
هنا واحدٌ من ضحايا الحروب
التي عافها
ثم قال لقادتها قبل أن يبدأوها:
الحروبُ إذا دخلت قريةً
أكلتْ أهلها الطيبين
ولم تُبْقِ من حجرٍ واقفٍ
أو شجرْ.
* * *
دثّريني
ضعي ، يا مَلاكي ،
عصاي التي كنت أحملها
مثل تعويذةٍ
وأصدُّ بها عَـتْمتي
وأهشّ بها ليل خوفي
وأمشي بها إن فقدت الدليل
ضعيها على كفني
واعلمي أن روحي مخرّبةٌ
بعد أن حاولت
آه -وآأسفي-
تقهر المستحيلْ .
* * *
دثّريني
اغلقي شاشةَ التلفزيون
هذا الإناءَ الوخيم
الذي أفسد الناس
يَبصق في صحن أذهانِهم
بكلامٍ مريضٍ
يُميت الشعور
يدجّنهُ
ثم يُسلمه لمنامٍ طويلٍ
طويلْ.
* * *
دثريني
وقولي لأهلي
وأصحابي الطيبين
لقد كان مثل بقية أهل
البلاد
ومثل بقية كل العباد
يحب الجمال
ويأسره صوت شبَّابةٍ
يُتَصبّاهُ
يهوى أغاني الرعاةْ .
* * *

دثّريني
وقولي لأعدائي البسلا
إنه لم يعد يتذكرهم
يتذكر أسماءهم
يتذكر ليل عداوتهم
وسواد افتراءاتهم
وهو من هول ما يحدث الآن
ما يفعل الأهل بالأهل
في حيرةٍ مُرَّةٍ

وذهولٍ عظيمْ .
* * *
دثّريني
ولا تفتحي يا ملاكي
الشبابيك
إن الظلام الذي يتجوّلُ
منفرداً فوق برد الشوارع
يرقب غرفتنا
ويحاول أن يتسلل في غفلةٍ منكِ
إياكِ أن تغفلي
ما بروحي من ظلمةٍ
ليس يقوى عليها الظلامْ .
* * *
دثّريني
فقد أصبح الموت
أمنيةً
بعد أن جاعت الأرض
وافتقدت خبز أبنائها
وطوى الصمتُ بؤسَ الكلام
الذي ظل يحرث في البحر
أوهامَهُ
ويبعثر أحلام أمتهِ
في الهواء .
* * *
دثّريني
فإني أرى القبر
أوسعَ من هذه الأرض
أوسع من بحرها
وأرى فيه شمساً
أحَنّ وارأف من هذه الشمس
أشهد فيه نجوماً ملونةً
وملائكةً في الفضاء المديد
تصلي
وتغسل بعض ذنوب البشرْ .
* * *
دثّريني
فإن أبي … اخوتي
في انتظاري
وأصحابي الأوفياء ،
وأمي التي حين غابتْ
وغاب سناها
تمنيت لو أنهم حملوني
على نعشها
وانتهت عندها قصتي
في الحياةْ .
* * *
دثّريني
دعيني أعانق في شغفٍ صحوة الأبدية
أرحل عن وطنٍ بائس الأمس واليوم
فيه تموت العصافير جوعاً وتسمن فيه الذئاب
وما كتبته يدي ليس إلاّ صدى شجنٍ حارقٍ
وبكاءٍ من الكلمات
على بلدٍ كنت أحسبه بلداً
وعلى أمةٍ كنت أحسبها أمةً
ظِلُها كان يمتد من ماءِ تطوان
حتى سماءِ الخليجْ.

صوفية
_________
قال لي قبل أن تتوارى أشعتهُ :
الطريق طويلٌ ،
مشقاتُه ليس تُحصى ،
ولكنه كلما طال
ضوأتِ الروح
وأخضرّ ليلُ تراتيلها
وبدا من بعيدٍ
مقام الذين رووا بالدموع السخينةِ
أشجارَ توبتهم ،
في البراري أقاموا الصلاةْ .

كنت أعرف من قبل
أن الطريق طويلٌ
ووعرٌ
ولي جسدٌ لا يطيق المشقّات
لكن روحي التي أشّرفتْ
واستنارتْ
أبت أن تعود
إلى حيث كانت محاصرة
ومسمّرةً في الوحولْ.

قبل أن تتوجه روحي
إلى الله
في رحلة الأبدية
كانت على ثقةٍ أنه سوف يقبلها
ويدثّرها بالحنان الكريم
ويغسلها من غبار الأسى
ويعيد إليها –وقد نَسيتْ نفسها-
نعمةَ الإدّكار
لتعلم أن قد غدتْ
في النعيم المقيمْ .

منذ جئت إلى هذه الأرض
طفلاً
بلا لغةٍ
وبلا قوةٍ
كنت أدري بأن الذي شاءَ
أن يكسوَ العظم لحما
وأن يهبَ الجسم روحاً
سيبقى إلى جانبي
ويكون معي
ويُطمئن أحلامي البائسةْ .

حين تفتقد الروح
إيمانها
وتشك بأن الذي كان
يرعى خطاها
وحيث تكون يكونْ
قد تخلىّ…
وما عاد يحرسها
من ذئاب الظنونِ
وليل الجنونْ
فأنىَّ تتوب إلى ربها
وإلى أين تلقي عصاها

جسدي محنةُ الروح
ترفعهُ
وهو يخفضها
وتطير به في معارج
قدسيةٍ
حيث لا أعينٌ قد رأتْ
لا ولا أذنٌ قد وعتْ
وهو يحملها هابطاً
نحو عالمه الواقعي
المهين.

قبل أن تكشف الشمس
حزني
وتفضح ما خبأ الليل
من حسرتي واكتئابي .
كانت الروح تدري
بأن الذي خلق الشمس والليل
أدرى بما بي
ويسمع صوت دموعي
ويفتح لي ألف بابٍ
وبابِ.

نــــــداء
_________
إلى محمود درويش في الذكرى الثامنة لرحيله

محمود
قُمْ وانفضْ تراب القبر
واخرج كي ترى
يكفيك يا محمود موتاً
يكفيك نوماً
وأنفض تراب الموت
يا محمود
ثم أحفر على الجدران
والأبواب:
ماذا بعد ؟
إن الطقس حيث تنام
مقبولٌ
وإن الطقس في وطن العروبة
لاهبٌ
يشوي الحجارة والعظامْ،
* * *

محمود،
قم ما زلتَ حياً،
وهنا ثيابك
لم تزل مكويّةً
وأنيقةً
وهناك يا محمود
عند سريرك الخالي
كتابٌ ربما قد كان
آخر ما قرأت
وفي حواشيه كلامٌ
غير مكتملٍ
وأوراق تئن
وتشتكي لسريرك الخالي
من الصمت المخائل
والفراغ.
* * *
محمود
صار الليل،
ليل الحزن والآهات
مكتملاً
فقد ضاع الفراتُ
وضاع دجلة
والشحوب يلف وجه النيل
ما أقسى الزمان!
الأرض يا محمود
تنزف
والضحايا من بني الإنسان
يتلو بعضها بعضا
وتأكل بعضها بعضا،
فقمْ، لا تعتذر
فالوقت يستدعي
حضورَكْ .
* * *

محمود
قم كثرتْ قضايانا
وما عادت قضيتنا الكبيرةُ
غير جرحٍ غائرٍ
في العمق
عند بقيةٍ ممن يرون
بأنها كانت
وسوف تظل مفتاح القضايا
كلها،
لا دَمّ يا محمود سوف يجفّ
إن بقيت قضيتنا الكبيرة
خارجَ المعنى
وبين مقوساتٍ من كلامٍ
مائعٍ
يغتاله “الخبراء”
عاماً بعد عام.
* * *
الناس يا محمود
جوعى خائفون
الخبز شحّ
الأمن شحّ
سماؤنا جفّتْ
وما عادت –كما كانت-
تمد حقولنا ماءً
وصارت –يالهول الأمر-
تمطرنا جحيماً لاهباً
والأرض ما عادت –كما كانت-
حقولاً تنبت الزيتون

والرمان
بل ميدان حربٍ تزرع القتلى
تعال.. تعال
وانظر ما جرى للأرض
والإنسان.
* * *
محمود
حتى الله –جل الله-
أغلقَ بابهُ
ما عاد يسمع حزننا
وأنين جرحانا
لأن ذنوبنا
حجبتهُ
حالتْ دون رحمتهِ
وأن صلاتنا صارت
لغير الله،
للحكام
والأصنام،
صارت للبنوك
وللبيوت النافذةْ .

لتحميل الملف PDF

شخصية العدد ملف.docx